مناصب النبي وموقف المسلمين من سنته

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث عن نقطتين تتعلقان بشخصية الرسول الأعظم محمدٍ :

  •  المناصب التي جعلها الله لنبيه .
  • موقف المسلمين من السنة النبوية.
النقطة الأولى: المناصب النبوية.

هناك ثلاثة مناصب أعطيت للنبي من قبل الله عز وجل: منصب التبليغ، ومنصب التشريع، ومنصب الولاية.

المنصب الأول: منصب التبليغ.

أي أن الرسول الأعظم حافظ لما استودعه الله إياه من الوحي، ومبلغ لما حمّل من تعاليم الوحي على طبق ما أُوحي إليه، فالرسول عندما يستقبل معلومات الوحي يستقبلها بدقةٍ تامةٍ، لا زيادة ولا نقص، ولا خطأ، وعندما يقوم بتبليغها يبلغها على طبق ما أوحيت إليه من دون زيادةٍ ولا نقص ولا خطأٍ ولا زلل، يقول تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، وهذا ا لأمر يسمى بالعصمة التبليغية: يعني أن الرسول معصوم في استيعاب الوحي ومعصوم في مجال تبليغه، فهو معصوم في الاستيعاب ومعصوم في التبليغ.

هل هذه العصمة عصمة اختيارية أم عصمة قهرية؟

بمعنى: هل أن الرسول عندما يريد أن يبلغ أوامر الله مجبور على ألا يخطئ؟ أو يمكن أن يخطئ ولكنه لأجل كونه معصومًا هو الذي يمتنع عن الخطأ؟ هل عصمته عصمةٌ قهرية أو اختيارية؟

المرحوم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية - وهو أحد الذين خدموا الإسلام، وخدموا التشيع بفكرهم وبقلمهم، وله الكتب الكثيرة المعروفة رحمه الله، وله آراء ونظريات في مختلف الحقول العلمية - كان يرى أن العصمة قهرية، أي أن الرسول في مجال التبليغ لا يمكنه أن يخطئ، فالرسول عندما يستوعب الوحي يستحيل أن يخطئ، وعندما يقوم بتبليغ الوحي يستحيل أن يخطئ، لا يمكنه أن يخطئ حتى لو أراد أن يخطئ، لا يمكنه الخطأ في مجال التبليغ، فهو معصوم في مجال التبليغ عصمةً قهريةً آليةً لا يمكنه أن يتخلف عما يريد تبليغه.

ويستند في هذا إلى الآية المباركة: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فإذا ارتُضي الرسول وأُطلِع على الغيب ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا يعني هناك مجموعة من ملائكة ترصد حركة الرسول ، وكلامه وخطابه، ترصده وهو يبلغ الوحي. لماذا هذا الرصد؟ ﴿لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا. فهذه الآية ترشدنا إلى أن الرسول لا يمكنه أن يتخلف لوجود ملائكة ترصده، ترصد كلامه وخطابه وتبليغه، إذن هو مجبور على أن يبلّغ كما أُوحي إليه لأنه محاط بالرصد الذي يرصده ويحاسبه ويراقبه أثناء تبليغه وكلامه وخطابه، فلا يمكنه أن يتخلف عن ذلك.

أدلة اختيارية العصمة:

النظرية المعروفة عند الإمامية أن الرسول مختار، الرسول في جميع أعماله سواء كانت تبليغية أو كانت شخصية، الرسول معصوم لكن عصمة اختيارية لا قهرية، يعني الرسول يمكنه أن يخطئ لكن هو يمتنع عن الخطأ باختياره وإرادته، يمكنه ألا يبلّغ الوحي كما أرسل إليه ويمكنه أن يتخلّف لكنه باختياره وإرادته أدّى الوحي وبلّغه كما أوحي إليه وأرسِل إليه. فعصمته عصمة اختيارية في مجال التبليغ أو في مجال السلوك وليست عصمة قهرية. فالرسول ليس كالآلة التي تحركها الملائكة لا يمكنها أن تتخلف أو تختلف، كلا، بل هو مريد مختار يبلغ الوحي متى شاء وكيفما شاء إلا أنه يمتنع عن الخطأ والانحراف باختياره وبإرادته. نحن عندما نقول بالعصمة الاختيارية نستند إلى دليلين:

أولًا: إن ظاهر آيات القرآن الكريم أن الرسول يمكنه أن يتجاوز الوحي، فالقرآن الكريم يقول: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، يعني ليس بآلة يدبرها الملائكة كيفما شاؤوا، كلا، بل هو إنسان مختار مريد يمكنه - والعياذ بالله - أن يتقوّل، ولكنه يمتنع عن التقوّل أو الكذب أو الإساءة أو التخلّف، يمتنع باخياره وبإرادته. وقال في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ معناه أنه يستطيع أن يتخلف ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.

