منجزية العلم الإجمالي

الدرس 83

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

وصل ال?لام إلى التقريب الثاني لشبهة التخيير، وهو الترخيص المشروط. وبيان ذلك بحسب ما ذكره المحقق العراقي «قده» في مقالاته، وهو مؤلف من أمور ثلاثة:

الأمر الأول: أنّ الخطاب له إطلاق أفرادي، وإطلاق أحوالي. فمثلاً: إذا قال «اكرم كل عالم» فانّ لهذا الخطاب عموماً أفرادياً، وهو: الشمول لذات الأفراد من زيد وبكر، وإطلاقاً أحوالياً، وهو: الشمول لزيد إن أكرم عمراً أو ترك إكرامه، فشمول الخطاب للفرد إطلاق أفرادي، وشمول الخطاب للفرد في حالات تلبسه أو عدم تلبسه بالفرد الآخر أحوالي، ولا موجب لرفع اليد عن الإطلاق الأفرادي لمانع في الإطلاق الأحوالي، فإنّ كلا من الإطلاقين ظهور، ومقتضى كونه ظهوراً: أن يكون موضوعاً مستقلاً للحجية.

الامر الثاني: إنّ موطن المحذور هو الإطلاق الأحوالي لا الأفرادي، بمعنى: أنّ المكلف إذا علم بنجاسة أحد الإنائين، فإنّ شمول دليل أصالة الطهارة لإناء ألف وإناء باء ليس ذا محذور، وهو المعبّر عنه بالإطلاق الأفرادي، فإنّ نفس شمول دليل الأصل لهذا الإناء في نفسه وللآخر في نفسه ليس موقعاً لمحذور، وإنّما المحذور في الإطلاق الأحوالي، أي: في شمول أصالة الطهارة لإناء ألف حتّى في حال استخدام إناء باء وفي شمول الطهارة لإناء باء حتى في حال استخدام ألف، حيث يترتب على الإطلاق الأحوالي، أي: طهارة إناء ألف وإن استخدم إناء باء، وبالعكس يترتب على ذلك الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما. فما هو موطن المشكلة - وهي مشكلة الترخيص في المخالفة القطعية - هو الإطلاق الأحوالي لا نفس شمول دليل الأصل لذات إناء ألف مع غمض النظر عن إناء باء، وبما أنّ الضرورات تقدر بقدرها فلا موجب لرفع اليد عن الإطلاق الأفرادي لكل منهما، بل مقتضى الصناعة رفع اليد عن الإطلاق الاحوالي، وذلك: بتقييده في كل منهما بحال ترك الآخر، فكأن المولى قال: رخصت لك في استخدام إناء ألف إن تركت إناء باء وبالعكس، لا أنني رخصت لك في استخدام إناء ألف في مطلق أحواله ولو استخدمت إناء باء.

والنكتة في ذلك: إنّ الإطلاق الأفرادي ظهور والظهور موضوع للحجية، ولا موجب لدى المرتكز العرفي لرفع اليد عن حجة إلّا بقيام حجة على الخلاف، ولم تقم حجة على الخلاف في الإطلاق الأفرادي وإنّما قامت في الإطلاق الأحوالي وهي حكم العقل بقبح الترخيص في المخالفة القطعية. ونتيجة ذلك: وجود ترخيصين مشروطين الترخيص في كل من الطرفين مشروطا بترك الآخر.

الأمر الثالث: إنّ الترخيصين المشروطين من قبيل الجمع بين الترخيصين لا من قبيل الترخيص في الجمع بين الطرفين، ففرقٌ بين الجمع بين الترخيصين والترخيص في الجمع، فترخيص إناء ألف مشروط بترك باء فما لم يترك فليس مرخص فالجمع بينهما خلف الترخيص فكيف يكون ترخيصاً في الجمع؟!، نظير ما ذكر في بحث الترتب: أنّ الترتب ليس طلباً للجمع بل جمعاً بين الطلبين، فإذا قال المولى: «أزل النجاسة عن المسجد فإن لم تزل فصلّ»، فهذا ليس طلباً للجمع بين الفعلين بل جمع بين الطلبين بنحو يمنع من الجمع بين الفعلين بحيث لو استطاع المكلّف على فرض محال أن يجمع بين الإزالة والصلاةلم يشمله الترتب، لأنّ الأمر الترتبي مشروط بالترك فكيف يشمل حال الفعل، كذلك أن طهارة إناء ألف منوطة بترك إناء باء فكيف يشمل حال استخدام إناء باء.

