الدرس 80

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تقدم: أنّ شمول الخطاب للعنوان الانتزاعي - وهو عنوان أحد الفردين أو الأفراد - تامٌ لتمامية المقتضي وعدم المانع.

فالمقتضي الإثباتي هو عموم العام. فإنَّ العام إذا ورد دلّ بظهوره على انحلال الخطاب لكل فرد من أفراده، فإذا جاء مخصص للعام دائر بين المتباينين سواء كانت الشبهة مفهومية أو مصداقية فالقدر المتيقن مما خرج عن عموم العام هو أحد الفردين، وبالتالي فمقتضى أصالة العموم بقاء شمول العام لأحدهما الآخر، فمثلاً: إذا قال خذ بخبر كل امامي، وقال في مخصص: لا تعمل بخبر الفاسق. ودار أمر الفاسق بين المتباينين أمّا مفهوماً: بأن تردد مفهومه بين الفسق اللساني وإن كان صحيحاً من ناحية العمل الجوارحي، وبين الفسق الجوارحي وإن كان ثقة لساناً، فإذا دار الأمر في مفهوم الفاسق بين المتباينين فنقول: بأنّ القدر المتيقن مما خرج عن العام وهو خذ بخبر كل امامي أحدهما، فيبقى أحدهما الآخر داخلاً تحته بمقتضى الإطلاق.

أو كانت الشبهة مصداقية: كما إذا كان مفهوم الفاسق واضحاً وهو من لم يكن ثقة في لسانه ولكن دار أمر الفاسق خارجاً بين زيد وبكر، فالخارج عن العام هو أحد الفردين وهو الفاسق الواقعي، فيبقى الآخر تحته، فلا موجب لرفع اليد عن أصالة العموم بمجرد أن حصل مخرج لأحد الفردين عن العام، ولذلك في العام المخصص بمنفصل مردد بين المتباينين يبقى العام حجة في أحدهما، ومقتضى حجيته في أحدهما أن لو كان الحكم إلزامياً وجب اكرامهما معاً تحفظاً على الموافقة القطعية لشمول العام لأحدهما، وهذا ينطبق على الموارد المجملة في علمي الرجال والحديث، مثلاً: إذا ورد لدينا حديثٌ تردد راويه بين شخصين أو تردد متنه بين لفظين، دخل في نفس الكبرى التي هي محل بحثنا، مثلاً: لو نقل الصدوق الخبر عن الصادق أنّه قال: «إذا نش العصير أو غلى حرم»، ونقل الكليني: «إذا نش العصير وغلى حرم»، فلدينا خبران متعارضان في متن معين. فيدخل البحث: هل أنّ دليل حجية خبر الثقة يشمل أحدهما أم لا يشمل كليهما لتعارضهما في النقل؟!، فشمول دليل حجية خبر الثقة لأحدهما داخل تحت مورد الكبرى، فلأجل ذلك نقول: إذا كان أحد المتنين إلزاماً والآخر ترخيصاً، فحينئذٍ قد يقال: لا أثر لشمول دليل الحجية لأحدهما؛ بالنتيجة: يكون المورد من موارد الشك في الإلزام، لأننا نقول القدر المتيقن من حرمة العصير ما إذا نش وغلى أو لو نش بدون غليان أو غلى بدون نشيش، فهو مشكوك الحرمة، فلا أثر لشمول دليل الحجية لأحدهما.

أمّا إذا افترضنا أنّ المتن مشتمل على حكم إلزامي على كل حال، كما إذا ورد في أحد الخبرين «إذا نش العصير حرم» وورد في الآخر «إذا غلى العصير حرم»، فكلا المتنين يتضمن حكماً إلزامياً، ففي مثل هذا الفرض شمول دليل الحجية لأحدها له أثر لأن نتيجة شمول دليل الحجية لأحدهما قيام حجة على أنّ أحد الأمرين محرّم أما النشيش أو الغليان، ومقتضى قيام الحجّة على ذلك: وجوب الموافقة القطعية باجتناب كليهما.

وكذلك الأمر لو تردد الراوي: إذ تارة يقول: عن بريد عن عبدالله بن سنان، وفي رواية أخرى يقول: عن محمد بن سنان؛ فتردد الراوي؛ فإذا كان كلا الراويين ثقة فلا معنى لأن يقال تعارض النقلان فتساقطا، بل يقال: قامت الحجة على أنّ الثقة روى عن المعصوم مع غمض النظر عن كونه محمد أو عبدالله فيترتب عليه أثر الحجية.

أمّا لو فرضنا أنّ أحدهما ثقة والآخر ليس بثقة، كما لو لم نبن على وثاقة محمد بن سنان فقد يقال شمول دليل الحجية لأحدهما مما لا أثر له. إذاً: المقتضي لشمول دليل الحجية تامٌ، وهو أصالة العموم؛ وهذا ما صرّح به سيّدنا في بحث الخمس، وإنّما الكلام في المانع.

ونقتنص من كلماتهم عدة موانع في شمول الخطاب للعنوان الانتزاعي أي عنوان أحد الأفراد أو الفردين:

المحذور الأول: أن يقال: بأنّ شمول الخطاب للأحد يعني أنّ الأحد هو موطن المنجزية والمعذرية، فإنّ أثر شمول الخطاب المتضمن لحكم الزامي أو ترخيصي هو ترتب إما المنجزية أو المعذرية؛ فإذا قلنا بشمول الخطاب لعنوان أحدهما كان عنوان أحدهما موطن المنجزية والمعذرية، والمفروض أنّ عنوان الأحد انتزاعي مشير والعنوان الانتزاعي المشير لا نفسية له، فلا يقبل أن يكون منجزاً في نفسه أو معذراً كذلك.