ثانيًا: إن جزءًا من تبليغ الرسول في العمل، يعني الرسول ليس دائمًا تبليغه بالكلام، ليس دائمًا الرسول إذا أراد ان يبلغ الأوامر الإلهية يصعد المنبر في مسجده بالمدينة ويقول كذا حكم، كذا تشريع، كذا قانون، كلا، فبعض تبيلغاته عن طريق العمل، فالرسول كيف بلّغ أحكام الصلاة؟ بلّغها بالتطبيق، حيث وقف في المحراب وقال: ”صلوا كما رأيتموني أصلي“. وقف في المحراب، والناس أخذوا عنه أحكام الصلاة من خلال عمله وصلاته.

الرسول لما ذهب الى الحج لأداء المناسك لم يشرح المناسك، قال: ”خذوا عني مناسككم“ يعني: اتبعوني، وطاف وسعى وقصّر وأحرم ووقف بعرفة ومنى ورمى وحلق وذبح.. إلى آخر المناسك، فكان يؤدي ويبلغ المناسك عن طريق العمل. فإذا قلتَ: إن الرسول معصوم عصمة قهرية في مجال التبليغ، فإذا أراد أن يبلغ الأحكام عن طريق العمل والسلوك فهل هو مجبور على هذا السلوك وعلى هذا العمل؟ لا يمكنه أن يتخلّف عنه؟ فإذا كان مجبورًا على العمل، إذن لا فضل له ولا ثواب لأنه مجبور، مجبور على أن يحج بهذه الطريقة فلا فضل له ولا ثواب فكيف بذلك يتميز الرسول محمد عن غيره من بني البشر وعن غيره من بني الأمة الإسلامية؟! إذن، نحن من خلال هذين الدليلين نذهب إلى أن النبي معصوم في مجال التبليغ كما هو معصوم في مجال السلوك عصمةً اختياريةً لا عصمةً آليةً قهريةً.

المنصب الثاني: منصب التشريع.

الله تبارك وتعالى هو المشرع، ولكنه ترك مساحات للنبي يشرّع فيها كما يرى هو ، الله أكرمه بأن جعل له مساحةً هو يقوم بالتشريع فيها كما يريد، كيف؟ وما معنى هذا الكلام؟ وما هي الحاجة لمثل هذه المنزلة أن تعطى للنبي ؟

السؤال الأول: ما معنى أن للنبي حق التشريع؟

معنى هذه الجملة أن نفس النبي نفسٌ قدسية، والنفس القدسية هي النفس التي وصلت إلى درجة اليقين، من وصل إلى درجة اليقين فنفسه نفس قدسية ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. من وصل إلى درجة اليقين ينكشف له الواقع كما هو عليه، كما ورد في حق إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام، فالآية المباركة تقول: ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ يعني: يصل إلى درجة اليقين. من وصل إلى درجة اليقين صار موقنًا، وصار ذا نفس قدسية، وإذا صار كذلك انكشف له الواقع، وانكشفت له مصالح المجتمع ومفاسده، وصار ذا نفس قدسية ينكشف أمامها الواقع، وهذا ما عبر عنه أمير المؤمنين : ”لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا“ يعني وصل إلى درجة اليقين التي من خلالها تنكشف له الأمور من دون حاجة أن يكشف له ملك الموت عنها، بل هو ينكشف له الواقع نتيجة وصوله إلى درجة اليقين.

إذا انكشف له الواقع إذن أي تشريع يصدر من النبي فهو مطابق للواقع، فما دامت نفس النبي نفسًا قدسية، والنفس القدسية هي من ينكشف لها الواقع كما هو، إذن أي تشريع وأي أمر وأي نهي يصدر عن النبي فهو مطابق للواقع، ولا يخطئ الواقع، ولا يتخلف عن الواقع. فمن انكشف له الواقع أصابت أوامره ونواهيه وأحكامه وتشريعاته للواقع، لذلك فالله تبارك وتعالى حيث أنه يعلم أن نفسَ النبي القدسية ينكشف لها الواقع أعطاه مساحة التشريع، قال: شرّع كما ترى، وكان تشريعه مطابقًا للواقع لا يخطئه ولا يتخلف عنه، ولهذا عندنا بعض الروايات: ”إن الله تبارك وتعالى فرض الزكاة ولم يعيّن في، وسنّها النبي في تسعة أشياء: الأنعام الثلاثة والغلّات الأربع والنقدين الذهب والفضة، وإن الله حرّم الخمر وحرّم النبي كل مسكر“، الرسول حرّم مع الخمر كل مسكر، وهذا نسميه حق النبي في التشريع وولاية النبي على التشريع لأن نفسه نفسًا قدسيةً.

