الدرس 85

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

لازال الكلام في بيان مطلب السيّد الشهيد جواباً عن شبهة التخيير، حيث أفاد مقدمتين:

المقدمة الأولى: أنّ هناك فرقاً بين الترخيص التخييري الواقعي والترخيص التخييري الظاهري، والفرق بينهما من جهتين:

الجهة الأولى: إنّ التخيير الواقعي حيث إنَّ ملاكه في متعلقه، فلأجل ذلك: يتصور أن يكون التخيير فيه منصباً على الجامع، بأن يقول «اكرم أحد الرجلين»، أو يكون منصباً على كل طرف مشروطاً بترك الآخر، بأن يقول «اكرم زيدا ان لم تكرم بكرا»، فحيث إنّ ملاك التخيير في المتعلق، فيحتمل أن يكون ملاك التخيير قائماً بأحدهما ويحتمل إن يكون قائماً بكل منهما في فرض ترك الآخر. بينما في التخيير الظاهري لا محالة يكون ملاكه في الجامع أي في أحدهما؛ والسر في ذلك:

إنّ الحكم الظاهري ملاكه تقديم أحد الملاكين المتزاحمين تزاحماً حفظياً، فليس ملاك الحكم الظاهري في متعلقه حتّى نقول يحتمل أن يكون الملاك في أحد الطرفين أو كل منهما مشروطاً بل الملاك ليس إلّا في الصياغة التي يحفظ بها المولى التزاحم الحفظي، ولأجل ذلك: إذا تزاحم غرضان غرض لزومي وغرض ترخيصي كما لو كان لدينا لحم ميتة ولحم مذكى واشتبه علينا الميتة بالمذكى، فنتيجة الاشتباه: حصول تزاحم في الحفظ، أي: أن المولى يحفظ أيّاً من الملاكين بعد اشتباههما، فتارة نفترض أن أحدهما أهم أي أنّ الملاك اللزومي أهم من الترخيصي مطلقاً فالحكم الظاهري حينئذٍ وجوب الاحتياط حفظا للملاك اللزومي، وإن افترضنا أنّ الأهم هو الترخيص، أي أنّ في تناول المذكى مصلحة أهم من مفسدة لحم الميتة، فمقتضى التحفظ على هذا الملاك الأهم أن يرخص في كليهما ويضحي بملاك لزومي.

وأمّا إذا افترضنا أنّ لا أهمية لأحدهما على الآخر، إذاً: فملاك الحكم الظاهري ليس في اللزومي ولا في الترخيصي بل في أحدهما إذ ما داما متساويين فملاك الحكم الظاهري وروحه في أحدهما، لأنّ أيّاً منهما أختاره فقد اختار غرضا مهما للمولى فليس الملاك في أحدهما المعين بل الملاك في أحدهما الجامعي إذ المفروض التساوي بينهما. وعلى كل حال في التخيير الواقعي يتصور أن يكون ترك الآخر دخيلاً في الملاك، بأن يقال: ملاك الترخيص في زيد إنّما يتمّ إذا ترك إكرام عمرو فتصور أن يكون لترك إكرام عمرو دخل في ملاك إكرام زيد، إذ ما دام الملاك في المتعلق فيتصور أن يكون ترك طرف دخيلاً في حدوثه.

أمّا في التخيير الظاهري من الواضح أنّ ترك الآخر أو فعله لا دخل له في الملاك، لأنّ التخيير الظاهري ملاكه تقديم الأهم أو تقديم أحدهما إن كانا متساويين، فإن كان أحدهما أهم فهو متقدم على كل حال ترك الآخر أو فعله، وإن لم يكن أحدهما أهم كان الملاك في الجامع ترك الآخر أو فعله، فلا يتصور في ملاك التخيير الظاهري أن يكون لترك الطرف الآخر دخل في الملاك.

وعلى هذا الاساس يقول السيد: بأنّ ملاك التخيير الظاهري لا محالة لا يكون في الفعل المشروط كما يتصور في التخيير الواقعي، بل إن كان أحدهما أهم كان ملاكه فيه وإن كانا متساويين كان ملاكه في الجامع فهذا هو الفرق بين ملاك التخيير الواقعي وملاك التخيير الظاهري.

