حدود الحرية في الإسلام

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة، نتحدث عن مبدأ الحرية:

هناك مجموعة من الأقلام تناولت مفهوم الحرية، وذكرت أن الإسلام لا يعطي الفرد حق الحرية، الإسلام لا يعطي الفرد حرية التعبير، والحرية السلوكية. نحن نلاحظ أن الإنسان إذا أعلن معارضته لمبدأ من المبادئ الإسلامية، كما لو قال: أنا لا أعترف بأن سهم المرأة في الإرث نصف سهم الرجل، أنا أنكر ذلك. ولو قال الإنسان: أنا لا أعترف بحرمة الربا، أنا لا أعترف بوجوب الحج، يُحكم بارتداده، تبين زوجته، وتقسّم تركته، وإذا كان الحاكم الشرعي مبسوط اليد، يقيم عليه حد القتل إذا كان مرتدًا فطريًا - يعني عن أبوين مسلمين - فلماذا الإسلام يصادر حرية الإنسان في التعبير عن رأيه؟ في التعبير عن قناعته؟ لماذا الإسلام يصادر حرية الإنسان في المجال السلوكي؟

لو أراد الإنسان أن يقيم علاقةً مع فتاة أجنبية، وكانت الفتاة راضيةً ومحبةً لهذه العلاقة، فلماذا يمنع الإسلام من ذلك؟ ويفرض على الطرفين عقدًا وإلا فلا علاقة؟ هذه مصادرة للحرية السلوكية. مادام الطرفان مقبلان ومقتنعان وراضيان بالعلاقة، فلماذا يلزم الإسلام بعقد وإلا فلا؟ الإسلام لماذا لا يعطي الفرد الذي يعيش في المجتمع الإسلامي حق الحرية في التعبير عن رأيه؟ حق الحرية في اختياراته؟ حق الحرية في سلوكه؟

إذن نحن أمام اتجاهين، الاتجاه القائل بأن الحرية ينبغي أن تفتح أبوابها، والاتجاه الثاني الذي يرى بأن للحرية حدودًا وقيودًا يجب أن تُراعى. الاتجاه الأول، ما هي أدلته؟ ما هي مبرراته؟ نحن نتعرض الآن للأدلة التي يتباها أصحاب الحرية القائلين بالحرية المطلقة:

الدليل الأول: الحرية نزعة ذاتية عند الإنسان، نزعة أصيلة عند الإنسان، لو سُلب الإنسان حريته، فقد سُلب إنسانيته، الحرية تساوي الإنسانية، إذا فقد الإنسان حريته، فقد إنسانيته، أي فرق بين الإنسان وبين الحجر؟ الحجر لا يملك حريةً، لو أن الإنسان سُلبت منه حريته أصبح حجرًا ولم يصبح إنسانًا. إذن، الحرية نزعة أصيلة في ذات الإنسان فقدانها يعني فقدان الإنسانية. هذا هو الدليل، فكيف نناقشه؟

نحن نقول: هذا الدليل خلط بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية، ما هو الفرق بينهما؟ الحرية الطبيعية هي حرية وهبتها الحياة، حرية مكتسبة من الحياة، فلذلك كل مخلوق بمقدار نصيبه من الحياة، له نصيب من الحرية، الحرية مستقاة من الحياة، فحريتك بمقدار حياتك. على سبيل المثال: الحجر لا حرية له، يُرمى إلى الأعلى، إلى الأسفل، الحجر لا حرية له، لماذا؟ لأنه لا حياة له، لو كان له نصيب من الحياة، لكان له نصيب من الحرية، النبات يملك حياةً، يملك نموًا، إذن النبات يملك حريةً، كيف ذلك؟ لو جعلنا سقفًا أمام نباتٍ ينمو، إذا وصل النبات إلى السقف، ماذا يصنع، يحاول أن يلتف على السقف، وينمو إلى جوانب السقف. إذن، النبات يملك مقدارًا من الحرية، يملك قدرةً على التكيف مع البيئة التي ينمو فيها، ويعشب فيها.

الحيوان يملك حياةً أكبر، يمللك إحساسًا، يملك حركةً. بما أنه يملك حياةً أكبر؛ إذن هو يملك حريةً أكبر، فالحيوان يملك حرية في إشباع ميوله، في إشباع غرائزه، في إشباع شهواته.