السؤال الثاني: ما هو الهدف من ولاية النبي على التشريع؟

تكريم النبي . هناك الكثير من الأمور أعطيت للنبي لمجرد تكريمه، مثلًا ما هو الهدف أن النبي عُرج به إلى السماوات؟ هو على الأرض تصل له المعلومات كلها عن طريق جبرئيل أوّلًا بأول فلا يحتاج لأن يصعد إلى السماوات، بينما القرآن والحديث ينصّان على أنه عُرِجَ به إلى السماوات ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. وصل إلى سدرة المنتهى، يقول القرآن: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. إذن عُرج به إلى السماء، فما هو الهدف من ذلك؟ إكرامًا لشخصه . تكريمًا لشخصه وتقويةً لمقامه واهتمامًا وعناية من الله تبارك وتعالى لهذه النفس الطيبة الطاهرة، وكما أتحفه الله بكرامة العروج إلى السماء أتحفه الله أيضًا بأن أعطاه الولاية على التشريع، فجعل مساحةً من التشريع ملأها النبي بتشريعاته المصيبة والمطابقة للواقع.

السؤال الثالث: أليس النبي مبلغًا لا مشرعًا؟

لعل الإنسان يطرح سؤالًا فيقول: إذا كان للنبي ولاية على التشريع، يعني إذا كان بعض التشريع صادرًا عن النبي ، فكيف نوفق بين ذلك وبين الآية التي قرأناها: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى؟ ظاهر هذه الآية أن جميع ما يصدر من النبي فهو وحي من الله، وأنتم تقولون أن بعض ما صدر عنه هو وحي من الله، وبعض ما صدر عنه هو تشريع من قِبَله ، لأن له ولاية على التشريع، فكيف نوفق بين ولايته على التشريع وبين هذه الآية المباركة؟

التوفيق بين هذين الأمرين: الوحي ينقسم إلى قسمين: وحي تأسيسي ووحي إمضائي. الوحي التأسيسي: هو الأمر الذي يصدر وينزل من قبَل السماء على النبي المصطفى محمد ، وأما الوحي الإمضائي فمعناه أن الرسول يصدر أمرًا والله يمضيه ويقرّه، فإذا أمضى الله ما صدر عن النبي فقد صار ما صدر عن النبي وحيًا لا وحيًا تأسيسيًا لكن وحيًا إمضائيًا. فلا تنافي بين الآية وبين ولاية النبي على التشريع، فجميع التشريعات التي صدرت عن النبي المصطفى مطابقةٌ للواقع، ولأنها مطابقة للواقع فقد امضيت وأُقرّت وأجيزت من قبل الله تبارك وتعالى، ولأنها أمضيت وأقرت من قبل الله تبارك وتعالى إذن هذه التشريعات وحي لكن ليست وحيًا تأسيسيًا بل وحي إمضائي. فلا تنافي بين الآية وبين القول بأن للرسول المصطفى ولايةً على مساحة من التشريع كما ذكرنا وبيّنا.

المنصب الثالث: منصب الحكومة.

المنصب الثالث من المناصب التي أعطيت للنبي هو منصب الحكومة، ولاية الأمر، فهو مبلّغ، ومشرّع، وحاكم له حكومة، أي: يقيم دولة، وجميع أوامره التي تصدر عنه بما أنه رئيس الدولة وبما هو ولي الأمر وبما هو حاكم يجيب تنفيذه ويجيب إطاعته، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، ﴿ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا. إذن هناك أوامر صدرت عن الرسول لا بما هو مبلّغ ولا بما هو مشرّع، بل صدرت عنه بما هو ولي أمر المسلمين وبما هو حاكم، الأوامر الصادرة عنه بما هو ولي الأمر هي الأوامر المتعلقة بالظروف، فقد تصدر أوامر في ظروف خاصة كأن يقول: حاربوا، أو يقول: صالحوا.

