أطروحة تجديد الفكر الديني ج1

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تدل على أنَّ الإسلام دينٌ ثابتٌ، منذ يوم ولادته، وحتى مجيء الآخرة. هناك أطروحةٌ تتناولها كثير من الأقلام، سواء كانت أقلامًا علمانية، أو كانت أقلامًا إسلامية، وهذه الأطروحة هي أطروحة التجديد. لماذا لا يكون الإسلام دينًا متجدّدًا، دينًا يواكب في مسيرته تجدّد الحضارة، وتجدّد الإنسان؟ نحن نتناول هذه الليلة والليلة القادمة هذه الأطروحة، ألا وهي أطروحة التجديد في الفكر الديني، ونتحدث عنها هذه الليلة من خلال ثلاث نقاط:

  • في مساحة التجديد.
  • في مظاهر وأنواع التجديد.
  • في البراهين التي طُرِحَت على ضرورة التجديد.
النقطة الأولى: مساحة التجديد.

القائلون بضرورة التجديد، أن الفكر الديني يجب أن يتجدّد، أين يريدون التجديد؟ في أي مساحة؟ في أي حقل؟ القائلون بالتجديد يقسّمون الدين إلى أصول وفروع، والفروع أيضًا تنقسم إلى فروع هي بمثابة الأركان، وفروع لا تكون كذلك، والفروع التي ليست من الأركان تنقسم إلى أحكام غيبية وأحكام غير غيبية، ولا بد من شرح هذه الأقسام حتى نعرف أين هو موقع التجديد.

أولاً: انقسام الدين إلى أصول وفروع.

الأصول هي عبارة عن المعتقدات: الاعتقاد بالتوحيد، الاعتقاد بالنبوة، الاعتقاد بالعدل الإلهي، الاعتقاد بالإمامة، الاعتقاد باليوم الآخر، وكذلك المعتقدات الضرورية الأخرى: الاعتقاد بالقبر، البرزخ، بالحساب، بالصراط، بالميزان. هؤلاء يقولون: نحن لا نطالب بالتجديد في العقائد، بل تبقى العقائد كما هي، ويبقى المسلم مسلمًا بعقيدته، نحن لا نطالب ولا ندعو ولا ننادي بالتجديد في الأصول، ولا ننادي بالتجديد في المعتقدات، المعتقدات كما هي، لا تغيير فيها ولا تبديل. أما الفروع فهي عبارة عن التكاليف: الواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات.

ثانيًا: انقسام الفروع إلى ركنية وغير ركنية.

الفروع أيضًا تنقسم إلى قسمين: قسم يعدّ من أركان الإسلام، ومن دعائم الإسلام، كوجوب الصلاة، ووجوب الصوم، ووجوب الحج، ووجوب الزكاة، ووجوب الجهاد، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه دعائم الإسلام، أركان الإسلام، لا نناقش فيها، لا تجديد فيها. لا أحد ينادي بالتجديد في وجوب الصلاة أو الصوم أو الحج أو الجهاد، هذه واجبات بمثابة الدعائم للدين الإسلامي، فلا تجديد فيها.

ثالثًا: انقسام الفروع غير الركنية إلى غيبية ومعللة.

القسم الذي ليس من الدعائم، ليس من الأركان، نحن ننوّعه أيضًا إلى نوعين: النوع الأول: الأحكام الغيبية، والنوع الثاني: الأحكام المعلّلة، ما هو الفرق بينهما؟ الأحكام الغيبية هي الأحكام التي لا يصل العقل إلى سببها، إلى ملاكاتها، إلى عللها، مثلًا: صلاة المغرب ثلاث ركعات، هنا العقل لا يصل إلى مغزى ذلك، لماذا ثلاث ركعات؟! الطواف بالبيت سبعة أشواط، لماذا سبعة وليس عشرة؟! رمي الجمار سبع حصيات، لماذا لا يكون أقل؟! هذه أحكام غيبية، العقل لا يصل إلى مداها، لا يصل إلى مغزاها، لا يصل إلى عللها، هذه الأحكام أيضًا لا تجديد فيها، نحن لا ندعو للتجديد في هذه الأحكام، عقولنا قاصرة عن أن تدرك مغزاها ومداها.

