الدرس 84

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

الوجه الثالث: أن يقال: بأنَّ المستفاد من أدلة الترخيص مثل أصالة الحلّ:

أمّا الترخيص المطلق، أو الترخيص للمتعلق المشروط، أو الترخيص المشروط. فإذا علم إجمالاً مثلاً بحرمة أحد اللحمين، وقلنا بجريان أصالة الحلّ، فحينئذٍ: المستفاد منها إمّا الحلية المطلقة لكل منهما، ولازم ذلك: الترخيص في المخالفة القطعية؛ وإمّا الترخيص للمتعلق المشروط، أي: أنّ الشارع جعل الحليّة للأكل المشروط بترك الآخر، بحيث يرجع الشرط إلى الأكل لا إلى الترخيص، فيحل لك أكل اللحم - أي حصة من الأكل - وهي الأكل المشروط بترك الآخر، وهذا فاسد، والسر في ذلك:

إنّ الأكل المقيّد بما هو مقيّد ليس له حكم واقعي كي يكون له حكم ظاهري، فإن الأكل المقيد بترك الآخر لم يوضع له حكم في الواقع بما هو مقيد كي نبحث عن الوظيفة الظاهرية عند الشك في حكمه الواقعي، فإن المتعلق للحكم الواقعي هو الأكل المطلق - أي الأكل لا بشرط -، أمّا الأكل المقيد بالترك بما هو مقيد قطعا ليس له حكم واقعي بإزائه كي نبحث عن الوظيفة الظاهرية. وإن أريد ارجاع القيد إلى الترخيص نفسه أنّ القيد في الحليّة لا في متعلقها، فحلية أكل هذا اللحم مشروطة بترك الآخر، فالشرط في الحليّة لا في متعلقها، فحينئذٍ: يرد عليه أنّ هذا الحكم الظاهري وهو الحليّة المشروطة نقطع بعدم تطابقها مع الواقع. والسر في ذلك:

إنّ ما هو المجعول واقعاً إمّا الحرمة المطلقة أو الحليّة المطلقة، فالشارع فيما إذا كان هناك لحم حرام ولحم حلال فأحدهما واقعاً حرام مطلقاً والآخر واقعاً حلال مطلقاً، فلا توجد في الواقع حرمة مشروطة ولا حليّة مشروطة. وبالتالي: فدعوى إنّ الحكم الظاهري هو الحلية المشروطة باطلة، لأنّه يعتبر في الحكم الظاهري أن يكون محتمل المطابقة للحكم الواقعي، وإمّا إذا قطعنا بعدم مطابقته للواقع جزماً فحينئذٍ يلغوا استفادته من دليل الأصل الترخيصي.

والسيد الشهيد «قده» منع من الكبرى، قال: لا برهان على أنّه يشترط في الحكم الظاهري أن يكون محتمل المطابقة مع الواقعي، بل يكفي في الحكم الظاهري أمران: 1 - الشك في الحكم الواقعي، وإن يكون هذا الحكم الظاهري صالحاً لتنجيز الواقع. 2 - أو للتعذير منه. وإمّا أن يشترط احتمال تطابقه مع الحكم الواقعي فلا دليل عليه.

ولكن قد يقال بتمامية الكبرى، أي: أنّ حقيقة الحكم الظاهري هي الطريقية، أي: الطريقية للحكم الواقعي؛ أو لحال الحكم كما عبّر الشيخ الانصاري في الرسائل، فإن الحكم الظاهري إمّا منقح للحكم الواقعي كما لو كان إمارة فإن له مقام الحكاية، أو منقح لحال الحكم، بمعنى: أنّ الغرض منه تنجيز الحكم الواقعي أو التعذير منه، فهو منقح لحاله من تنجيز أو تعذير ومقتضى كون الحكم الظاهري منقحاً للواقع أو لحاله: أن يكون محتمل المطابقة، وهذا هو معنى ما أخذه السيد الشهيد شرطاً وهو أن يكون صالحاً لتنجيز الحكم الواقعي أو التعذير منه.

وإنّما البحث في الصغرى، وهي: دعوى أنّ الحليّة المشروطة ليست مطابقة لواقع جزماً.

والجواب عن ذلك: أنّه تارة ندّعي أنّ الشرط قيد ثبوتي في الحليّة. وتارة ندّعي أنّه قيد إثباتي - أي في مقام الدلالة -.

