الدرس 81

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تعرّض سيد العروة إلى فصل جديد، وهو: «فصل في أحكام الخلل في القبلة»، وعلّق عليه سيّدنا في «ج12، ص38».

قال سيد العروة:

«”مسألة1“: لو أخلّ بالاستقبال عالماً عامداً بطلت صلاته مطلقاً، وإن أخلّ بها جاهلًا أو ناسياً أو غافلًا أو مخطئاً في اعتقاده أو في ضيق الوقت فإن كان منحرفاً عنها إلى ما بين اليمين واليسار صحت صلاته».

وفي المسألة فروض: حيث إنّ الإخلال قد يكون: 1 - عن علم وعمد. 2 - عن جهل بالحكم أو بالموضوع عن تقصير أو قصور. 3 - عن نسيان أو غفلة. 4 - عن خطأ في الاعتقاد أو في الاجتهاد. 5 - عن ضيق الوقت عن التحرّي، كما لو كانت وظيفته الصلاة إلى الجهات الأربع ولم يسع الوقت لغير الواحد منها. فهنا صور لابُّد من التكلّم في كلّ منها».

الفرض الأول: مع العلم والعمد: فلا إشكال في البطلان، لانتفاء المشروط بانتفاء الشرط، فإنّه القدر المتيقن من دليل الاشتراط من الكتاب والسنة كما تقدم التي منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر : «أنّه قال له: استقبل القبلة بوجهك، ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن اللّٰه «عز وجل» يقول لنبيّه في الفريضة ﴿فوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ».

الفرض الثاني: - وهو محل البحث -: ما إذا أخل بالاستقبال جهلاً، قال سيّدنا: «فقد أطلق في المتن القول بالصحة في جميعها إذا كان الانحراف إلى ما بين اليمين واليسار تبعاً للمشهور. والظاهر أنّ المستند في ذلك - أي مستند القول بالصحة في مطلق صور الجهل - صحيحة زرارة عن أبي جعفر «قال: لا صلاة إلا إلى القبلة، قال قلت: أين حدّ القبلة؟ قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه» «حيث» دلّت على أنّ القبلة المعتبرة في الصلاة إنّما هي ما بين المشرق والمغرب على الإطلاق، خرج عنها صورة العلم والعمد، لاعتبار استقبال الكعبة حينئذ بالإجماع والنص فيبقى الباقي تحت الإطلاق».

أقول:

أي أنّ القبلة في فرض الجهل واسعة واقعاً لما بين المشرق والمغرب، فتكون هذه الصحيحة حاكمة على الصحيحة السابقة التي كان ظاهرها شرطية القبلة مطلقاً سواءً أكان عالماً أم جاهلاً، وهذه الصحيحة ظاهرها الحكومة على تلك الصحيحة وتوسعة القبلة لما يشمل ما بين المشرق والمغرب.

ومقتضى إطلاق الصحيحة الثانية: شمولها حتّى لفرض العلم، حيث قال: «قلت: أين حد القبلة؟»، فمنظوره: القبلة من حيث هي لا من حيث العلم والجهل، فأجأب: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كله». وظاهرها: أنّ هذه التوسعة شاملة حتّى لفرض العلم، ولكن سيّدنا قال في تقريب الصحيحة: حيث خرج فرض العلم للنص وللإجماع فيبقى فرض الجهل.

ثم أشكل سيّدنا على هذا الاستدلال بإشكالين طوليين - أي أحدهما تنزلي -:

الأشكال الأول: أن الصحيحتين متعارضتان، حيث في الأولى ذكر: «استقبل القبلة بوجهك»، و«لا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك».

وفي الثانية، قال: «لا صلاة إلا إلى القبلة، قال قلت: أين حدّ القبلة؟ قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه».

فتارة نقول: هذه الصحيحة «استقبل القبلة بوجهك، ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك» شاملة لفرض الجهل بإطلاقها.

وتارة ندّعي: أنّ الجهل قدر متيقن منها، والسر في أنّه قدر متيقن بحيث تكون هذه الصحيحة نصّاً فيه: أنّه مع فرض العلم بالقبلة لا حاجة إلى الأمر باستقبال القبلة وعدم تقليب الوجه عنها والحكم بالفساد المستلزم للإعادة، لأنّ العالم لا يتعمد الصلاة لغير القبلة، فلا حاجة لأن يقول له الإمام «استقبل القبلة بوجهك»، فالقدر المتيقن من صحيحة زرارة الأولى هو فرض الجهل لا أنّ شمولها لفرض الجهل بمقتضى الإطلاق.

بينما في الصحيحة الثانية ذكر في فرض الجهل: «أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة». ومقتضى التعارض بين الصحيحتين: تساقطهما.

الإشكال الثاني: قال سيدنا: «لو لم نقل بأنّ الترجيح مع صحيحة زرارة الاولى الدالّة على اعتبار استقبال المسجد الحرام لموافقتها مع الكتاب، فتدلّ على خلاف المطلوب. وعلى أي حال فالصحيحة الأولى لا تصلح‌ للاستدلال، فلابُّد في إثبات الحكم في كلّ مورد من التماس الدليل بالخصوص».

ويلاحظ على ما أفاده: أمّا بالنسبة إلى الاشكال الأول على كلام المشهور: فقد أفاد سيّدنا في «ج12، ص19»: ويتوجه عليه - أي على الهمداني الذي استدل بصحيحة زرارة الأولى على شرطية الاستقبال -:

أوّلًا: أنّ الصحيحة مورداً واستشهاداً ناظرة إلى بيان حكم آخر أجنبي عن محل الكلام. توضيحه: أنّ هنا بحثين:

أحدهما: في اعتبار الاستقبال في الصلاة مطلقاً، أو اختصاصه بالفريضة فقط، ونعني بذلك: لزوم إيقاع الأجزاء الصلاتية من التكبيرة إلى التسليم حال الاستقبال، فيبحث عن أنّ ذلك هل يختص بالفريضة أم يعم النافلة؟.