الإنسان يملك حياةً أكبر من حياة الحيوان، يملك طاقة التفكير، طاقة الإبداع والتغيير. إذن، الإنسان يملك نصيبًا من الحرية أكبر من الكائنين السابقين، الإنسان هو الوحيد القادر على قمع شهوته، وقمع غريزته، لا يستطيع الحيوان أن يقمع شهوته، لا يستطيع الحيوان أن يتحدى غريزته، لكن الإنسان قادر على ذلك لأنه يملك حياةً أكبر، يملك حريةً أكبر. إذن، هو قادر على قمع الغريزة، على قمع الشهوة، وعلى تحدي النزعات الداخلية.

إذن، المخلوق نصيبه من الحرية بمقدار نصيبه من الحياة، هذا ما يُسمى بالحرية الطبيعية، الحرية التي وهبتها الحياة، وهبتها الطبيعة. الإنسان يفكر بحرية، يحب بحرية، يفرح بحرية، يحزن بحرية، يبغض بحرية، الإنسان يعيش حريةً طبيعيةً وهبتها الحياة، هذا لا كلام فيه، الكلام كل الكلام في الحرية الاجتماعية، ما معنى الحرية الاجتماعية؟

الحرية الاجتماعية هي الحرية التي يهبها المجتمع للفرد ولكن على أساس الموازنة بين الحقوق، على أساس المعادلة بين الحقوق. المجتمع لا يهبك حريةً مطلقة، يهبك حريةً على أساس الموازنة والمعادلة والمكافأة بين الحقوق في جميع أنظمة العالم، في الأنظمة الوضعية والأنظمة السماوية، في جميع قوانين العالم.

لا يعطيك قانون حريةً مطلقة، يعطيك حريةً عل أساس توازن الحقوق وتكافئها، نضرب مثالًا: لو قال إنسان: أنا من حقي إذا تزوج أخي أن أطلق الرصاص في الهواء وأن أعبث بالمسدس كيفما أشاء، فالمجتمع يقول له: أنت من حقك ان تعبر عن هوايتك في إطلاق الرصاص، ولكن من حق أبناء المجتمع أن يعيشوا حياةً آمنة، فمن أجل الموازنة بين الحقوق، نقول: حريتك في ممارسة هوايتك محدودة بألا تكون بين أبناء المجتمع.

نرجع لنفس المثال الذي نحن ذكرناه، ما هو؟ أنا أحب الأنثى، وهذا ليس عيبًا، الرسول الأعظم محمد يقول: ”أحب من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة“ أنا أحب الأنثى، وأريد أن أعبر عن ميولي تجاه الأنثى، فأنا أقيم علاقةُ مع الفتاة الأجنبية، من خلال ”الشاتنق“ أو الجوال أو أي نفاذة أخرى، لأمارس حريتي في التعبير عن ميولي، وفي التعبير عن مشاعري، وفي التعبير عن عواطفي.

نقول نعم هذا حقك، أن تعبر عن مشاعرك وعن عواطفك، ولكن هناك حق آخر، حق المرأة في الأمن النفسي، ما معنى الأمن النفسي؟ كل إنسان وخصوصًا المرأة، يحتاج إلى الأمن الداخلي، أي يحتاج إلى استقرار العواطف، يحتاج إلى استقرار المشاعر، يحتاج إلى حياة نفسية مطمئنة.

يقول علماء الاجتماع: المرأة لا يمكنها أن تعيش استقرارًا نفسيًا وهدوءًا في مشاعرها، إلا إذا كان هناك ضمان بأن الطرف الآخر - وهو الرجل - يرعاها ويحنو عليها. ما لم تضمن المرأة ذلك، فإنها تعيش اضطرابًا في مشاعرها، المرأة ما لم تضمن أن الطرف الآخر - وهو الرجل العاشق المحب - ملزم بأن يرعاها، ملزم بأن يحنو عليها، ملزم بأن يغمرها بدفئه العاطفي، ما لم تضمن ذلك، فإنها تبقى مضربة المشاعر، ومضربة العواطف وغير متوازنة.