في يوم الحديبية أمر المسلمين بأن يصالحوا المشركين، فهذا أمر صدر عنه لا بما هو مبلغ، ولا بما هو مشرّع، بل هو أمر ولايتيٌ صدر عنه بما هو رئيس الدولة وبما هو ولي الأمر. الرسول صالح المشركين، يعني ليس دائمًا نحن نحارب المشركين، هناك ظروف تفرض علينا حربهم، وهناك ظروف تفرض علينا صلحهم، وهناك ظروف تفرض علينا أن نكون في حالة هدنة معهم، فالرسول حارب المشركين، والرسول نفسه صالح المشركين في يوم الحديبية لاختلاف الظروف، فالأمر الصادر منه بالحرب أمر ولايتي يعني صدر في ظروف خاصة، وصدر عنه بما هو ولي الأمر فيجب تنفيذه، والأمر الصادر عنه بالصلح أمر ولايتي خاص بظروف معينة يجب تنفيذه ايضًا لأنه صدر عن ولي الأمر.

ولذا، فالقرآن الكريم أشار الى هذه المقامات الثلاثة - الرسول مبلّغ ومشرّع وحاكم - بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ، الأمر الذي يصدر عن الرسول بما هو مبلغ إذا أطعناه ما أطعنا الرسول بل أطعنا الله، يعني الأمر الصادر عن الرسول بما هو مبلّغ ليس أمرًا من قبل الرسول بل هو أمر من قبل الله، فإطاعته إطاعة لله، فيدخل تحت الفقرة الأولى: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ، ولا يدخل تحت الفقرة الثانية، أما الأمر الصادر عن النبي بما هو مشرّع لا بما هو مبلّغ فإطاعته إطاعة للرسول، لذلك يدخل في الفقرة الثانية ﴿وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ، وأما الأمر الصادر عن النبي بما هو ولي الأمر وبما هو حاكم أيضًا يجب إطاعته لكن يدخل تحت الفقرة الثالثة: ﴿وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ لأن الرسول من أولي الأمر، وخير أولي الأمر، وأبرز أولي الأمر، فهناك أوامر ثلاثة تصدر من النبي: أمر بما هو مبلغ فيدخل تحت الفقرة الأولى: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وأمر بما هو مشرّع يدخل في الفقرة الثانية ﴿وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وأمر بما هو ولي الأمر فيدخل تحت الثالثة ﴿وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ.

النقطة الثانية: ما هو موقف المسلمين تجاه السنة النبوية؟

بعد أن قررت الآية أهمية حديث النبي وأهمية السنة النبوية ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى فما هو موقف المسلين تجاه السنة النبوية؟ أنا أذكر لك عدّة ملاحظات وعدّة عناصر لتعرف من خلال هذه العناصر موقف المسلمين من السنة النبوية.

العنصر الأول: التفصيل بين الأحاديث.

في حياة النبي، والنبي كان حيًا، اختلف المسلمون: فمدرسة قالت يجب علينا أن ندون جميع ما يقوله النبي ، ونحتفظ به، ومدرسة قالت: لا، فبعض أحاديثه ندونها، وبعض أحاديثه لا يجب تدوينها ولا يجب الاحتفاظ بها. فهناك مدرستان في زمان الرسول: المدرسة الأولى مدرسة التشيع التي كانت تأمر بتدوين جميع أحاديث النبي بلا استثناء، والمدرسة الأخرى التي قالت: لا يجب تدوين جميع أحاديثه لأن أحاديثه تختلف. وسأذكر لك المصادر في هذا المجال:

لاحظ ما ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ ج1 ص 5: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من الرسول، فنهتني قريش عن ذلك - يعني توجد مدرسة لا ترضى بهذا الشيء - وقالت: إن رسول الله بشر يتكلم في الرضا والغضب - يعني ليس معصومًا عصمةً مطلقة بل معصوم في بعض الجوانب دون بعض الجوانب - فأمسكت عن الكتابة وذكرت ذلك للرسول فقال لي: ”اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه - وأشار الى فمه - إلا الحق“. هذه إشارة إلى أن هناك مدرستين مختلفتين والرسول ما زال حيًا. ونحن أي الشيعة الإمامية نؤيد المدرسة الأولى التي تأمر بتدوين كل ما يقوله النبي .

لاحظ أيضًا ما ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ ج1 ص3: إن بعض الصحابة - وأنا لا أذكر الاسم فأنت راجع المصدر وستعلم - جمع الناس بعد وفاة النبي - وتشير إلى مسألة التفصيل في أن النبي معصوم في بعض الأمور وليس معصومًا في أمور أخرى، هذا الخلاف بقي حتى بعد وفاة النبي - جمع الناس بعد وفاة النبي وقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث وتختلفون فيها فلا تحدثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا بيننا كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. إذن، هناك خط ومدرسة أخرى تقول ليس جميع أحاديث النبي تُدوّن ويُحتفظ بها ويعوّل عليه، بيننا كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. هذا هو العنصر الأول من عناصر موقف المسلمين تجاه السنة النبوية، وهو عنصر التفصيل بين الأحاديث، والتفصيل في عصمة النبي .