النوع الثاني: الأحكام الفرعية المعلّلة، أي: التي ندرك علتها، الأحكام التي ندرك عللها وأسبابها، هذه الأحكام المعللة إما لأن الشرع والأحاديث بنفسها أوضحت العلة، مثلًا: ما ورد عن الإمام الصادق : ”إن الله لم يحرم الخمر لاسمها، وإنما حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمرٌ“، لا فرق بين الخمر وبين أي مسكر آخر، هنا حكم معلّل، الإمام بيّن لنا العلة، وهي الإسكار. وأحيانًا المرتكز العقلائي يدرك العلة، وإن كان الشرع لم يفصح عن العلة، الشرع لم يفصح، لم يقل لنا ما هي العلة، ولكن المرتكز العقلائي يدرك علة الحكم، يدرك المغزى من هذا الحكم، يدرك السبب من وراء هذا الحكم.

إذن، عندنا أحكام غيبية لا ندرك بعقولنا علتها وسببها، وعندنا أحكام معللة، إما الشرع بيّن لنا علتها، أو أن المرتكز العقلائي أدرك العلة من وراء ذلك. مثلًا: الإسلام عندما يقول: العدل واجب، هل يحتاج إلى أن يقول ما هو السبب؟! السبب واضح، لأن العدل يتوقف عليه انتظام المجتمع، لا يحتاج الإسلام إلى أن يقول ذلك، الإسلام يقول: العدل واجب، الأمانة واجبة، الخيانة حرام. لا يحتاج أن يبيّن لنا ما هو السبب، لماذا الخيانة حرام؟! معلوم لماذا حرام، لماذا الغيبة حرام؟! معلوم لماذا حرام، لأن هذه كلها انتهاكات لحقوق الإنسان، فهي تفصم التواصل الاجتماعي، وتهدم الروابط الاجتماعي، لذلك حرّمها الإسلام.

الذين يقولون بالتجديد يقولون: لا بد أن يتجدّد الفكر الديني، في أي قسم؟! يقصدون القسم الأخير: الأحكام الشرعية المعللة، هذا القسم من الدين، هذا الحقل من الدين يجب أن يتجدّد، يجب أن يتغير بتغير الحضارة، يجب أن يتغير بتغير الإنسان، فهم يقصدون التجديد في قسم خاص، وفي حقل خاص، وفي نوع خاص، ألا وهو القسم الأخير الذي طرحناه وبيّناه، فهذا هو حقل التجديد.

النقطة الثانية: مظاهر وأنواع التجديد.

نحن عندما ننادي بوجوب تجدد الفكر الديني، فما هو التجديد المطلوب؟ التجديد له أربعة مظاهر: تجديد بالتغيير، تجديد بالإضافة، تجديد بالتضييق، تجديد بالتوسعة، وحتى تتضح هذه المظاهر الأربعة نضرب أمثلة.

القسم الأول: التجديد بالتغيير.

القرآن الكريم يقول: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى. علماؤنا منذ زمن النبي، وحتى يومنا الحاضر يقولون: شهادة المرأة نصف شهادة، رجل واحد يعادل امرأتين، لماذا لا يتغير هذا الحكم؟! هذا الحكم كان في وقت كانت المرأة أقرب إلى الضلال من الرجل، كما ذكر القرآن الكريم: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، كانت المرأة لأنها جاهلة غير متعلمة أقرب إلى الضلال من الرجل.

أما الآن فقد أصبحت المرأة أستاذة في الجامعة، أصبحت بروفيسورًا، أصبحت تقود دولًا ومجتمعاتٍ، أصبحت المرأة ذات ثقافة عالية، فليست أقل من الرجل، أي أن احتمال الضلال في المرأة ليس أكبر من احتماله في الرجل، بل كما يحتمل الضلال في المرأة يحتمل الضلال في الرجل. بما أن المرأة تغيّرت شخصيتها، تغيّرت ثقافتها، فلماذا يبقى علماؤنا يفتون بأن شهادة المرأة نصف شهادة؟! القرآن يقول: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، والآن صار هذا الكلام لا مجال له، بل صار هذا الأمر مشتركًا بين الرجل والمرأة، فلماذا لا يتغير هذا الحكم؟!