فما هو الحل؟ كيف نجمع بيين حقك أيها الشاب الوديع في حبك للمرأة وميولك إليها، وبين حق المرأة في استقرار مشاعرها واستقرار عواطفها، وأن تعيش حياة نفسيةً مطمئنةً، كيف نجمع بين حقين؟ لا يجمع بين الحقين إلا العقد والميثاق، إذا صار بينكما عقد، اطمئنت المرأة بأن هناك ما يُلزم الطرف الآخر بأن يحنو عليها ويعطف عليها إذا لم يكن بينه وبين المرأة عقد، فإنه يتنقل كل يوم بين عشرات الفتيات، ويخدعهن بكلماته المعسولة، والرجال مهرة في الخداع.

إذن، لا يمكن للمرأة أن تضمن بأن الرجل الذي يتكلم معها وينفتح عليها، محب عطوف، يغنيها ويغني مشاعرها، إلا إذا كان هناك ما يلزمه، وما الذي يلزمه؟ العقد والميثاق. إذن، فالإسلام عندما يقول لك لابد من العقد، حدد حريتك الاجتماعية، ولكن حددها في ماذا؟ حددها على أساس الموازنة بين الحقوق، وعلى أساس المعادلة بين الحقوق.

عندما يقول إنسان: أنا من حقي، أنا شاب مراهق، وأنتم تعرفون أن المراهق يحمل طاقةً نفسيةُ عملاقةُ، كيف يفرغها؟ وكيف يعبر عنها؟ أنا لا أستطيع أن أعبر عن طاقتي إلا عندما أفحط بالسيارة أو الدباب يمينًا وشمالًا، صاعدًا ونازلًا، حتى أعبر عن طاقتي وعن قدراتي، وعن ملكاتي الفنية الرائعة. قد أنتم لا تستذوقون ذلك، ولكنها ملكات فنية، وطاقة أعبر عنها، أليس كذلك؟ فأنا من حقي أن أعبر عن هوايتي بالتفحيط، فما هو الجواب؟

نعم لك حق، أنت عندك طاقة لك حق أن تفرغها، لك حق أن تعبر عنها، ولكن للمجتمع أيضًا حق في أن يعيش استقرارًا في نظامه وحياته. فمن أجل الموازنة بين الحقوق، عبِّر بالتفحيط والتشحيط، في أي وادٍ، ولا يلزم أن تعبر عن ذلك بين البيوت، والشوارع الرئيسية التي تكتظ بالسكان والمارة، عبِّر عن طاقتك ولكن، بين النخيل، أو مثلًا في البراري والقفار، وهكذا. إذن، حريتك الاجتماعية منوطة بالموازنة بين الحقوق.

في زمن النبي محمد ، كان لسمرة بن جندب عذق - يعني نخلة - في بيت أحد الأنصار، أهل المدينة، الأنصاري يملك الأرض، وسمرة يملك النخلة، ونحن نعرف في الفقه مسألة فقهية: من ملك شيئًا، ملك حق الاستطراق إليه. أنا لو ملكت غرفة في بيت، فلي حق الاستطراق إلى غرفتي، سمرة يملك عذقًا، إذن يملك حق الاستطراق إلى نخلته وعذقه. وإذا بسمرة يأتي كل يوم، وبلا استئذان، ويدخل بيت الأنصاري ليصعد على النخلة، ويأكل رطبها، ويستمتع بتمرها، من دون مبالاة بحال هذا الأنصاري.

أقبل الأنصاري إلى رسول الله ، وقال: يا رسول الله، إن سمرة يدخل علينا بلا إذن، ونحن نكره أن يدخل علينا في حال لا نريد أن يرانا عليها.

استدعاه الرسول ، قال: ”يا سمرة، إذا أردت أن تدخل بين الأنصاري، فاستأذن“، فقال سمرة: كيف أستأذن يا رسول الله، وأنا لي حق الاستطراق، كيف أستأذن وأنا لي حق الدخول على عذقي؟!، قال: استأذن يا سمرة!، قال: لا، أصر على عدم الاستئذان.

شكاه الأنصاري مرةً أخرى، فاستدعاه النبي ، قال: يا سمرة، استأذن!، قال: لا.

قال : إذن، أعطه عذقك، وأنا أعطيك مكانه عذقًا آخر. قال: لا.

قال : أعطه عذقك، وأنا أعطيك عذوقًا. قال: لا.

قال : أعطق عذقك وأنا أعطيك مكانه عذقًا في الجنة. قال: لا أريد.