الجهة الثانية: إنّ الحكم الواقعي له مقامان: مقام الصياغة الاعتبارية ومقام الملاك؛ ولذلك نقول: بأنّ دليل الحكم الواقعي له مدلولان مطابقي وإلتزامي، مثلاً: إذا قال «اقم الجمعة» فهذا حكم واقعي فله مقامان، مقام الوجوب: وهو مقام اعتبار وجعل، ومقام الملاك: وهو مقام واقعي نفس أمري أي ثبوت المصلحة في صلاة الجمعة، لذلك ينطبق ل «أقم الجمعة» مدلولان: 1 - مطابقي وهو إلزام المكلف؛ 2 - والتزامي وهو أنّ في الجمعة محبوبية إمّا في الحكم الظاهري فملاكه في اعتباره وليس شيئا آخر، فلا يوجد له مقامان بأن نقول هناك اعتبار وجعل وهناك ملاك وراء هذا الاعتبار والجعل بل إنّما يتحقق ملاك الحكم الظاهري بهذا الاعتبار والجعل وليس بشيء آخر.

فلأجل ذلك خطاب الحكم الظاهري كما لو قال «احتط» أو قال «رخصت لك»، فهذا الخطاب لا ينحل لمدلولين بلحاظ مقامين، مدلول مطابقي بلحاظ مرحلة الجعل ومدلول التزامي بلحاظ مرحلة الملاك كما في الحكم الواقعي، وإنّما خطاب الحكم الظاهري ينحل لمدلولين حاكيين عن مقام واحد، المدلول الانشائي والمدلول الجدي؛ فالانشائي يقول: إن قال المولى إن علمت إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين فاحتط، «واحتط» لها مدلول انشائي وهو ما يعبّر عنه بالمراد الاستعمالي، أي: أراد أن يفهم الاحتياط ومدلول تصديقي، أي أن وجوب الاحتياط فعلي، وهذا المدلول الفعلي هو ملاك الحكم الظاهري، أي أن في هذا الاحتياط تقديما للملاك الأهم من الملاكين المتزاحمين تزاحما حفظيا فحقيقة الحكم الظاهري ليست شيئاً وراء حفظ أحد الملاكين لا أنّ للحكم الظاهري عالم جعل وعالم حفظ، ليست حقيقة الحكم الظاهري إلّا حفظ أحد الملاكين المتزاحمين بالجعل، فإذا قال المولى «احتط» فنفس قوله «احتط» حفظ للملاك الأهم في التزاحم الحفظي حفظ بالجعل وهو الحكم الظاهري.

بناءً على المقدمة الأولى يبتني الكلام في المقدمة الثانية، أفاد «قده»: إذا ورد خطاب خاص ودلّ على التخيير الظاهري بالنحو المشروط، كما لو قال المولى بخطاب خاص «إيها العبد إذا علمت بنجاسة أحد الإنائين فقد رخصت لك في شرب أي منهما مشروطاً بترك الآخر» فقد ورد دليل خاص بنفس التخيير المشروط، فالسيد هنا يقول: إذا ورد دليل خاص بذلك نقول المدلول الانشائي لهذا الدليل هو الترخيص المشروط في كل منهما والمدلول التصديقي الجدي إنّ المولى يريد حفظ أحد الملاكين بهذا الجعل، فإذا ورد في دليل ذلك أخذنا بظاهر الدليل.

أمّا إذا لم يرد دليل خاص ولكن نحن والإطلاقات فنحن مثلاً لدينا علم إجمالي بحرمة أحد اللحمين ولدينا دليل لأصل عملي وهو دليل أصالة الحل، فهل يمكن أن يستفاد من هذا الدليل وهو دليل أصالة الحل حكم ظاهري مفاده وحقيقته انّ حفظ أحد الملاكين في كلّ منهما مشروطاً بترك الآخر أو في الجامع، يقول هذا يحتاج إلى مؤونة لأن غاية التعارض أي أنّ شمول دليل أصالة الحل للطرف الأول معارض بشموله للطرف الآخر، لأنّ في شموله لكليهما ترخيصاً في المخالفة القطعية غاية التعارض أننا نقول بان الإطلاق الأحوالي لدليل أصالة الحل ساقط في مقام الإثبات، وأمّا سقوط الإطلاق الأحوالي لدليل أصالة الحل في مقام الإثبات نتيجة التعارض شيء واستفادة أنّ حكم ظاهري حقيقة قائمة بالجامع شيء آخر، فهذا يحتاج إلى مؤونة.