بذلك افاد المحقق العراقي: أنّ على القائلين بالاقتضاء أن يلتزموا بالترخيص المشروط لأنّ المقتضي له موجود وهو الظهور الأفرادي والمانع مفقود وهو خاص بالإطلاق الأحوالي فلا موجب لرفع اليد عن الإطلاق الأفرادي لمشكلة في الإطلاق الأحوالي.

وقد عني الأعلام القائلون بالاقتضاء برفع هذه الشبهة، ومنهم سيدنا، فقد ذكر عدة وجوه للجواب في «الدراسات ومصباح الأصول»:

الوجه الأول: وهو مؤلف من أمرين:

الأمر الأول «وهو بيان للكبرى»: أنّ المحذور لا ينحصر في الترخيص في المخالفة القطعية بل يشمل الترخيص القطعي في المخالفة. مثلاً: لو علم المكلف بحرمة الجلوس في آن معين في إحدى الغرفتين، فهذا العلم الإجمالي لا يمكن مخالفته القطعية، فلا يلزم من شمول دليل الاصل الترخيصي لكلا الطرفين الترخيص في المخالفة القطعية لامتناعها ولكن يترتب عليه الترخيص الفعلي في المخالفة وهو لا يقل قبحاً. والسر في ذلك:

إنّ كلا الترخيصين يرجعان إلى نكتة واحدة وهو عدم اهتمام المولى بغرضه اللزومي، فكما لو أمكن المكلّف المخالفة القطعية كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين وهو قادر على شربهما معاً، فإنّ شمول دليل أصالة الطهارة لكليهما عدم مبالاة من المولى بغرضه اللزومي، إذ مع وجود غرض لزومي وهو نجاسة أحدهما فالترخيص في كليهما قبيح، والسر في القبح: عدم مبالاة المولى بغرضه اللزومي.

كذلك في الترخيص القطعي في المخالفة، كما لو قال المولى: «إن علمت إجمالا بحرمة الجلوس في إحدى الغرفتين في آن معين فأنت مرخص لك في كليهما» بحيث لو أمكن العبد أن يجلس في كليهما لشمله الترخيص، وهو أيضاً قبيح، لأنّه عدم مبالاة للمولى بغرضه اللزومي.

الأمر الثاني «وهو بيان للصغرى»: تطبيق ذلك على الترخيصين المشروطين. فإذا قال المولى: «إذا علم المكلف اجمالاً بحرمة أحد اللحمين فيحل له كل منهما إن ترك الآخر»، وترك المكلف كليهما، ففي فرض ترك المكلف لكيهما أصبح الترخيص فعلياً في كليهما لفعلية المشروط بفعلية شرطه، فعندما ترك كليهما صار الترخيص في كليهما فعلياً، والمكلّف وإن لم يقدر على المخالفة القطعية إلّا أنّه حين ترك كليهما يكون مورداً لترخيص فعلي في المخالفة، بحيث لو أمكن المكلّف أن يجمع بين الفعل والترك على فرض محال لشمله الترخيص، فهو ترخيص فعلي في المخالفة وهو لا يقل قبحاً عن الترخيص في المخالفة القطعية.

فظهر بذلك: أنّ ما أفاده المحقق العراقي إشكالاً على القائلين بالاقتضاء محل منع.