فلو كان المدّعى أنّ الشرط قيد ثبوتي: أنّ ما جعله المشرّع في المقام هو حليّة؛ فحينئذٍ: يرد الإشكال، لأننا نقطع أنّ الواقع ليس فيه إلّا الحرمة المطلقة أو الحلية المطلقة.

وأمّا إذا كان المدعى هو الضيق في عالم الدلالة: لا إن المنكشف مقيد، وإنّما نحن قطعنا بأن الإطلاق الأحوالي ساقط وشككنا في أنّ الإطلاق الأفرادي ساقط عن الحجية أم لا؟!، فمقتضى أصالة الحجية: بقاؤه. فليس معنى الحلية المشروطة إلّا معالجة إثباتية لا أننا نعتقد أنّ المشرع جعل حلية مشروطة، إنما نقول: بأن الإطلاق الأحوالي لهذا الخطاب ساقط جزماً، ونشك في أن الإطلاق الأفرادي باق على الحجية أم لا؟. ومقتضى اصالة الحجية بقاؤه ومقتضى بقائه: إنّ كلاً منهما حلال في ظرف ترك الآخر لا بقيد ترك الآخر فهو حلال في هذا الفرض ولا نحرز حليته بأوسع من ذلك، فالقصور والضيق إثباتي لا أنّه إنّ المدّعى جعل الحلية المشروطة كي يقال بأنّ هذا حكم الظاهري نقطع بعدم تطابقه مع الواقع.

فإن قلت: بأنّ ما أُفيد في بحث الواجب المشروط من أنّ قيود الحكم تسري للمتعلق. مثلاً: إذا كان وجوب الظهر والعصر مقيّداً بالزوال فلا محالة سوف يكون المتعلق هو الظهر بعد الزوال فقيود الحكم تسري لمتعلقه، فمتى ما كان الوجوب منوطاً بالزوال فالواجب لا يصح إلّا بعد الزوال، ولذلك قيل قيود الوجوب قيود للواجب، أي قيود للصحة أيضاً، فيقال في المقام: إذا كانت الحلية - أي حلية أكل هذا اللحم المشكوك - مشروطة بترك الآخر فمتعلّق الحلية أيضاً أصبح مشروطاً، فالحلال هو الأكل المقيد بترك الآخر، فرجعنا للإشكال الثاني: وهو أنّ الأكل المقيد بما هو مقيد ليس له حكم واقعي فضلاً عن الظاهري.

والجواب: إنّ الإباحة ليست مشروطة، وإنّما هو قصور في مقام الإثبات، ولو سلّمنا إنّها مشروطة فهذا المشتهر من أنّ قيود الحكم تسري لمتعلقه ذكر في بحث الواجب المشروط حقيقته، وهي أنّ التقييد اللحاظي للحكم يوجب الضيق القهري للمتعلق لا التقييد اللحاظي بمعنى أنّ المولى لو قيّد الوجوب تقييداً لحاظياً بفرض الزوال قهراً لا تشمل صلاة الظهر صلاة الظهر قبل الزوال، فالضيق في المتعلّق ذاتي قهري وليس تقييداً لحاظياً، فما قام به المولى هو تقييد الوجوب بالزوال ولكن عالم الامتثال لا يتحقق امتثال الأمر بالظهر بالظهر قبل الزوال فهذا ضيق في مقام الامتثال وليس تقييداً لحاظياً للمتعلق في مرحلة الجعل. غاية ما في الباب تارة نقول:

بأنّ التقابل بين التقييد والإطلاق تقابل الملكة والعدم. فمقتضى تقيد الوجوب تقييداً لحاظياً: خروج المتعلق عن قابلية الإطلاق والتقييد، إذ لأنّه لما ضاق المتعلق قهراً لم يعد قابلاً للتقييد اللحاظي ولا للإطلاق اللحاظي فخرج عن قابليتهما قهراً.

وأمّا إذا قلنا بأن التقابل بين التقييد والاطلاق تقابل الضدين: كما هو مسلك سيّدنا، فلا محالة ضيق المتعلق قهراً يمنع من تقييده لحاظاً ولكنّه لا يمنع من إطلاقه لحاظا، بمعنى أنّ المولى يلاحظه رافضاً للقيود وإن كان في مقام الامتثال متضيقاً قهراً بالصلاة بعد الزوال.