إذاً: فإشكال السيد يكمن في هذه النقطة، وهو أن لما كان التخيير الظاهري حقيقته في حفظ أحد الملاكين أي في الجامع لا في كل طرف مشروط فهذا الحكم الظاهري الذي حقيقته حفظ أحد الملاكين إن قام دليل خاص عليه أخذنا به، وأمّا إذا لم يقم دليل خاص عليه فلا يمكن استخراجه من الدليل العام وهو أصالة الحل؛ إذ غاية ما نستفيده من دليل أصال الحل: أنّها لا تشمل الطرفين وأن الإطلاق الأحوالي ساقط بالمعارضة، أمّا مدلوله الجدي هو جعل الحلية لكل منهما مشروطا بحيث يكشف عن حفظ الملاك في أحدهما فهذا مما يحتاج إلى مؤونة زائدة لا يفي بها دليل أصالة الحل. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل واحداً كدليل أصالة الحل وبين أن يكون متعدداً كما لو فرضنا أن في أحد الطرفين أصالة الحل وفي الآخر أصالة الطهارة إذ نعلم إجمالاً إمّا بحرمة هذا أو نجاسة هذا، فحينئذٍ لا فرق بين المطلبين في أنّه نفس الدليل العام لا يفي باستكشاف حكم ظاهري حقيقته حفظ أحد الملاكين كان الدليل واحداً أو متعدداً.

فما أشكل عليه المقرر من أنّ هذا إنّما يتم في الدليل الواحد لا المتعدد غير تام؛ فإنّ مركز كلامه «قده» أنّه لما كانت حقيقة التخيير الظاهري هي عبارة عن حفظ أحد الملاكين بالجعل فهذه الحقيقة لا تُستكشف إلّا بدليل خاص، وأمّا الدليل العام غاية ما نستفيده سقوط إطلاقه الأحوالي.

يمكن أن يناقش السيد الشهد: بأن يقال: قد يتم إشكاله لو التزمنا بأننا نريد أن نصل إلى حكم ظاهري حقيقته هو حفظ أحد الملاكين المتزاحمين عن طريق الجعل المشروط، وأمّا إذا قلنا ليست المسألة إلّا قصور في مقام الإثبات أي أن لدينا دليلاً وهو أصالة الحل، أو دليلين: دليل الحل والطهارة، وهذا الدليل سقط إطلاقه الأحوالي ونشك في سقوط إطلاقه الأفرادي، فإذا شككنا في حجية إطلاقه الأفرادي مقتضى أصالة الحجية: بقاؤه. ولكن لا يعني بقاؤه أنّ هناك حكماً ظاهرياً مشروطاً، بل غاية ما يفيد بقاؤه القضيّة المهملة وهي في قوة الجزئية أي أن نقول القدر المتيقن من بقاء الإطلاق الأفرادي لكل منهما أن في كل منهما حلية مهملة وهي في قوة الجزئية فلا نحرز الحلية إلّا في فرض ترك الآخر، فهذا القصور فينا لا أن المولى جعل حكم ظاهري مشروط كي يقال إنّ استفادة هذا الحكم الظاهري يحتاج إلى مؤونة زائدة.

وثانياً: على فرض أنّ المطلوب استكشاف حكم ظاهري ترخيصي تخييري بالنحو المشروط، فإذا كان سقوط الإطلاق الأحوالي وبقاء الأفرادي جمعا عرفياً كما ذهب إليه المحقق العراقي، إذن انعقد لدليل أصالة الحل مدلول انشائي وهو الحلية المشروطة، وبضميمة الإرتكاز المتشرعي من أنّ حقيقة الحكم الظاهري التخييري قائمة في حفظ أحدهما يستفاد من دليل أصالة الحل بضميمة الإرتكاز مدلول التزامي وهو أنّ هذا المدلول الانشائي يكشف بالدلالة التصديقية عن ترخيص ظاهري حقيقته حفظ أحدهما.

والحمدُ لله ربِّ العالمين