مثال آخر: الإسلام حرّم الربا، ﴿قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، لماذا حرم الربا؟ لأنه ظلم، كما قالت الآية الأخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، يعني المسألة هي مسألة ظلم، إنما حرم الربا لأن الربا ظلم، متى يكون الربا ظلمًا؟

إنما يكون الربا ظلمًا في فرض عدم تضخم العملة، فمثلًا: أنا أعطيك مئة دولار، وهذه المئة لا تعيش أي تضخم، هنا أنا عندما آخذ عليك مئة دولار وعشرة يعتبر ظلمًا، أما إذا كانت العملة تعيش حالة التضخم، كما هو في زماننا، النقد يعيش حالة التضخم، وليس كزمن النبي أو زمن الإمام علي أو زمن الإمام الصادق، الآن في زماننا النقد يعيش حالة التضخم، فعندما أعطيك مئة ريال عماني، فهذه المئة تعني سقفًا معينًا من القوة الشرائية، ولكنها بعد سنة تكون أقل من ذلك السقف من حيث القوة الشرائية، فكيف أعطيك مئة ريال وترجعها لي بعد سنة مئةً مع أنها نقصت عن قوتها الشرائية؟! أنا من أجل التدارك، حتى أتدارك تضخم العملة، من أجل تدارك التضخم أقول لك: مئة بمئة وعشرة، العشرة هذه تدارك لتضاخم العملة، هذا ليس ظلمًا، فليس الربا في زماننا ظلمًا؛ لأن الربا عبارة عن تدارك تضخم العملة، كان الربا في ذلك الزمان ظلمًا، إذ لا يعيش النقد تضخمًا، وأما في زماننا هذا فالفائدة الربوية تداركٌ لنسبة التضخم، فليست ظلمًا، وحينئذ لا مانع من الربا بهذا المقدار، فيتغير الحكم تبعًا لتغير علته، وتغير ملاكه.

القسم الثاني: التجديد الإضافة.

نحن في باب القضاء كيف نثبت الجريمة؟ لو ارتكب شخص جريمة، فكيف نثبتها؟ بالبينة، يشهد شاهدان على أن فلانًا ارتكب الجريمة، جريمة القتل مثلًا، ارتكب جريمة الاعتداء مثلًا، إذا شهد شاهدان بذلك ثبتت الجريمة. ألا توجد مثبتات أخرى؟! الآن العلم الحديث أضاف مثبتات أخرى، فلماذا لا يأخذ بها الفقهاء، ولماذا لا يعتمدها الفقهاء؟! مثلًا: التشريح وسيلة لإثبات الجريمة، هذا الإنسان الذي مات ولا نعلم سبب موته، مات خنقًا، مات شنقًا، مات بأي وسيلة، التشريح يثبت لنا نوع الجريمة. هذا الإنسان قتل شخصًا، دراسة البصمات تثبت لنا من هو المجرم، فلماذا لا نأخذ بها؟! لماذا نقول بأن البينة هي الطريق؟! شهادة الشاهدين هي الطريق لإثبات الجريمة، وأما الطرق العقلائية الأخرى فلماذا لا يعتمدها الفقهاء؟! لماذا لا يحصل تجديد في الدين باعتماد هذه الطرق؟! الإسلام إنما اعتبر شهادة الشاهدين مثبتًا للجريمة لأنها طريقٌ عقلائيٌ يوجب الوثوق، وهذه أيضًا طرق عقلائية تثبت الوثوق.