وأما إذا قلنا بمسلك السلب والايجاب: كما هو مسلك السيد الشهيد فلا مانع من اجتماع الإطلاق مع الضيق القهري فالمتعلّق ضيّق ذاتاً والمولى لم يلاحظه مقيداً لأنّ معنى الإطلاق على مبنى السيد الشهيد عدم لحاظ القيد لا للحاظ رفض القيد.

الوجه الرابع: ما أفاده السيد الشهيد جواباً عن شبهة التخيير، وذلك في مقدمتين:

المقدمة الأولى: لا إشكال أنّ كل حكم واقعي أو ظاهري له مدلولان: مدلول مطابقي وهو مصب الحكم؛ ومدلول التزامي وهو مصب الملاك. فإذا قال المولى «أقم الصلاة» فإنّ مدلوله المطابقي أنّ مصب الوجوب هو الصلاة، ومدلوله الالتزامي أنّ مصب الملاك هو الصلاة أيضاً، وكذلك إذا قال: «خبر الثقة حجة»، فإنّ مدلوله المطابقي أنّ مصب الحجية خبر الثقة، ومدلوله الالتزامي أنّ في التمسك بخبر الثقة ملاكاً اقتضى جعل الحجية له. وبناءً على ذلك: فالترخيص التخييري حكم من الأحكام، وهذا الحكم إن كان واقعياً تُصور أن يكون مدلوله الإلتزامي وهو ثبوت الملاك تارة في الجامع، وأخرى في الطرف المشروط، بمعنى لو أنّ المولى - على نحو الترخيص الواقعي وليس الظاهري - قال: بأنّ المكلف «مخيّر بين صلاة الليل وزيارة عاشوراء»، وقال المولى: «أنت مرخص ترخيصا تخييرا واقعيا في أي طرف منهما»، فحينئذٍ: هذا الترخيص التخييري يتصور على نحوين:

النحو الأول: أن يكون مصبه الجامع. بأن يقول المولى: «رخصت لك في أحدهما»، فمصب الترخيص هو الجامع، ومدلوله الالتزامي أن الملاك في الجامع.

النحو الثاني: أن يقول المولى: «رخّصت لك في زيارة الحسين إن تركت صلاة الليل أو رخصت لك في صلاة الليل إن تركت زيارة الحسين .». وحينئذٍ: يكون مدلوله المطابقي مصب الترخيص كل منهما مشروطا بترك الآخر، وكذلك مصب الملاك، أي: أنّ كل منهما راجح إن ترك الآخر. ففي الترخيص الواقعي التخييري يتصور كل من النحوين.

أما في الترخيص التخييري الظاهري فلا يتصور الملاك الا في الجامع؛ والسر في ذلك: إنّ حقيقة الحكم الظاهري مبنية على التزاحم الحفظي، فالحكم الظاهري هو الملاك الأرجح في مقام التزاحم الحفظي. مثاله: لو كان لدينا لحم حرام وحلال، واشتبه أحدهما بالآخر، فتارة يرى الشارع: أنّ الملاك الأهم هو الملاك الالزامي فيأمر بالاحتياط. وتارة يرى: أنّ الملاك الأهم هو الترخيصي، فيرّخص في كليهما وإن وقعت في المفسدة، ولكن الملاك الترخيصي أهم. وتارة يرى الشارع: أنّ في أحدهما ملاكاً لزومياً وفي الآخر ملاكاً ترخيصياً وهما متساويان في الأهمية، فحيث إنّهما متساويان في الأهمية، إذاً: فملاك الترخيص في الجامع لا محالة وليس ملاك التخيير في الحرام الواقعي ولا في الحلال الواقعي، وإنّما ملاك التخيير في أحدهما.

بعبارة أخرى: بما أنّ الملاك اللزومي مهم فمقتضى أهميته أن لا يرخص في كليهما، لأنّه لو رخص في كليهما لضيّع الملاك اللزومي، ومقتضى كون الملاك الترخيصي مهماً أن لا يمنع من كليهما، لأنّه لو منع من كليهما لفوّت الملاك الترخيصي فمقتضى التساوي بين الملاكين: حفظ كليهما. ومقتضى ذلك: أن يقول لا يحرم عليك كلاهما ولا يجوز لك كلاهما. إذاً: فملاك التخيير في أحدهما المعبّر عنه بالجامع فلا يتصور في الأحكام الظاهرية أن يكون الملاك في الأحد المشروط وإنما المتصور في التخيير الظاهري أن يكون الملاك لا محالة في أحدهما لا في كل منهما مشروطا بترك الآخر.

والحمدُ لله ربِّ العالمين