قال : يا أنصاري، اذهب واقلعها وارمي بها في وجهه، فإنه رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن".

إذن هناك حقان: حق سمرة في الاستمتاع في عذقه، وحق الأنصاري في رعاية عرضه. الرسول لما رأى تزاحمًا بين الحقين، قدم الأهم على المهم، فلم يمنع سمرةً حقه، ولكن أمره بالاستئذان، حقك لك، ولكن استأذن.

إذن، النظام الاجتماعي يعطيك حريةً، ولكن يعطيك حريةً على أساس الموازنة بين الحقوق. إذن، وصلنا إلى نتيجة وهي: هناك فرق بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية. الحرية الطبيعية، لا يمكن منعك عنها، أنت تفكر ولا أحد يدري، أنت تحب وتبغض ولا أحد يدري عنك، أنت تتحدث بينك وبين نفسك بآلاف الأحاديث، ولا أحد يعلم عنك، الحرية الطبيعية لا يستطيع أحد منعك عنها. أما الحرية الاجتماعية فنظامها وميزانها: الموازنة بين الحقوق، في جميع أنظمة العالم الأرضي.

الدليل الثاني: إن للإنسان أبعادًا متعددة:

1 - بعد عقلي، يفكر من خلاله، ويتوصل إلى المجهولات عبر توسيط المعلومات.

2 - بعد نفسي، وهو من خلاله يفرح أو يحزن، أو يحب أو يكره.

3 - بعد جمالي، وهو أن الإنسان يدرك الجمال فيلتذ به، ويدرك القبح، فينفر منه.

4 - بعد ديني.

هؤلاء يقولون - مثل كانت - البعد الديني متأصل في الإنسان، يعني منذ أن ولد الإنسان على الأرض، ولد معه البعد الديني، كما ولد معه البعد العقلي والنفسي والجمالي، لأن الإنسان بطبعه حسب ما يقول كانت يخاف من الطبيعة، ومن كوارثها، ومن الأمراض، ومن الوحوش، لذلك آمن بالدين كعلاج لعقدة الخوف، الدين أصيل في الإنسان.

إذن، كما أن الإنسان، حر في بعده العقلي، يفكر كما يريد، حر في بعده النفسي، يحب كما يريد، حر في بعده الجمالي، ينفر ويرتد كما يريد. إذن، هو حر في بعده الديني فاتركوا الإنسان ودينه، دعوا الإنسان يدين بأي دين، دعوه يعبر بما يريد. لماذا هذه الحملات الشعواء؟ ألأن الإنسان عبر عن رأيه؟ أنكر وجوب الحج؟ أو أنكر التفصيل بين ميراث المرأة وميراث الرجل؟ أو أنكر نبوة النبي ؟ أو أنكر عصمة الزهراء - -؟ أو أنكر ولاية الإمام؟! لماذا؟ دعوا الإنسان يعبر عن رأيه، فليكن حرًا في البعد الديني، كما هو حر في الأبعاد الأخرى.

الجواب عن هذه المناقشة: هناك فرق بين الحاجة الذوقية والحاجة الواقعية. الحاجة الذوقية، تختلف باختلاف البشر، لأن الأذواق تختلف باختلاف البشر. مثلًا: حاجة الإنسان إلى نوع اللباس، هناك من يتذوق الثوب السعودي، وهناك من يتذوق الثوب الكويتين وهناك من يتذوق الثوب الهندي، وهناك من يتذوق الثوب الصيني، وهكذا.

اختلاف الأذواق يفرض اختلاف الاختيارات، فالإنسان حر ومختار، في ماذا؟ في حاجته الذوقية، يشبعها كما يريد، ولا أحد يقف أمام ذلك. وهناك حاجة واقعية، حاجة لا تختلف باختلاف الإنسان، ولا تتغير بتغير الإنسان، حاجة الإنسان إلى الصحة، هل تتغير؟ جميع البشر يحتاجون إلى الصحة، هذه حاجة واقعية، حاجة الإنسان إلى التعليم، هل تتغير؟ جميع البشر في كل زمان، في كل حضارة يحتاجون إلى التعليم. إذن، حاجتك إلى التعليم تختلف عن حاجتك إلى كيفية اللباس، حاجتك إلى كيفية اللباس ذوقية، وحاجتك إلى التعليم واقعية، أنت حر في الأولى، ولست حرًا في الثانية.

