الدرس 81

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

ثالثاً: لو سلّمنا بأنّ الجمع بين الظهورين أو الانحلالين أمر مشكل فإنّما يتصور ذلك في الحكم الواقعي لا في الحجية.

وبيان ذلك: كما ذكر في «الحكمة» بأنّ الأثر: تارة يكون موضوعه الوجود الواقعي. وتارة الوجود الإدراكي.

فما يكون موضوعه الوجود الواقعي: فلا يعقل تعدده، لأنّ موضوعه واقعاً واحد. وأمّا ما يكون موضوعه الوجود الادراكي: فمن الممكن تعدده بتعدد الوجود الإدراكي وإن كان المورد لهذه الوجودات الإدراكية واحداً ثبوتاً.

بيان ذلك: إذا قال المولى: «أكرم كل عالمٍ»، وقال في المخصص المنفصل: «لا تكرم زيداً»، وتردد زيد بين شخصين، فمضمون «أكرم كل عالم» حكم واقعي، لأنّ مضمونه وجوب الأكرام ثبوتاً عَلِمَ المكلف أم جهل، ولأجل ذلك: فموضوعه الوجود الواقعي، أي: موضوع وجوب الأكرام ذات بكر وخالد وأمثال ذلك، فنفس الأفراد الواقعية مع غمض النظر عن العلم والجهل هي موضوع وجوب الأكرام.

فلأجل ذلك: قد يقال: بأنّ شمول وجوب الأكرام لزيد الواقعي لا يعقل أن يكون بلحاظين، بمعنى: أنّ شمول وجوب الأكرام لزيد: تارة: بعنوانه التفصيلي وهو زيد، وتارة: بعنوانه الانتزاعي وهو أحد الفردين؛ فيقال: بأنّه لو كان للعام شمولان وظهوران: ظهور في ذات زيد بلحاظ عنوانه التفصيلي وشمول لذات زيد بلحاظ عنوانه الانتزاعي، فإنه يقال: لا معنى لهذين الظهورين؛ والسر في ذلك: أنّه عنوان أحد الفردين أن لوحظ على نحو الموضوعية كان معنى ذلك أن ذات زيد لوحظ موضوعاً لوجوب الأكرام بلحاظين، بلحاظ أنّه زيد وبلحاظ أنّه مصداق لأحد الفردين وأخذ موضوع الحكم بلحاظين أما ممتنع أو يحتاج إلى مؤنة.

وإن أخذ الأحد مشيراً: إذا: فليس هناك ظهوران، إذ ليس إلّا ذات زيد، فهذا التحليل يتصور في الأحكام الواقعية بلحاظ أن موضوعها فرد واقعي.

أمّا في الحجية: فموضوع الحجية الوجود الادراكي وليس الوجود الواقعي سواء كانت حجة عقلية كالقطع فإن موضوعها القطع وهو وجود ادراكي، أو كانت هذه الحجية نقلية فإن الحجية موضوعها العلم أو الشك فالحجة العقلية موضوعها العلم، والحجية النقلية موضوعها الشك، فلأجل ذلك: موضوع الحجية يختلف عن موضوع الحكم الواقعي فإنّ موضوع الحجية الوجود الإدراكي كالعلم والجهل والشك والاطمئنان، ومتى ما كان الموضوع هو الوجود الإدراكي دخل فيما يعبر عنه في الحكم بالكثرة الادراكية، فقد يكون للشيء الواحد إدراكات متعددة وهو واحد واقعاً، ولكن هناك ادراكات عديدة لهذا الواحد، ولكل ادراك أثر يختلف عن أثر الادراك الآخر. مثلا: إذا سمع المكلف بخطاب أكرم كل عالم وهو مطمئن أو قاطع بأن ابن زيد ليس بعالم، فلا يتنجز عليه وجوب اكرامه، وفي نفس الوقت هو قاطع بأنّ ذاك المدرس القصير في الحرم الشريف عالم، فمقتضى هذا الادراك الثاني: تنجز وجوب اكرامه في حقه، فيبعث عبده لإكرامه مع أنّ ابن زيد هو المدرس القصير، ولكن قامت حجة على وجوب إكرامه بعنوان، وقامت حجة على عدم وجوب إكرامه بعنوان آخر، فالحكم الواقعي وهو وجوب الأكرام وإن لم يتعدد لأنّ موضوعه الواقع وهو واحد، إلّا أنّ الحكم الظاهري وهو الحجية من الممكن أن يتعدد لأن موضوعه الوجود الإدراكي وهو قابل لأن يتعدد.

أو: أنّه قام خبر الثقة على أن ابن زيد ليس بعالم، ولكن ذلك المدرس القصير في زاوية الحرم هل هو عالم أم لا؟، فيجري البراءة عن وجوب إكرامه، فنفس الفرد الواقعي قد يجب إكرامه أي يتنجز وجوب إكرامه بعنوان، أو تقوم حجة على عدمه بعنوان، وبعنوان آخر تجري البراءة عن وجوب إكرامه.