العنصر الثاني: تاريخ التدوين.

يأتي المرء ويرى صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد ويظن أن هذه دوّنت من زمان النبي ووصلت بشكل متسلسل إلى البخاري ومسلم وأحمد. كلا ليس الأمر كذلك، راجع كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج1 ص218: يذكر أنه مرت 100 سنة المسلمون لم يدونوا حديث النبي، 100 سنة منذ هجرته الى مجيء عمر بن عبد العزيز إلى الحكم، المسلمون ما اهتموا بتدوين حديث النبي . يقول: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة: انظروا حديث رسول الله فاكتبوه فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله فكان ابن شهاب الزهري أول من دوّن الحديث على رأس المائة.

في هذه المائة سنة كثير من الصحابة ماتوا، وكثير من حفّاظ الحديث ماتوا، إذن فبالنتيجة المقدار الذي بقي من حديث النبي محفوظًا إلى ما بعد مائة سنة مقدار قليل ونزر يسير، فما بقي من حديث النبي ذلك المقدار الذي يشكّل صحاحًا ستة ومسانيد كثيرةً. فهذه هي مدرسة من مدارس المسلمين، وأما المدرسة الأخرى - وهي مدرسة التشيع - فاهتمت بتدوين الحديث منذ حياة النبي وبقيت على تدوين الحديث على يومنا هذا، فأول من دوّن الحديث في مدرسة التشيع هو الإمام أمير المؤمنين ، والكتب التي دوّنها الإمام علي من الحديث انتقلت إلى أولاده، ومن أولاده إلى الكتب التي وصلت إلينا.

لاحظ ما يذكره النجاشي في كتابه رجال النجاشي رقم 80 عن أحمد بن محمد بن عيسى يقول: لقيت الحسن بن علي الوشاء وطلبت منه الكتب - يعني كتب الحديث - أعطاني إياها وقال: أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد الصادق عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه الحسين عن أخيه الحسن عن أبيه علي بن أبي طالب عن أخيه رسول الله. فإذا كان تسعمائة شيخ محتفظين بالأحاديث فافترض كل شيخ يحفظ 100 حديث فيكون العدد تسعين ألف حديثًا، والإمام الصادق نفسه ينقل عنه زرارة يقول: دخلت عليه فأخرج إلي الجامعة وقال: هذا كتاب بخط علي وإملاء رسول الله فيه جميع ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة. فهذا هو العنصر الثاني: عنصر تاريخ التدوين.

العنصر الثالث: عدم الاهتمام برواية أهل البيت.

الرسول يقول: ”إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“، وابن حجر يقول: هذا حديث صحيح لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه. فلنلق نظرة على كتب الحديث عند بعض المذاهب الاسلامية هل رووا عن أهل البيت؟ الرسول يقول: إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي. فإذا كنت لا تعتبر أهل البيت أئمة فلا أقل اعتبرهم رواة، واجعلهم بصف الرواة عن النبي كأبي هريرة وأنس وجابر. حتى هذا المقدار لا يوجد، فنلاحظ بعض كتب الحديث نُحّيَ فيها اهل البيت كأنهم ليسوا من رواة الحديث، وسأضرب لك الأمثلة.

البخاري في صحيحه روى عن عمران بن حطّان، وكان عمران بن حطّان يستهزئ بقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ويظهر العداوة له، ومع ذلك روى عنه البخاري في الجزء الخامس كتاب اللباس ص2194 ولم يرو البخاري رواية واحدة عن الصادق أو عن الباقر أو عن الكاظم أو عن الرضا، مع أنه عاصرهم، ومع ذلك لم ينقل ولا رواية واحدة عنهم، يعني لم يعتبرهم حتى رواة، وفي الجهة الأخرى روى عن عمران بن حصّان وأمثاله. فعلى ماذا نحمل هذا؟ يمكن غافل نسى!!!

الذهبي عندما ترجم للإمام الباقر قال: وكان أبو جعفر إمامًا ومجتهدًا تاليًا لكتاب الله كبير الشأن ولكن - ما هذه ال «ولكن» - لم يبلغ في القرآن درجة ابن كثير، ولا في الفقه درجة أبي الزناد، ولا في الحفظ درجة قتادة... وجاء بخمس «ولكن»!!!!! لماذا هذه ال «ولكن»؟؟؟ أنت أيها الذهبي ترجمت للأوزاعي ولم تأتِ ب «ولكن» وترجمت للإمام مالك ولم تأتِ ب «ولكن»، يعني هؤلاء كلهم ما فيهم «لكن»، وحينما وصلت الترجمة إلى الإمام الباقر صحيح هو مجتهد وإمام لكن... يريد أن يقول أنه ليس مثل غيره، فهل يسمى هذا اهتمامًا؟! هذا هو العنصر الثالث.