لماذا؟ لو قال إنسان، أنا لا أريد الصحة، بل أريد المرض، ماذا يقولون له؟ يقولون: أنت مجبور على أن تلتزم بقوانين الصحة. القانون في دول العالم يفرض على المواطن رعاية: قوانين الصحة، البيئة الصحية، البيئة النقية، الطرق الوقائية، هذا قانون إنساني. لو قال مجتمع من المجتمعات: نحن لا نريد الصحة، نريد الإيدز! هل يتركونهم في حالهم، يقولون: لا، بل يُفرض عليهم القوانين التي تقيهم من هذا المرض. هذا ليس مجالًا للحرية، هذه ليست حاجةً ذوقيةً، هذه حاجة واقعية، القانون الاجتماعي يلزمك بها.

لوقال مجتمع من المجتمعات: نحن لا نريد العلم، العلم شيء ثقيل مضغوط، نحن نريد الجهل، لا نريد أساتذة ولا معلمين، نريد أن نبقى جهلة. ماذا يقولون لهم؟ المادة 26 من قانون حقوق الإنسان في الأمم المتحدة: التعليم إلزامي، خصوصًا في المرحلة الابتدائية، إذن التعليم حاجة واقعية ولا مجال للحرية فيه.

عرفنا ما هو الفرق بين الحاجة الذوقية والحاجة الواقعية، هل حاجتنا إلى الدين ذوقية، أم واقعية؟ حاجتنا إلى الدين حاجة واقعية، لماذا؟ ليس الدين عبارة عن طقس، بعضهم يرى أن الدين هو الطقس، هناك من يعبد البقر، وهناك يعبد الفأر، حتى في إيران في يزد، هناك جماعة، التلفزيون مرة استعرض أحوالهم، هناك من يعبد العضو التناسلي للرجل أو المرأة، برفسور، دكتور، ليس الدين هو هذا الطقس، هذا مظهر، هذه طريقة تعبير، الدين فلسفة للحياة، الدين عبارة عن فلسفة للحياة، كيف؟

الدين عبارة عن مفاهيم ثلاثة:

1 - من هو مبدأ الدين ومن هو منتهاه؟

2 - ما علاقتي أنا كإنسان بمبدأ الكون؟

3 - ما علاقتي أنا الإنسان بالكون؟

الدين عبارة عن هذه المبادئ الثلاثة، عبارة عن هذه العناصر الثلاثة، أسئلة ثلاثة هي الدين، دينك يعني فلسفتك للحياة، إذا كنت ترى للكون مبدأَ عاقلًا، ومنتهى عاقل ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، ﴿إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ أنت ترجع إلى الله، إذا كنت ترى أن هناك مبدأً عاقلًا وهناك منتهى، ورد عن الرسول محمد : ”رحم الله عبدًا عرف من أين وإلى أين وفي أين“ إذن، سلوكك في الحياة يكون على ضوء فلسفتك للحياة، نحن عندنا مدرستان:

1 - مدرسة مادية، تقول: ليس للكون مبدأ عاقل، أنت وُجِدت والكون وُجِد، المدرسة المادية تقول: أنت أصيل في هذا الكون، بما أنك أصيل، إذن، حدد سلوكك في الحياة على أساس الأصالة.

2 - مدرسة روحية، تقول: أنت لست أصيل، هناك مبدأ لهذا الكون وهو قوة عاقلة، وهي نفسها المنتهى، أنت خليفة عن المبدأ، أنت لست أصيل، أنت خليفة عن المبدأ، أنت نائب عن المبدأ، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً إذن، حدد سلوكك في الحياة على أساس الخلافة، لا على أساس الأصالة.

فالدين فلسفة وإتجاه، على أساسه تحدد سلوكك وقيمك. إذن، حاجتك إلى الدين حاجة واقعية، لأنها حاجة لفلسفة الحياة، حاجة لفسفة يُبنى عليها السلوك، فهي حاجة واقعية، وليست ذوقية. ولذلك كما لا حرية لك في الصحة، لأنها حاجة واقعية، ولا حرية لك في التعليم لأنه حاجة واقعية، لا حرية لك في فلسفة الحياة، لأنها حاجة واقعية. لو قال إنسان: أنا لا أريد أن أتفلسف ولا أريد أن أعرف شيئًا ولا أريد أن أحدد سلوكي ولا أريد أن أحدد مصيري، نقول: لا، أنت ملزم بأن تتعرف على مبدأ الكون ومنتهاه، وعلاقتك به، وعلاقتك بالكون، لأن ذلك دخيل في تحديد سلوكك.