فالنتيجة: أنّه لا يقاس باب الحجية على الحكم الواقعي، ولأجل ذلك: لا مانع من أن يقال: عندما يقول المولى «أكرم كل عالم»، فإن هذا الخطاب لا يشمل زيداً لتردد من خرج بين زيد ابن عمرو وزيد ابن بكر، لأنّ المولى قال: «أكرم كل عالم»، وقال: «لا تكرم زيداً»، وعلمنا بأن أحد الزيدين خارج، ف «أكرم كل عالم» لا يتنجز في زيد بعنوانه التفصيلي، لقيام حجة، وهي: العلم الاجمالي على عدم شمول الخطاب لأحدهما، فلا يشمل زيداً بعنوانه التفصيلي للعلم الاجمالي بخروجه، وفي نفس الوقت يوجد حجة على شمول الخطاب لأحدهما، لأن خروج أحدهما عن قوله «أكرم كل عالم» مشكوك، فتجري فيه أصالة العموم، فلا مانع من الجمع بين الأمرين، لأنّ المقام مقام الحجية وليس المقام مقام الحكم الواقعي نفسه، فبما أنّ المقام مقام الحجية وموضوع الحجية هو الوجود الإدراكي والكثرة الإدراكية للفرد الواحد معقولة، إذاً: زيد المعين واقعاً قامت حجة على عدم وجوب إكرامه بعنوانه التفصيلي، وهو العلم الاجمالي، وزيد المعين واقعاً قامت حجة على وجوب إكرامه بعنوان أحدهما وهي التمسك بأصالة العموم، فلا يلزم أن يقال: أن الموضوع الواحد لا يعقل لحاظه موضوعا للحكم بلحاظين، فإنّ هناك موضوعين لا موضوع واحد، فلو كان المنظور الحكم الواقعي لكان له موضوع واحد، والموضوع الواحد لا يعقل أن يلحظ بلحاظين، وأمّا إذا كان المنظور هو الحكم الظاهري أي الحجية أو الطهارة الظاهرية أو الحليّة الظاهرية... ألخ. فبما أنّ موضوعها الوجود الإدراكي فالموضوع متعدد لا أنّه موضوع واحد لوحظ بلحاظين.

فظهر بذلك: أنّ المقتضي لشمول الخطابات بإطلاقها وعمومها للعنوان الانتزاعي وهو عنوان الأحد تام، والمانع مفقود.

ولكن، السيد الشهيد صاغ الإشكال بنحو آخر فقد أفاد في أصوله «ج3، ص296 - 303» فهناك ذكر «قده»: أنّه قد يصاغ الإشكال بنحو آخر بأن يقال: أنّ شمول العموم أو الإطلاق له فروض ثلاثة، كلها باطلة:

الفرض الأول: أن يقال: بأنّ قوله «أكرم كل عالم» يشمل الزيدين، حيث إنّ لقوله «أكرم كل عالم» ظهورات إنحلالية، فله ظهور في الشمول لزيد ألف، وله ظهور للشمول لزيد باء، فلأجل ذلك: أكرم كل عالم يشمل الزيدين معاً، ولكن الظهور وإن كان موجوداً إلّا أنّه بعد العلم الإجمالي بكذب أحد هذين الظهروين لقول المولى «لا تكرم زيداً» في المخصص المنفصل بعد العلم الاجمالي بكذب أحد هذين الظهروين، فشمول العام لكليهما شمول لظهور نقطع بعدم حجيته وإن كان قائماً بالفعل، فهذا الفرض منتفٍ.

الفرض الثاني: أن يشمل الخطاب أحد الظهورين، لا كليهما. فيقال: المقتضي موجود وهو الظهور، لأنّه ظاهر في زيد ألف، وظاهر في زيد باء، والمانع مفقود، لأنّ المانع هو أن لا يشمل كليهما، ونحن لا نريد أن يشمل كليهما بل أحدهما وأحدهما لا يعلم بكذبه، فتشمله أصالة العموم، ولكن لا يصحّ هذا الفرض، للتعارض؛ والسر في ذلك: أننا بعدما علمنا بخروج أحد الزيدين عن هذا الخطاب فهذا العلم أوجد تعارضاً بين الظهورين، فإنّ ظهور العام في شموله لزيد ألف معارض لشمولين لزيد باء، لأنّ كل ظهور يقول: أنا الباقي، فيقع التعارض بينهما بالعرض - أي ببركة العلم الاجمالي - فيسقط الظهوران عن الحجية للتعارض.

الفرض الثالث: أن نقول بشمول الخطاب للعنوان - أي عنوان ما لم يخرج - حيث أننا نعلم أن أحدهما خرج والآخر لا ندري خرج أم لا؟! فنقول: ما لم يعلم بخروجه نشكّ في خروجه، والشك في خروجه شك في تخصيص زائد، والشك في التخصيص الزائد منفي بأصالة العموم، فمقتضى أصالة العموم إنّ ما لم يعلم بخروجه باقٍ. فأجاب: بأنّ ما لم يعلم بخروجه هل لاحظتموه على نحو الموضوعية أم على نحو المشيرية؟، فإنّ لاحظتموه على نحو الموضوعية، بأن يقال: كما أنّ للعام ظهوراً في زيد ألف وزيد باء له ظهور بعنوان ما لم يعلم بخروجه، فما لم يعلم بخروجه ليس فرداً زائد على زيد ألف، فحيث لا يوجد فرد ثالث وراء الزيدين فحينئذٍ عنوان «ما لم يعلم بخروجه» ليس له مصداق في الخارج. وهذه نفس نكتة السيد الخوئي التي تقدمت.

وإن قلتم: بأن هذا العنوان - أي ما لم يعلم بخروجه - مجرد مشير ومرآة حاكية عن واحد من الزيدين، فإذا لم يشمل الخطاب زيداً فكيف يشمله مرة أخرى بعنوان حاك فإذا لم يشمل الخطاب المرئي وهو ذات زيد للمعارضة التي ذكرناها في الفرض الثاني، فكيف يشمله بمجرد أن جعلنا له عنواناً آخر وهو عنوان أحدهما؟.

والحمدُ لله ربِّ العالمين