ويلاحظ على ما أفيد:

بعد تمامية الكبرى وهي قبح الترخيص الفعلي في المخالفة، منع الصغرى بلحاظ أنّ هناك فرقاً بين ترخيص لا يقتضي عدم المخالفة وترخيص يقتضي عدم المخالفة، ففي الصورة التي أفادها تنظيراً وهي: ما إذا لم يتمكن المكلف من المخالفة القطعية، كما لو علم إجمالاً بحرمة الجلوس في إحدى الغرفتين في آن معين، فإنّ هنا امتناع المخالفة القطعية لقصور في المكلّف لا لقصور في الترخيص، فالترخيص في حدَّ ذاته لا قصور فيه وإنّما القصور في المكلّف بحيث يمتنع عليه الجمع بين الجلوسين، وبالتالي فالترخيص المطلق في المقام بأن يقول له المولى: «أحلُّ لك الجلوس في كل منهما» ترخيص لا يمنع المخالفة القطعية، ولا يقتضي عدمها، وبتعبير العراقي: لا يسد أبواب عدمها. ولذلك: لو أمكن المكلف أن يجمع لشمله الترخيص بينما في الترخصين المشروطين، فالترخيص يقتضي عدم الوقوع في المخالفة، فإذا قال له المولى: «إذا علمت إجمالاً بحرمة أحد اللحمين حلَّ لك كل منهما بشرط ترك الآخر»، فمجرد أن يفترض المولى هذا الشرط كان امتناع المخالفة القطعية لا لعجز في المكلف بل لقصور في الترخيص. ولأجل ذلك قلنا: لو أنّ المكلّف جمع بينهما لم يشمله الترخيص من الأصل، إذ الترخيص في كل منهما مقيّد بالترك للآخر لا يعقل شمول الترخيص لفرض الفعل، إذ هو خلف الاشتراط، وهذا ما ذكر في بحث الترتب: أنّ المكلّف لو استطاع أن يجمع بين الإزالة والصلاة لم يكن مأموراً بالصلاة، فإنَّ الأمر بالصلاة مشروط جعلاً بعدم الإتيان بالإزالة. فما ذكره «قده» لا يرد على المحقق العراقي، فإنّ ما ذكره العراقي من الترخيصين المشروطين ليس ترخيصاً فعلياً في المخالفة، لأنّه يقتضي عدم الوقوع في المخالفة فكيف يكون ترخيصا فيها؟!.

الجواب الثاني الذي أفاده سيدنا، قال: في فرض العلم الإجمالي بالإلزام كالعلم الاجمالي بحرمة أحد اللحمين لا يعقل شمول الترخيص لكلا الطرفين للكونه ترخيصاً في المخالفة القطعية، وكما يمكن رفع هذا المحذور برفع اليد عن الإطلاق الأحوالي بتقييد كل من الإطلاقين بحال ترك الآخر يمكن رفع هذا المحذور برفع اليد عن الإطلاق الأفراد عن أحدهما، فنقول: لا يشمل الإطلاق اللحم ألف، فإذا ارتفعا الإطلاق الأفرادي من الأول من الأول في أحدهما ارتفعا محذور الترخيص في المخالفة القطعية، فتعيين الصلاة في الإطلاق الأحوالي تحكم.

والجواب عن ذلك: نحن نعلم بسقوط الإطلاق الأحوالي على كل حال إما تخصصا أو تخصيصاً أي أنّ الترخيص في ألف لا يشمل حال التلبس بباء جزماً إمّا لأنّ الترخيص لم يشمل ألف من الأول فيرتفع الإطلاق الأحوالي تخصصاً، لأنّ الأحوالي متعكز على الأفراد، فإذا ارتفع الأفرادي في أحدهما، بأن لم يشمله الترخيص في الأساس ارتفع الأحوالي وهو سعة الترخيص فيه بما يشمل حال التلبس بالآخر، أو أنّ الإطلاق الأفرادي شمل ألف ولكن خصصنا حاله بأن لا يشمل حال التلبس بالآخر، فارتفع الإطلاق الأحوالي تخصيصاً، فعلى أي حال: الإطلاق الأحوالي ساقط إلى النهاية، إمّا تخصصاً أو تخصيصاً. ويبقى الشك في سقوط الإطلاق الافرادي، وهو مجرى للحجية لأنّه ظهور قد انعقد والظهور بنظر المرتكز العرفي موضوع مستقل للحجية، ومقتضى الارتكاز: شمول الحجية له. فليست المسألة اختيارية ودائرة بين أن نتصرف في الأحوال أو الأفراد كي يقال بالتحكم، وإنّما علمنا تفصيلاً بسقوط الأحوالي وشككنا في سقوط الأفراد فشمله دليل الحجية.

والحمدُ لله ربِّ العالمين