الدليل الثالث لمبدأ الحرية المطلقة:

قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، الله أعطانا الحرية، وأنتم تمنعوننا عنها، وأنتم أيها الفقهاء تكممون أفواهنا، وتسدون أفواتنا. الله قال في كتابه: ﴿ذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ، وقال في كتابه: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وأنتم تجادلوننا بالتي أخشن! إذن، القرآن منحنا حرية، فلمذا تسلبوننا إياها؟!

إذن، من حقي أن أعبر عن رأيي، وأرفض أي قانون إسلامي، وأن أقول: أنا غير مقتنع بهذا القانون، ولا بهذا المعتقد، لأن القرآن قال: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ

كيف نجيب على هذه الشبهة؟

هنالك إجابتان:

الإجابة الأولى: ما يتعلق بالآية، في الآية تعبير كنائي كما يقول الأدباء، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ يعني لا نحتاج أن نكره أحد لأن الأدلة واضحة، هذا معنى الآية. الآية لا تتحدث عن حكم شرعي، الآية كما يقول الأدباء: إخبار، وليست إنشاء. الآية لا تتضمن تشريع، فليس مفاد الآية: يحرم عليكم أن تجبروا أحدًا على الدين، الآية لا علاقة لها بالحرمة، الآية تخبر عن حقيقة واقعة، عن حقيقة ثابتة، وهي أن دخول الدين إلى العقل لا يحتاج إلى إكراه، الدين يدخل ببرهانه، يدخل بأدلته، يدخل بمنطقه القوي، لا نحتاج أن نكره ونلزم أحد، الدين واضح بأدلته وبراهينه الساطعة ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌهذا معنى الآية.

الإجابة الثانية: كما ذكرنا في الدليل الأول، قلنا: هناك فرق بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية. إذن، هناك فرق بين التفكير وبين إعلان التفكير، مثلًا: أنا أفكر يمينًا وشمالًا، لا أحد يستطيع السيطرة عليّ، النفس منطقة حرة، النفس لا يمكن لأحد أن يسيطر عليه، النفس يستحيل أن يُسيطر عليها، في نفسي أفكر أنني وصلت إلى المريخ، وبنيت لي قصرًا فوق المريخ، لا أحد يسيطر عليّ، أفكر في عقلي بما أريد، وأحب من أريد، لأن مشاعري بيدي، عواطفي بيدي.

ورد عن أمير المؤمنين : ”لو ضربت خيشوم المؤمن على أن يبغضني، ما بغضني، ولو ضربت خيشوم المنافق بالسيف على أن يحبني، ما أحبني“

إذن، الحب والبغض والفكر، منطقة حرة لا يمكن السيطرة عليها، هذا ما نسميه بالحرية الطبيعية، أنت تفكر وتوصل للارتداد أو الكفر أو الزندقة أو التشكيك، هذه منطقة حرة، فكر كما تريد. المشكلة في الإعلان، إعلان الفكر، إعلان المعارضة، كأن تقول: أنا لا أقبل بوجوب الحج، أنا لا أقبل بنبوة النبي ، المشكلة في الإعلام لا في التفكير، أي أن المشكلة في الحرية الاجتماعية، لا في الحرية الطبيعية، ما هي المشكلة؟

المشكلة هي ما كما قلنا، يجب أن تكون الحرية على أساس الموازنة بين الحقوق، فهل هناك موازمة بين الحقوق أم لا؟

أنا من حقي أن أعلن عن رأيي وأسراري، هذا حق للفرد، ولكن من حق المجتمع ألا يعيش اختلافات ولا يعيش منازعات. كل مجتمع من حقه أن يكون مُوَحَّد متماسك من تشتيت الكلمة وتفريق الصف، وحمله على المواجهة والمصادمة، فهو يهدر حق المجتمع في الوحدة والتماسك. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ من حق المجتمع الوحدة والتماسك، كيف نجمع بين حقك في التعبير عن الرأي، وحق المجتمع؟

علماء الاجتماع «علم التاريخ الاجتماعي» يقولون: إن من أعظم عوامل الحروب على ممر التاريخ، من أعظم أسباب الحروب: الإساءة إلى المقدسات والرموز، هذا عامل كبير في خلاف المجتمع، عامل كبير في الحرب بين أبناء المجتمع. لذلك القرآن الكريم دقيق: «و لا تسبوا الذين كفروا فيسبوا الله عدوًا بغير علم» أنت إذا تسيء إلى رموزه، هو يسيء إلى رموزك، فالإساءة إلى الرموز عامل حرب وخلاف.