مثال آخر: كيف يثبت عندنا الهلال؟ كيف يثبت لنا أن القمر خرج من حالة المحاق وتولّد وبدأ الشهر الطبيعي الجديد؟ الفقهاء يقولون: بالرؤية، كما ورد عن الرسول محمد : ”صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته“، فالدليل هو الرؤية، أن يشهد بالرؤية. لماذا الرؤية؟! لماذا قال الإسلام: لا بد من الرؤية؟! هل لخصوصية وموضوعية في الرؤية؟! لا، إنما اعتبر الرسول الشهادة بالرؤية طريقًا لإثبات الهلال لأنها طريق عقلائي يوجب الوثوق، وتوجد الآن طرق عقلائية، ككلام الفلكيين، فلماذا لا يعتمده الفقهاء؟! الفلكيون الآن يحدّدون بالدقة المتناهية متى يتولد الهلال، وبأي حجم، وفي أي منزلة، يحدّدون كل ذلك بالدقة، فكما نعتمد الشهادة بالرؤية، فلنعتمد شهادة الفلكيين.

القسم الثالث: التجديد بالتضييق.

فقهاؤنا يقولون: الغناء حرام، فلماذا لا نضيّق هذا الحكم؟! الفقهاء يقولون: الغناء حرام، ويستدلون بالرواية المعتبرة عن الإمام الصادق أنه سئل عن الآية الكريمة: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ فقال: ”قول الزور هو الغناء“، فالإمام طبّق قول الزور في القرآن على الغناء، إذن الغناء زور يجب أن يجتنب، وهكذا أفتى الفقهاء بحرمة الغناء، ولكن الغناء الوطني ليس قول زور، والغناء الحماسي ليس قول زور، فلماذا لا نقول: الغناء الوطني حلال؟! لماذا لا نقول بأن الغناء الذي يذكّر الإنسان بالمفاهيم الإنسانية العليا ليس قول زور؟! مثلًا: لو تغنى الإنسان عن فلسطين، لو تغنى الإنسان عن مبادئ الشهادة، لو تغنى الإنسان بالأنبياء، بالأئمة، بالأبطال، هذا التغني يبعث في الأمة الحيوية، النشاط، يبعث في الأمة المثل الفاضلة، المثل العليا، فلماذا يكون حرامًا مع أنه ليس قول زور؟!

مثال آخر: لماذا الموسيقى اللهوية كلها حرام؟! الموسيقى اللهوية في زمن الإمام الصادق كانت منحصرة في قسم معين، مثلًا: جاء رجل إلى الإمام الصادق ، قال: سيدي، إنني ربّما دخلت الكنيف - أي: الخلاء - فسمعت الجواري يغنين، فأطلت الجلوس، قال له الإمام: ويحك! لا تفعل ذلك، ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا. قال: سيدي، أنا ما قصدته «يعني: أنا لم أذهب للحمام حتى أسمع الغناء، وإنما حصل في البين فسمعته استطرادًا!»، قال: ”ويحك! إنك على معصية، ما أسوأ حالك لو جاءك ملك الموت وأنت على هذه الحالة! قم واغتسل وتب إلى ربك“. وورد عن الإمام الصادق : ”الغناء ينفق في القلب النفاق كما ينبت الماء الزرع“. الفقهاء استفادوا من هذه الروايات حرمة الموسيقى اللهوية.

ربما يقول قائل: الموسيقى اللهوية تغيرت، الموسيقى اللهوية الآن تساعد على هدوء الأعصاب، الموسيقى اللهوية الآن تساعد المرأة المتعسرة في ولادتها على الولادة، بعض الموسيقى اللهوية الآن تساعد بعض النباتات على النمو، إذن هناك فوائد أخرى للموسيقى اللهوية، فإذا كانت لها فوائد أخرى فلماذا لا نضيّق الموضوع؟! نقول: الموسيقى المحرّمة هي الموسيقى التي لا تترتب عليها فوائد إنسانية، وفوائد اجتماعية، وينحصر وظيفتها في اللهو والطرب، لماذا لا يتغير الحكم الشرعي؟!

القسم الرابع: التغيير بالتوسّعة.

الحاج يقف يوم التاسع بعرفة من الزوال إلى الغروب، افترض أن ثلاثة ملايين قد حجوا سنة من السنين، وعرفة لا تحملهم، فأين يذهبون؟! لماذا لا نوسّع الموضوع ونقول: ليس الموقف منحصرًا بعرفة، بل الموقع يمتد إلى المناطق المقاربة للبيت الحرام، ولا يختص بهذا الحد الجغفرافي المعيّن؟!