العنصر الرابع: دعوى الصحة.

أنت تسمع كثيرًا في القنوات والإذاعات وتقرأ في الكتب: «صحيح البخاري، وصحيح مسلم»، والذي يسمع هذه الكلمة يظن أن هذين الكتابين صحاح بكل ما فيهما، وأن المسلمين أجمعوا على صحة هذين الكتابين، فما بعد كتاب الله إلا كتاب البخاري ومسلم، ولذلك ابن حجر الهيثمي في كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري ينقل عن ابن الجوزي أنه قال: بعد كتاب الله مباشرةً صحيح البخاري، أوثق الكتب بعد كتاب الله.

هذه الدعوى لا بد أن تكون دقيقًا فيها ولا تأخذ الأمور بعواهنها، أنا الآن أثبت لك على أنه حتى إخواننا أهل السنة غير متفقين على أن البخاري صحيح بكل ما فيه. فليس هناك إجماع من قبل المسلمين ولا من قبل إخواننا أهل السنة على صحة ما في البخاري ومسلم. فالذهبي في كتابه الضعفاء في الرجال ج2 ص557 يقول: البخاري صاحب الصحيح من الضعفاء. فالذهبي لا يعتمد عليه ويعتبره من الضعفاء فكيف يعتبر كتابه صحيح بأكمله وهو يعتبره من الضعفاء؟!

ابن حجر في كتابه طبقات المدلسين ص 24 عندما يذكر محمد بن إسماعيل الذي هو البخاري قال: وصفه بالتدليس أبو عبد الله بن مندة - يعني أحد المشايخ وصف البخاري بأنه مدلّس - في كلام له وقال أخرج البخاري وقال فلان وقال فلان وهو تدليس. يرد على البخاري ويقول: ما قاله هو تدليس. ولم يوافق ابن مندة على ذلك - يعني ابن حجر ما وافق ابن مندة على كلامه. على أي حال ابن مندة يرى البخاري مدلس.

إذن واحد يراه من الضعفاء وواحد يراه من المدلسين مع أن ابن مندة والذهبي من علماء الرجال عند إخواننا أهل السنة. إذن ليس هناك اتفاق على صحة ما في البخاري، وهذا ما ذكره كثير من الكتاب المحدثين، فحينما تقرأ كتاب الدكتور حسن فرحان المالكي «قراءة في كتب العقائد» تجد أنه يذكر كثير من علماء إخواننا أهل السنة من الأوائل والأواخر من لا يرى صحة جميع ما في البخاري ومسلم.

العنصر الخامس: سر عدم وجود كتاب صحيح عند الشيعة.

كثير من الإخوة السنة يعترض ويقول: لماذا ليس عند الشيعة كتاب صحيح؟ لماذا إخواننا أهل السنة سبقونا في هذا المجال، حيث كتبوا صحيحين على الأقل، ونحن إلى الآن لم نكتب صحيحًا، نحن إلى الآن ما عندنا كتاب صحيح في الحديث بتمام معنى الكلمة، لماذا لا يجتمع علماؤنا ويكتبون كتابًا صحيحًا نعرف أنّ هذا الكتاب صحيح في أحاديثه مئة بالمئة؟ لماذا نحن متخلفون عن الركب وعن إخواننا أهل السنة؟

أجيبك عن ذلك بعدة وجوه:

الوجه الأول: وجود صحاح شيعية.

أنت ربما غير مطلع فاطّلع: لقد كُتِبَت كتب صحيحة لا أنها لم تُكْتَب، فراجع كتاب «منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان» للشيخ حسن بن الشهيد الثاني، فإنه كتاب مطبوع، وهو خاص بالأحاديث الصحيحة لدى الشيعة الإمامية. وراجع كتاب صحيح الكافي الذي كتبه الشيخ محمد باقر البهبودي، كتب هذا الكتاب واختار فيه الأحاديث الصحيحة من كتاب الكافيفقط، 5072 حديثًا صحيحًا و144 حديثًا حسنًا و1118 حديثًا موثقًا. هذه الأحاديث اختارها من كتاب الكافي وطبعه بعنوان صحيح الكافي، فلا تقل: ليس هناك كتاب صحيح عند الشيعة الإمامية.