ثانيهما: في قاطعية الالتفات إلى الخلف أو اليمين أو الشمال أثناء الصلاة ولو في غير حال الاشتغال بالذكر - أي في الاكوان المتخللة -، وأنّها هل تبطل الصلاة به مطلقاً أو في خصوص الفريضة، وهذا بحث آخر لا يتكفله مجرد اعتبار الاستقبال في الصلاة بنفسها، بل يحتاج إلى دليل بالخصوص كما لا يخفى. وبالجملة: فهذان بحثان مستقلان. ومن هنا ذكرهما الفقهاء في مقامين: فذكروا: الاستقبال في باب الشرائط، والالتفات في باب القواطع.

ومحلّ الكلام هنا إنّما هو الأوّل. وأمّا الصحيحة: فهي ناظرة إلى المقام الثاني كما يرشد إليه قوله : «ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد... إلخ»، والاستشهاد بالآية إنّما هو لهذه الغاية، ولا نضايق من اختصاص ذلك بالفريضة عملًا بهذه الصحيحة، فنلتزم بعدم قاطعية الالتفات أثناء النافلة ما لم يخلّ برعاية الاستقبال في نفس الأجزاء. وأمّا أصل اعتبار الاستقبال في الصلاة الذي هو محلّ الكلام في المقام كما عرفت، فالصحيحة غير متعرضة لذلك رأساً، ولا نظر فيها إلى إطلاقه أو تقييده، فالاستدلال بها ناشئ من الخلط بين المقامين كما لا يخفى.

فبناءً على ما فهمه سيدنا في «ص19»: لا محل لدعوى التعارض بين الصحيحتين، فإنّ الصحيحة الأولى ليست ناظرة إلى شرطية الاستقبال حتّى يقال: لا معنى لشمولها للعالم، فالقدر المتيقن منها فرض الجاهل، بل هي ناظرة للقاطعية الالتفات وقاطعيته مما يصح بيانه من قبل الإمام .

إذاً: الصحيحة الأولى اجنبية عن محل الكلام، فلا تعارض بينها وبين صحيحة زرارة الدالة على توسعة القبلة توسعة واقعية.

وثانياً: إنّ هذا الكلام يتم على هذا فرض أن صحيحة زرارة وهي قوله: «أين حدّ القبلة؟»، في مقام بيان التوسعة الواقعية. وأمّا إذا قلنا: أنّه في مقام التوسعة الظاهرية، أي: أنّ البعيد الذي يشخص أين القبلة، فالمعتبر في حقه المحاذات وهي تتسع ما بين المشرق والمغرب، فلا تعارض بين الروايتين.

الإشكال الثاني: - الذي ذكره مناقشة للأعلام -:

بأنّ الصحيحة الأولى مقدمة على الثانية لموافقتها للكتاب، فهو مخالف لمبناه في الأصول، فعندما نراجع «مصباح الأصول، ج3، ص516»، أفاد هناك: بأنّ إطلاق الكتاب ليس مرجحاً؛ والسر في ذلك: أنّ الإطلاق ليس من الظهورات اللفظية كي يقال بأنّ الكتاب دلَّ على كذا، وإنّما الإطلاق من طريقين:

1 - أمّا من حكم العقل بحيث يستنتج ببركة مقدمات الحكمة أنّ المراد الجدي جعل الحكم على الموضوع على سبيل اللا بشرطية، فالإطلاق حكم العقلي وليس دليلاً لفظياً.

2 - أو أن يقال: أن الدال على الإطلاق عدم ذكر القيد، وعدم ذكر القيد أمر سكوتي وليس ظهوراً لنفس اللفظ.

ونتيجة هذين الأمرين: أنّ إطلاق الكتاب يختلف عن عموم الكتاب. إذ تارة الكتاب استخدم العموم، فقال: ﴿فوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ في جميع حالاتك عالماً أو جاهلاً. فهنا: يكون عامّاً وهو مرجح. أمّا إذا كان إطلاقا أننا استفدنا من ﴿فوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بمقدمات الحكمة أنّه سواء كنت عالماً أو جاهلاً، فبما أنّ الإطلاق ليس من الكتاب، فكيف يقال أنّه مرجح؟!.

ولأجل ذلك: إذا تعارض خبران وكان أحدهما موافقا لإطلاق الكتاب كما في محل كلامنا، فإن إطلاق الكتاب ليس مرجحاً بل لا مرجح لأحدهما على الآخر ويسقطان، لأنّ تعارض الخبرين تارة بالظهور الوضعي: فهنا نرجع إلى المرجحات؛ أمّا إذا كان تعارض الخبرين بالإطلاق: فرجعنا إلى المشكلة الموجودة بالإطلاق، فإنّ تعارض الخبرين إن كان بالإطلاق ليس تعارضاً بين ذاتي الخبرين وما ورد من مرجحات باب التعارض إنّما هي ناظرة إلى ما إذا اختلف نفس الخبرين، وإنّما اختلف هنا إطلاق هذا مع إطلاق هذا، ووصف الإطلاق ليس شأناً لفظياً، فلا يصح أن يقال: تعارض الخبران؛ بل لا محالة يتعين تساقط الإطلاقين، والأخذ بالقدر المتيقن من كل منهما أو يرجع إلى التخيير.

والحمدُ لله ربِّ العالمين