أطروحة تجديد الفكر الديني ج2

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ

صدق الله العلي العظيم

ما زال حديثنا حول أطروحة التجديد في الفكر الديني. هل الإسلام دينٌ يعيش روح التجديد، ويعيش روح التغيير، أم أنه دين جامد واقف بأحكام معينة، وقوانين ثابتة، لا تقبل المرونة، ولا تقبل التغير، ولا تقبل التجديد؟ حديثنا حول أطروحة التجديد في هذه الليلة في محاور ثلاثة:

  • في أدلة التجديد.
  • وفي ضوابط التجديد.
  • وفي موارد ومواقع التجديد.
المحور الأول: أدلة التجديد.

ذكرنا في الليلة السابقة أنَّ القائلين بأطروحة التجديد، وأن الإسلام يجب أن يتجدّد، ويجب أن تتغيّر بعض قوانينه وتشريعاته، استدلوا بدليلين: دليل فلسفي، ودليل اجتماعي، وقد تحدثنا في الليلة السابقة عن الدليل الفلسفي ومناقشته، ونتعرض هذه الليلة للدليل الثاني، ألا وهو الدليل الاجتماعي، وهذا الدليل يرتكز على مقدمتين:

المقدمة الأولى: التشريع الحكيم هو المنسجم مع حاجات الإنسان.

لكل أمر موضع مناسب، ومقام مناسب، والحكمة هي أن تضع الشيء في موضعه.

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا   مضر كوضع السيف في موضع iiالندى

التشريع السماوي متى يكون تشريعًا حكيمًا؟ إنما يكون التشريع السماوي تشريعًا حكيمًا إذا كان متطابقًا مع حاجات الإنسان، التشريع السماوي ما نزل إلا لأجل علاج وتلبية حاجات الإنسان، فإذا كان التشريع السماوي منسجمًا وملائمًا لحاجات الإنسان، فهو تشريع حكيم، وإن لم يكن منسجمًا مع حاجات الإنسان فهو تشريع لغو، واللغو قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم «تبارك وتعالى». إذن، لا بد أن يكون التشريع السماوي متطابقًا ومنسجمًا مع حاجات الإنسان.

المقدمة الثانية: انقسام حاجات الإنسان إلى ثابتة ومتغيرة.

حاجات الإنسان على قسمين: حاجات ثابتة، وحاجات متغيرة. هناك حاجات للإنسان لا تتغير منذ يوم آدم إلى يوم القيامة، وهناك حاجات تتغير بتبع تغير الحضارة، بتبع تغير المجتمع، بتبع تغير الإسان. إذن، عندنا حاجات ثابتة، وعندنا حاجات متغيرة. الحاجات الثابتة تحتاج إلى قوانين ثابتة، حتى يتطابق القانون مع الحاجة، والحاجات المتغيرة تحتاج إلى قوانين متغيرة، ما دامت الحاجات متغيرة، لا بد أن تتغير القوانين تبعًا لتغير الحاجات، وإلا فلا يُعْقَل أن يتغير الإنسان، وتتغير ميوله، وتتغير ثقافته، وتتغير حاجاته، مع ذلك الإسلام لا زال وقفًا، لا زالت قوانينه لم تتغير، مع أن الإنسان قبل مئتي سنة يختلف عن الإنسان الآن، إنسان العصر يختلف في ميوله، في ثقافته، في حاجاته، في تطلعاته، عن إنسان ما قبل مئتي سنة، فلا يُعْقَل أن يتغير الإنسان والقانون لم يتغير.

القسم الأول: الحاجات الثابتة.

من الحاجات الثابتة حاجة الإنسان إلى الأمن الداخلي، الإنسان يحتاج إلى أمن نفسي، من دون أمن لا يمكن أن يبدع، لا يمكن أن يعطي، هذا الإنسان حتى يبدع ويعطي يحتاج إلى أمن نفسي، الأمن نفسي حاجة ثابتة عند الإنسان، هذه الحاجة الإنسان وضع لها قانونًا ثابتًا أيضًا، وهو العبادة. لا يمكنك أن توفر الأمن لقلبك إلا من خلال العبادة، العبادة توفر لك الأمن، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، العبادة تضفي عليك جوًا من الطمأنينة، من الهدوء، من الاستقرار النفسي، فالعبادة قانونٌ ثابتٌ؛ لأنه يغذّي حاجة ثابتة، وهي حاجة الإنسان إلى الأمن النفسي، إلى الاستقرار النفسي.