مثال آخر: يجب رمي الجدار على هذا المبنى، كانت الجمرة في زمان النبي طولها متران مثلًا، فهل نلتزم ونقول: لا بد من رمي مترين لا أكثر من ذلك؟! لا يمكن لمليون حاج أن يرمي هاذين المترين، فلماذا لا يتوسّع في ذلك فيقال: الجمرة التي ترمى هي الموقع، سواء كان مترين أو كان خمسين مترًا؟! لماذا لا يتجدّد الفكر الديني بالتوسعة - توسعة الموضوع - بما يتناسب مع تلبية الحاجة، وبما يتناسب مع التطور، وبما يتناسب مع التغير؟! إذن، كان كلامنا في هذه النقطة الثانية حول أقسام التجديد التي ينادي بها من ينادي بالتجديد.

النقطة الثالثة: براهين ضرورة التجديد.

القائلون بالتجديد ما هو دليلهم؟ ما هو برهانهم؟ هم يطرحون برهانين: برهانًا عقليًا، وبرهانًا اجتماعيًا، وسوف أتعرّض للبرهان الاجتماعي في الليلة القادمة، وأكتفي هذه الليلة بالتعرض للبرهان العقلي. البرهان العقلي يبتني على مقدمة لا بد من أن نفهمها، وهي: كل شيء في الوجود متغير، فلماذا الدين لا يتغير؟! التغير العرضة - كما يقول الفلاسفة - أمارة على التغير الجوهري الذاتي.

مثلًا: أنت عندما تأخذ البذرة، وتضعها في التربة، وتضع معها السماد، وتسقيها بالماء، فإن البذرة بعد فترة يصبح فيها تغير ظاهري عرضي، تصبح سنبلة، ثم تتحول إلى شجرة، ثم إلى ساق وأغصان، ثم إلى شجرة مثمرة، هذا التغير تغير ظاهري، ولكن هذا التغير الظاهري يكشف عن تغير جوهري، يكشف عن تغير ذاتي، يعني: يكشف عن أن البذرة لم تتغير في الظاهر فحسب، بل تغيرت في الباطن، البذرة تغيرت في صميم ذاتها، وفي صميم كيانها، تغيرت البذرة من وجود إلى وجود آخر، هذا ما يعبّر عنه الفلاسفة: الحركة العرضية دليل على الحركة الجوهرية.

مثال آخر: النطفة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، هذا تغير عرضي، نطفة، علقة، مضغة، وعظام، هذا كله تغير عرض، هذه الحركة العرضية تكشف عن حركة جوهرية، تكشف عن أن النطفة عاشت في صميمها وفي ذاتها حركة وجود، من وجود لوجود آخر، هذه تسمى بالحركة الجوهرية، فالحركة الظاهرية دليلٌ على الحركة الواقعية، دليل على الحركة الذاتية.

إذن، كل شيء في الكون يتحرك، كل شيء في الكون يتغير، إلا الدين، ثابت لا يتغير، لماذا؟! بما أن كل شيء في الكون يتغير، وكل شيء في الكون يتحرك، فلماذا نقول: الدين ثابت؟! ”حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة“، وهذا شيء لا يتغير، لماذا؟! هذه مصادمة للقانون العقلي، القانون العقلي يقول: كل شيء في الوجود يتغير، فلماذا تصطدمون مع قانون عقلي ثابت وتقولون: الدين لا يتغير؟! هذا اصطدام مع القانون العقلي.

الإنسان يتغير، هل إنسان هذا القرن كإنسان ما قبل مئة سنة؟! تغيرت مفاهيمه، تغيرت حاجاته، تغيرت ميوله، فكيف يتعامل الدين مع إنسان هذا القرن كما يتعامل مع إنسان ما قبل سنة؟! تغير الإنسان يعني تغير الدين. إذن فبالنتيجة: بما أن كل شيء يتغير، فلا بد للدين أن يتغيّر، وإلا اصطدمنا مع القانون العقلي الذي قرّرناه: أن التغير العرضي دليلٌ على التغير الذاتي، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ.