وهذا ما يظهر من بعض كلمات السيّد الأستاذ «دام ظله»، وعليه لا وجه لشمول الخطاب لعنوان الأحد، وهذا المحذور لا يشمل العناوين الإجمالية وإنّما يختص بالانتزاعية الملحوظة على نحو المشيرية، ولذلك فصلّنا الخطاب بين شمول الخاطب للعناوين الإجمالية وبين شموله للعنوان الانتزاعي وهو عنوان أحد الفردين أو أحد الأفراد.

المحذور الثاني: أن يقال: بأن العنوان الانتزاعي مما لا مصداق له وهذا ذكره سيّدنا الخوئي في بحث التعارض في «مصباح الأصول، ص443»: بدعوى: أنّ دليل الحجية أو دليل الأصل العملي إنّما يشمل عنواناً ذا مصداق، فيقال يشمل هذا الإناء أو هذا الإناء، وأمّا شموله لعنوان الأحد فالأحد مجرد عنوان انتزاعي يعني مصطنع عقلاً وإلّا فليس له مصداق خارجي، وإنّما المصاديق للعناوين التفصيلي كعنوان زيد وبكر، وحينئذٍ: إذا لم يشمل الخطاب العناوين التفصيلية كما إذا فرضنا أنّ دليل أصالة الطهارة لا يشمل إناء باء ولا إناء ألف للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما لم يشمل عنوان أحدهما لأنّه لا مصداق له.

المحذور الثالث: أنّ عنوان الأحد إمّا أن يلحظ على نحو الاستقلال أو مندكاً فانياً فيها؛ فإن لوحظ عنوان الأحد مستقلا: أي يدعى أنّ الخطاب له نحوان من الشمول: 1 - شموله للافراد بعناوينها التفصيلية. 2 - وشموله لعنوان الأحد أي شموله للأفراد بعناوينها التفصيلية وله شمول اخر لعنوان الاحد. فلازم ذلك التغاير بين موطن الحكم وموطن أثر الحكم، لأنّه إذا قال «اكرم كل عالم» ولم يشمل «اكرم عالما» زيد ولا بكر للعلم الاجمالي بفسق أحدهما لكنه يشمل عنوان أحدهما، فلازم ذلك: أنّ ما هو موطن الحكم الواقعي وهو وحوب الإكرام هو الفرد الواقعي للعالم غير الفاسق، وما هو موطن الأثر من المنجزية والمعذرية هو عنوان الأحد، فلزم التغاير بين ما هو موطن الحكم وبين ما هو موطن الأثر، لأنّ الأثر من المنجزية والمعذرية تابع للحكم فيترتب على موطنه.

أمّا إذا لوحظ عنوان الأحد مجرد فان ومندك في الأفراد الخارجية، فشمول الخطاب للأفراد بلحاظ عنوانيها التفصيلية وشموله لها بلحاظ العنوان الانتزاعي يلزم منه شمول الخطاب للفرد بلحاظين متداخلين، وشمول الخطاب للفرد بلحاظين متداخلين مستهجن، لأنّه إذا شمله بعنوانه التفصيلي فلا معنى لأن يشمله بعنوانه الانتزاعي، إذ لازم ذلك الجمع في مقام الشمول بين لحاظ الفرد بلحاظين متداخلين ولحاظ الموجود بلحاظين سواء كانا متقابلين أم متماثلين، أما ممتنع أو يحتاج إلى مؤنة وقرينة. فبمقتضى هذه المحاذير المزعومة: أدعي أنّ دليل الخطاب سواء كان مفاده حكماً ظاهرياً أو واقعياً سواء كان مفاده الحجية أو نفس الحكم أدعي وجود المانع من شموله للعنوان الانتزاعي وهو عنوان الأحد، وإن كان المقتضي للشمول وهو أصالة العموم تاماً.

ولكن مقتضى التأمل اندفاع هذه المحاذير:

أولاً: أنّ المدّعى هو أن الخطاب ليس له إلّا شمول واحد وإنحلال واحد، وهو شموله لنفس الأفراد الواقعية، غاية ما في الباب أنّ تلك الأفراد الواقعية تارة تنكشف لنا بعنوانها التفصيلي، وأخرى بالعنوان الانتزاعي. فالتعدد في الانكشاف لا في الشمول والانحلال؛ فنقول: إن لم يشملها الخطاب حين انكشافها لنا بالعنوان التفصيلي لوجود محذور فالخطاب شامل لها عند انكشافها بالعنوان الانتزاعي، لا أنّ للخطاب شمولين وانحلالين كي يدّعى أنّ ذلك غير تام، المدّعى هو شمول الخاطب لنفس الأفراد، فإن كان هناك محذور حين انكشافها بالعنوان التفصيلي لم يكن هذا المحذور عند انكشافها بالعنوان الانتزاعي.

ثانياً: إنّ ثبوت المنجزية والمعذرية لعنوان الأحد على نحو الواسطة في الثبوت لا في العروض، أي: ليس المتصف بالتنجز والتعذر هو عنوان الأحد العنوان الانتزاعي، وإنّما هو واسطة، أي: شمول الخطاب لعنوان الأحد صار واسطة في ثبوت المعذرية والمنجزية لنفس الحكم الواقعي، لا أنّ موضوع المنجزية نفس عنوان الأحد فلو لوحظ عنوان الأحد حيثية تقييدية لصح أن يقال بأن موطن المنجزية غير موطن الحكم الواقعي، أمّا إذا لوحظ حيثية تعليلية أو واسطة في الثبوت أي مجرد ناقل للمعذرية والمنجزية إلى نفس مورد الحكم الواقعي فحينئذٍ اتحد المصب.

والحمدُ لله ربِّ العالمين