القسم الثاني: الحاجات المتغيرة.

هذا المجتمع قبل مئتي سنة لم يكن محتاجًا للمرأة العاملة، الآن صار المجتمع محتاجًا إلى المرأة العاملة، نحن نحتاج الآن إلى المرأة الطبيبة، نحن نحتاج الآن إلى المرأة الممرضة، نحن نحتاج الآن إلى المرأة المدرّسة والمعلّمة، إذن الحاجة تغيرت، قبل مئتي سنة ما كانت الحاجة موجودة، أصبحت الآن الحاجة موجودة وماسة. إذن، أنتم قبل مئتي سنة كنتم تقولون: يحرم على الزوجة أن تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، ولكن الآن هذا زوجته طبيبة، فهل تستأذنه كل يوم قبل ذهابها للمستشفى؟! لو كان عندها عملية جراحية ضرورية، وقال لها: اليوم لا إذن لكِ، أريدكِ أن تجلسي في البيت! إذا كانت الحاجة متغيرة، حاجة المجتمع تغيرت، فلماذا لا يتغير القانون تبعًا لتغيّر الحاجة؟! بما أن هناك قوانين تعالج الحاجة، والحاجة متغيرة، إذن يجب أن يكون القانون متغيرًا تبعًا لتغير الحاجة.

إذن، أصحاب أطروحة التجديد يقولون: هناك ثابت، وهناك متغير، هناك حاجات ثابتة تعالَج بحاجات ثابتة، وهناك حاجات متغيرة تحتاج إلى قوانين مرنة متغيرة تبعًا لتغير الحاجة، فهذا هو الدليل الاجتماعي على أطروحة التجديد.

المحور الثاني: ضوابط التجديد.

هل نحن نقبل التجديد، أم أننا نرفض التجديد، أم أن عندنا تفصيلًا وحدودًا؟ نحن لا نرفض التجديد، بل نحن مع التجديد والتغيير، ولكن هناك ضوابط وهناك حدود لهذا التجديد، حتى يكون التجديد في إطار الإسلام، وفي ظل الإسلام، وفي البيت الإسلامي نفسه، هناك أربع ضوابط إذا روعيت فنحن مع التجديد، نحن مع القوانين التي تتغير تبعًا لتغير الحاجة، نحن لسنا واقفين حجر عثرة أمام التجديد، بل نقبله في ضمن هذه الأطر، وفي ضمن هذه الضوابط.

الضابط الأول: الفرق بين الحكم القانوني والحكم الولايتي.

الحكم الذي ينصب على قضية كلية يسمّى حكمًا قانونيًا، والحكم الذي ينصب على قضية خارجية يسمى حكمًا ولايتيًا. مثلًا: إذا قال الفقيه: صلاة الجمعة واجبة تخييرًا، أي أن الإنسان يوم الجمعة مخيّر بين الظهر والجمعة، لكن إذا أقيمت الجمعة يجب عليه الحضور، وتجزيه عن الظهر، هذا نمسيه حكمًا قانونيًا؛ لأنه منصب على قضية عامة، وهي صلاة الجمعة، هذه قضية عامة لا ترتبط بظرف معين، ولا بزمن معين، ولا بإنسان معين، ولا بمكان معين.

وهناك حكم ينصب على قضية شخصية خارجية، لا ينصب على قضية كلية، كما لو قال الفقيه: يجب على الشعب العراقي أن يهيّئ نفسه للانتخابات، هذا يسمى حكمًا ولايتيًا، وليس حكمًا قانونيًا؛ لأن هذا الحكم ناظرٌ لفترة معينة، ناظر لظرف معين، ناظر لقضية خارجية معينة، هذا يسمّى حكمًا ولايتيًا، وليس حكمًا قانونيًا. الحكم الأول - وهو الحكم القانوني - هو الحكم الذي يصدر من الفقيه بما هو خبير بأحكام الشريعة، والحكم الثاني - وهو الحكم الولايتي - هو الحكم الذي يصدر من الفقيه بما هو ولي الأمر في الأمور الحسبية، في الأمور العامة التي ترتبط بالمصالح العامة.