قالوا لأمير المؤمنين - - إن جيش معاوية ينال منك، فهل تأذن لنا أن ننال منهم كما نالوا منّا؟ قال ”إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، فلو وفبتم أعمالهم، وذكرتم أفعالهم، لكان أصوب في القول، وأبلغ في العذر“

إذن، من أسباب الاختلاف، ومن أسباب الحرب بين أبناء المجتمع الواحد: الإساءة إلى الرموز والمقدسات. من هنا نعرف ماذا يعني إعلان الارتداد، يعني عامل في تفريق المجتمع، لأني إذا أعلنت معارضتي لواجب مقدس كالحج أو الصوم، أو عقيدة مقدسة كنبوة النبي ، إعلاني يقود إلى انقسام المجتمع إلى قسمين، قسم يدافع عني، وقسم يحافظ على مقدساته ورموزه. فسيكون إعلان ارتدادي عامل انقسام وحرب، فلو فتحنا المجال للجميع ليعلنوا عن ارتدادهم، نكون بذلك

قد فتحنا باب الحروب الدينية، وفتحنا باب الصراعات الدينية، وفتحنا بابًا أمام أكبر عامل لهدم قوة المجتمع وتماسكه.

لذلك يقول الإسلام جمًعا بين الحقين - حقك في التعبير عن رأيك، وحق المجتمع في التماسك والوحدة -: عليك ألا تعلن إساءتك لمقدسات المجتمع، وإن فعلت ترتب على ذلك عدة أحكام. لذلك نلاحظ اختلاف مواقف الأئمة :

الإمام الحسن، ألم يُعارض؟ من قبل من؟ من قبل بعض شيعته. دخل عليه بعضهم وقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين، ودخل عليه بعضٌ آخر وقال: ليتك مت يا حسن ولم تبايع معاوية. معارضة الإمام المعصوم معصية محرمة، لكن الإمام الحسن ما حكم عليهم بالارتداد والفسق، ولم يطردهم من داره، وإنما احتضنهم واحتواهم وأجلسهم إليه، وأقنعهم بقراراته، وأقنعته بخطته، لمَ؟ لأن معارضتهم ليست معارضة لأصل الدين، لأن معارضتهم لم تكن بدوافع العناد والمكبارة، وإنما كانت بدوافع البحث عن الحقيقة والوصول إلى القناعة، لذلك فتح الأبواب لمناقشتهم، وقال: ”لو كان مثلكم عشرة، لحاربت بالسيف قِدمًا“

أما الحسين - - قال: لا أبدًا، أنا أرفض يزيد على كل حال، ولو استلزم بذل دم، ولو استلزم التضحية بنفسي وأهلي، لا مجال للحوار مع يزيد بن معاوية، هذا رفض بات! ”مثلي لا يبايع مثله“ لماذا؟ لأن معارضة يزيد تختلف، يزيد يعارض أصل الدين، يعارض أصل الإسلام، يزيد يقول:

لعبت هاشم بالملك فلا   خبرٌ جاء ولا وحيٌ iiنزل

إذن، يزيد شق عصا المسلمين لأنه أعلن ارتداده، لا الحسين الذي أدّى واجبه الشرعي بمحاربة المرتد ومواجهته.

فأبى  أن  يعيش  إلا iiعزيزًا
كيف يلوي على الدنيةِ iiجيدًا
قوّضي   ياخيام  عليا  iiنزار
واملأي  العين يا أمية iiنومًا


 
أو تجلّى الكفاحُ وهو iiصريعُ
لِسوى  الله ما لواه iiالخضوعُ
فلقد  قوّض  العمادُ  iiالرفيع
فحسينٌ على الصعيد صريعُ