الوجه الثاني: أهمية فتح باب الاجتهاد.

نحن الشيعة الإمامية نؤمن بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وبما أن باب الاجتهاد مفتوح فاختلاف العلماء في الأحاديث اختلاف وارد لأنهم مجتهدون، فحديث واحد قد يكون صحيحًا لدى فقيه وقد يكون ضعيفًا لدى فقيه آخر، ولأن باب الاجتهاد مفتوح فموازين التوثيق والتضعيف تختلف بين العلماء، فمثلًا: مراسيل ابن أبي عمير هل هي حجة أو ليست بحجة؟ بعض العلماء يراها حجة مثل السيد الصدر، وبعض العلماء لا يراها حجة مثل السيد الخوئي. مثلًا: من مدحه المعصوم يُعد ثقةً أم لا؟ بعض العلماء يرى ذلك دليل على الوثاقة كالشيخ المامقاني، وبعض العلماء لا يرى ذلك دليل على الوثاقة كالسيد الخوئي. من كان من أصحاب الإجماع فهل حديثه حجة أم لا؟ السيد الخوئي يقول ليس بحجة، وغيره من الفقهاء يقول بأنه حجة.

إذن، باب الاجتهاد مفتوح، ومقتضى انفتاح باب الاجتهاد أن يختلف الفقهاء في موازين قبول الحديث ورفضه، ولأجل اختلافهم فيها يختلفون في الأحاديث فرب حديث صحيح عند فقيه ضعيف عند فقيه آخر، ولذلك يختلفون في الفتوى، ترى فقيهًا يفتي على كذا وآخر يفتي على خلافه، هناك رواية هذا يراها صحيحة وهذا يراها ضعيفة، يختلفون في موازين القبول والرفض فيختلفون في الأحاديث فيختلفون في الفتاوى، وهذه حالة إيجابية وليست حالة سلبية، هذه تدل على ثراء المذهب وأن المذهب الشيعي مذهب ثري تتعدد فيه المناهج والمدارس والاتجاهات، من ثراء هذا المذهب وقوته وعظمة هذا المذهب انه فتح باب الاجتهاد على مصراعيه في جميع الحقول، ولأجل ذلك تعددت المدارس وتعددت الاتجاهات وتعددت المناهج في الأحاديث، في الفتاوى، في المفاهيم، نتيجة انفتاح باب الاجتهاد.

لو أننا دعونا الشيعة الإمامية إلى أن يكتبوا كتابًا صحيحًا عند الجميع، بحيث لا يعترض عليه أحد، إذن أغلقنا باب الاجتهاد! عندما نقول هذا الحديث صحيح فلا يناقش فيه أحد إذن أغلقنا باب الاجتهاد، صحيح أن الشيخ حسن بن الشهيد الثاني كتب كتاب منتقى الجمان، والبهبودي كتب كتاب صحيح الكافي، ولكن هذا لا يعني أنه لا حق للعلماء في مناقشة ونقد هذين الكتابين، كلا، لو قلنا لا حق لأحد في النقد والمناقشة لكان ذلك إغلاقًا لباب الاجتهاد، ويُعدّ تخلفًا وحالة سلبيةً في المذهب، ألا ينفتح على الآراء المختلفة والنظريات المتعددة والمدارس المتغايرة.

الوجه الثالث: لا ملازمة بين صحة السند وصحة المضمون.

ليس كل صحيح السند صحيح المضمون، فقد يكون صحيح السند لكن هذا لا يعني أن مضمونه صحيح، ونحن لا نعمل بكل حديث صحيح السند، بل لا بد أن يكون مضمونه صحيحًا مضافًا لصحة سنده. الصحيح السند ما كان رواته ثقاة، وقد يكون الرواة ثقاة، ومع ذلك لا نعتمده ولا نفتي على طبقه؛ لأن مضمونه مضمون غير صحيح، فنحن نشترط بالعمل بالحديث أن يكون صحيح السند، صحيح المتن، صحيح المضمون، وإلا فإذا لم يكن مضمونه صحيحًا فنحن لا نعمل به ولا نعوّل عليه.