هذا هو الدليل والبرهان العقلي على ضرورة تغير الدين، على ضرورة تجديد الدين، فبم نجيب عن هذا البرهان؟ نحن نجيب بوجهين أذكرهما بشكل مختصر.

الوجه الأول: التفريق بين الماديات والمجردات.

الشيء الذي هو خاضع للتغير هو الشيء المادي، وأما الشيء المجرّد فليس خاضعًا للتغير، وحتى يتضح ذلك أضرب مثالين: مثالًا للمادي، ومثالًا لغير المادي. مثال المادي: هذا الخشب الذي أنا جالس عليه الآن، كان أغصانًا في شجرة معينة، كل شيء مادي يحمل جهتين: جهة استعداد، وجهة فعلية. هذا المادي، هذا ساق الشجرة، كان بحسب الجهة الفعلية ساقًا، لكن بحسب الاستعداد كانت فيه قابلية لأن يتحوّل إلى كرسي، فهو بحسب الفعل فعلًا هو ساق شجرة، لكن فيه استعدادًا وقابليةً لأن يصبح كرسيًا، لأن يصبح سريرًا، وما دام فيه استعداد إذن هو قابل للحركة.

كل ما فيه الاستعداد فهو قابل لأن يتحرك، ويتحول من الاستعداد إلى الفعلية، كان فيه استعداد أن يصبح كرسيًا، فتحول من هذا الاستعداد إلى الفعلية، وصار كرسيًا بالفعل، الآن بعد أن صار كرسيًا لا زال أيضًا فيه استعداد وفيه فعلية، هو بالفعل كرسي، ولكن فيه استعدادًا أن يتحول إلى رماد، ما دام فيه استعداد أن يتحول إلى رماد إذن هو قابل لأن يتحرك، ويتحول بالإحراق من كرسي إلى رماد.

إذن، دائمًا الأشياء المادية هي بالفعل شيء، وهي بالاستعداد شيء آخر، كل شيء مادي هو فعلًا شيء، ولكن هو بالاستعداد شيء آخر. تأتي مثلًا إلى هذه النطفة: النطفة حيوان منوي يقذفه الزوج في رحم الزوجة، هذا الحيوان المنوي هو بالفعل حيوان منوي، ولكن هو بالاستعداد إنسان عاقل، ربما يكون أعلم العلماء، ربما يكون أشر الأشرار، ربما يكون أعظم الأبطال، هذا الحيوان المنوي الصغير هو بالفعل حيوان منوي، ولكنه بالاستعداد يمكن أن يغيّر التاريخ كله، ويقلب الدنيا رأسًا على عقب، ففيه فعلية، وفيه استعداد، وبما أنه يمتلك الاستعداد إذن هو يملك الحركة، فيتحول من الاستعداد إلى الفعلية، ويصبح شابًا بطلًا واعيًا عاقلًا، وبعد أن أصبح شابًا، لا زال فيه استعداد لأن يتحول إلى شيخ هرم مسن، ثم يتحول بالحركة إلى شيخ مسن هرم بالفعل، فكل مادي يحمل استعدادًا، وببركة الاستعداد يتحرك من الاستعداد إلى الفعلية. إذن، كل مادي يتغير لأنه يحمل استعدادًا، فهو يحمل حركةً.

أما المجرّد فلا يوجد فيه استعداد وفعلية، بل لا يوجد فيه إلا الفعلية المحضة، فمثلًا: حب الإنسان للجمال، أنا أحب الجمال، أنت تحب الجمال، فهل حب الجمال فيه فعلية واستعداد؟! لا، بل هو أمر مجرد عن المادة، لا يتغير، لا يتحرك؛ لأنه ليس فيه استعداد من جهة وفعلية من جهة حتى يتغير من الاستعداد إلى الفعلية، بل هو باق كما هو لا يتغير ولا يتبدل؛ لأنه محض الفعلية.