إذن، لا داعي لتأليف كتاب صحيح، فقد يختلف المجتهدون في الأمر، هذا يختلف باختلاف المجتهدين، فما هي الحاجة أن نؤلف كتابًا صحيحًا؟! فلنقل لدينا كتاب الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي، ووسائل الشيعة للحر العاملي، وكتاب البحار للشيخ المجلسي، فالمجتهد هو الذي يأتي ويستقرئ الأحاديث حديثًا حديثًا، كل حديث جامع لشرائط القبول وصحيح المضمون يعمل به، والحديث الذي ليس كذلك يرفضه، فنحن لسنا في حاجة ماسة إلى أن نؤلف كتابًا صحيحًا، لأننا لا نعتمد على الحديث الصحيح السند، وإنما نعتمد على الحديث الصحيح من تمام الجهات سندًا ومتنًا ومضمونًا، ولأبين لك ما معنى صحيح مضمونًا أذكر بعض الشروط التي نشترطها في صحة المضمون.

الشرط الأول: ألا يكون الحديث له أصل إسرائيلي.

لو وجدنا الحديث صحيح السند ورواته ثقات، لكن له أصلًا إسرائيليًا، أي: له أصل في التوراة الموجودة بين أيدي اليهود، فهذا يشككنا في الاعتماد على هذا الحديث، وإن كان رواته ثقاة. مثلًا: عندما تراجع التوراة الموجود بين أيدينا الآن، تجد فيه أن الله تبارك وتعالى يجلس على كرسيه في السماء وعن يمينه وشماله عباده الصالحون، نفسه هذا تجده في كتاب مجموع الفتاوى المجلد الخامس ص527 ينقل صاحب الكتاب عن شيخ الإسلام قال: مما جاءت به الآثار عن النبي محمد أنه إذا جلس الله تبارك وتعالى على الكرسي سُمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد، فهذا الحديث حتى لو كان صحيحًا سندًا لكن له أصلًا إسرائيليًا، فكيف نعتمد عليه ونذهب إلى تجسيم الله تبارك وتعالى؟! ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

الشرط الثاني: ألا يكون الحديث مخالفًا لما هو ضرورة من ضروريات الدين.

إذا كان الحديث كذلك فنحن نرفضه حتى لو كان في كتب الشيعة، فمثلًا: لدينا رواية في الكافي تقول: ”إن القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمد وسلم سبعة عشر ألف آية“. ولقرآن لا يصل سبعة آلاف آية، فكيف سبعة عشر ألف آية؟!! فهذا الحديث إما أن النساخ بدل أن يكتبوا العدد المعين كتبوا سبعة عشر ألف فأخطؤوا بالكتابة... على أي حال الحديث مرفوض عندنا، ولا نعمل به وإن ورد في كتاب الكافي، ليس صحيحًا مضمونًا لأنه مخالف لما هو ضروري من ضروريات الدين، وهو عدم تحريف القرآن الكريم من الزيادة والنقص.

ولهذا، إذا تراجع الكافي تجد في آخر كل باب باب يسميه النوادر، وهذه النوادر يعني الأحاديث الشاذة، وهذا الحديث وضعه في قسم النوادر، فأنت حينما تقرأ الكافي تجد أن الكافي لا يعتمد على هذا الحديث، ولهذا ذكره في قسم النوادر أي الأحاديث الشاذة، فلا حاجة للتحامل على الكافي وأنه ذكر رواية تشتمل على تحريف القرآن، لأن صاحب الكافي نفسه ذكر هذه الرواية في قسم النوادر، أي في قسم الأحاديث الشاذة، وهو لا يعتمد عليها.

وليس الأمر خاصًا بالكافي، فهذا الشيخ السيوطي من علماء إخواننا أهل السنة في كتابه الإتقان ذكر عن بعض الصحابه أنه كان مما نزل على النبي : «إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا وعلى الذين يصلون في الصفوف الأولى». هذه الرواية مرفوضة لأنها تشتمل على تحريف الكتاب، فلا نعتمد على نقل السيوطي لها، كما لا نعتمد على نقل الكافي لمثل هذه الرواية.

الشرط الثالث: ألا يكون الحديث مخالفًا للعقل وبديهته ومرفوضًا عنده.

مثلًا: في صحيح البخاري ج1 ص449 الطبعة الثالثة يقول: عن أبي هريرة عن النبي لما أُرسل ملك الموت إلى موسى بن عمران فلما جاءه - يعني جاء ملك الموت إلى موسى - صكه موسى وفقأ عينه، فرجع إلى ربه وقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت! هل حينما تقرأ صحيح البخاري يقبل عقلك أمثال هذه الروايات؟! إذن فبالنتيجة: ليس كل ما هو صحيح سندًا صحيحًا مضمونًا حتى نعتمد عليه ونعمل به. هذا ما أردنا بيانه من موقف المسلمين من السنة النبوية الصادرة على لسان المصطفى محمد ، والمعول عندنا على الرجوع لأهل بيته، ”إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“.