إذن، ليس كل شيء يتغير، وإنما الذي يتغير هو الماديات؛ لأنها تحمل الاستعداد، وأما المجردات عن المادة فهي غير قابلة للحركة، غير قابلة للتغير، لأنها لا تحمل الاستعداد، هذا الوجه الأول للجواب.

الوجه الثاني: التفريق بين الظواهر والقوانين.

الذي يتغير إنما هو الظواهر، وأما القانون الذي يحكم الظواهر فلا يتغير، حتى في الماديات، دع المجردات على جهة، نأتي للماديات فقط، حتى الماديات ليس كل شيء يتغير فيها، الذي يتغير في الماديات هو الظواهر، أما القوانين التي تحكم الظواهر فلا تتغير. مثلًا: نحن نأخذ كأس ثلج، ونضعه على النار، الآن هو ثلج، ثم تحوّل من كونه مادة متصلبة إلى مادة سائلة، بعد قليل يتحول من كونه مادة سائلة إلى مادة غازية، ما الذي تغير؟! الظاهرة تغيرت، المادة الجامدة ظاهرة، والمادة السائلة ظاهرة أخرى، والمادة الغازية مادة ثالثة، فالظواهر تغيرت، وأما القانون الذي يحكم هذه الظواهر فلم يتغير.

نحن عندنا قانون: إذا بلغت درجة حرارة الماء مئة فإنه يغلي، هل هذا القانون يتغير؟! في زمن آدم كان القانون موجودًا، وسيبقى بعد مليون موجودًا، فهذا القانون لا يتغير. إذن، حتى الماديات قوانينها لا تتغير، وإنما الذي يتغير هو الظواهر، ففرق بين تغير الظاهرة وتغير القانون.

إذن، هذه المقولة: «كل شيء يتغير» ليست صحيحة، ليس كل شيء يتغير، فإن المجردات لا تتغير، والماديات قوانينها أيضًا لا تتغير، فليس كل شيء في الوجود يتغير حتى يجب أن يتغير الدين لأن كل شيء يتغير، هذا خطأ.

نعم، الظواهر الاجتماعية قابلةٌ للتغير، فمثلًا: نحن ننعى على مجتمعاتنا، ترى الكثير من الغيارى الذين عندهم غيرة على الدين، وغيرة على المذهب، يقولون: مجتمعاتنا لماذا جامدة؟! لماذا لا تتغير؟! لماذا مجتمعاتنا الشيعية لا تملك كيانًا قويًا، لا تملك اقتصادًا قويًا، لا تملك إعلامًا قويًا، لا تملك قيادة قوية، لا تملك...؟! لماذا مجتمعاتنا الشيعية متخلفة من حيث الإعلام، من حيث الكيان الاقتصادي، من حيث الكيان الإعلامي، لماذا؟! هل هذا شيء لا يتغير؟! يمكن أن يتغير، الله «جل وعلا» يقول: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، إذا هم تغيروا فإن مجتمعاتهم تتغير، تتغير قضاياهم.

التغيير يحتاج إلى عناصر ثلاثة: ثقافة، وحسن إدارة، وإرادة. من ملك العناصر الثلاثة ملك التغيير، إذا ملك الثقافة استطاع أن يغيّر مجتمعه نحو الثقافة الأفضل، وإذا ملك حسن الإدارة استطاع أن يدير مجتمعه إدارةً توصله إلى الأفضل، وإذا ملك الإرادة ومواجهة التحديات والصعوبات استطاع أن يغير مجتمعه، فالتغيير أمر ممكن، لكنه يحتاج إلى عناصره الثلاثة.

ولذلك، ترى الأئمة غيّروا التاريخ، غيّروا المجتمعات؛ لأنهم امتلكوا العناصر الثلاثة، امتلكوا العلم والثقافة، امتلكوا حسن الإدارة، امتلكوا الإرادة، ”لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه“، وهذا علي يقتفي إثر الرسول ويقول: ”لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت“، وهذا شبل علي يتكلم عن إرادة التغيير وصلابة موقفه: ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد“، ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“، وصمّم على موقفه، وبقي صامدًا صاحب إرادة حديدية، لا يتغير ولا يتنازل.