إذن، عندنا نوعان من الحكم: حكم قانوني، وحكم ولايتي، الحكم الولايتي يتغير تبعًا لتغير الظروف، اليوم يصدر ولايتي معين، بعد عشر سنوات يصدر حكم ولايتي آخر، الحكم الولايتي لأنه مرتبط بظروف معينة، مرتبط بزمن معين، مرتبط بحاجة محدّدة، فإنه يتغير تبعًا لتغير الظرف، تبعًا لتغير الحاجة، تبعًا لتغير الزمن، إذن الحكم الولايتي يتغير.

الرسول حرّم أكل الحمر الأهلية يوم خيبر، لما صارت معركة خيبر، وأراد الرسول أن ينقل السلاح، يريد أن ينقله من المدينة إلى منطقة خيبر، كيف ينقل السلاح إلى منطقة خيبر؟ لا توجد وسيلة لنقل السلاح إلا الحمير الأهلية، فالرسول قال: يحرم أكل لحم الحُمُر الأهلية، لأن هناك حاجة لاتخاذها وسيلة لنقل العدة والعتاد، طبعًا لحم الحمار أكله ليس حرامًا، وإنما هو مكروه فقط، البغال والحمير والخيل لا يحرم أكلها، ولكنه مكروه، فأكل لحم الحُمُر في حد ذاته ليس حرامًا، ولكن الرسول حرّمه يوم خيبر لأجل مصلحة مؤقتة، وهي أن الحُمُر في ذلك الوقت وسيلة لنقل العدة والعتاد إلى منطقة المعركة، هذا يسمى حكمًا ولايتيًا، صدر من الرسول لا بما هو مشرّع، بل بما هو ولي الأمر، وانتهى هذا الحكم بانتهاء المعركة، الحكم ارتفع بارتفاع ظرفه. إذن، الحكم يمكن أن يتغير إذا كان حكمًا ولايتيًا.

الضابط الثاني: طرو العنوان الثانوي.

الفقهاء يقولون: هذا الشيء بالعنوان الأولي له حكم، بالعنوان الثانوي له حكم آخر، فالصوم - صوم شهر رمضان - مثلًا حكمه بالعنوان الأولي هو الوجوب، إذ يجب صوم شهر رمضان على المكلّف، ولكن لو صار الصوم مضرًا فإنه يصبح حرامًا، ينقلب من واجب إلى حرام، فالصوم بالعنوان الأولي واجب، ولكن الصوم بالعنوان الثانوي حرام، فتغيّر الحكم نتيجة تغيّر العنوان.

مثال أوضح: مسألة التطبير، ضرب القامات يوم عاشوراء أو يوم الأربعين، ما هو متعارفٌ عند بعض الشيعة في إيران وفي العراق وفي الهند وفي باكستان وفي البحرين وفي لبنان، بعض الشيعة يقومون بالتطبير، يعني بضرب القامات في يوم عاشوراء، هذا التطبير إذا قرأته بالعنوان الأولي لا تجد فيه شيئًا، بل ربما يكون راجحًا؛ لأنه جزع، والجزع راجحٌ على الحسين ، لكن إذا قرأته بالعنوان الثانوي ستجد العلماء يقولون: إذا استلزم التطبير الاستخفاف بمذهب أهل البيت ، يعني: إذا انتشر هذا التطبير في وسائل الإعلام، وبدأ العقلاء، نحن لا علاقة لنا بالحاقدين أو المغرضين، ولكن العقلاء بما هم عقلاء، العقلاء المنصفون، العقلاء الموضوعيون، لو أن العقلاء الموضوعيين المنصفين استخفوا بمذهب أهل البيت، واستصغروه نتيجة ممارسة التطبير، اعتبروا التطبير علامة على خفة المذهب، وعلامة على ضيق أفق هذا المذهب، أو علامة على سوء هذا المذهب، إذا استلزم التطبير الاستخفاف بمذهب أهل البيت، فإنه يكون حرامًا ومن أعظم المحرمات، لأن حرمة المذهب من أعظم الحرمات، هتك حرمة المذهب أعظم من هتك أي حرمة أخرى، هتك حرمة المذهب هتك حرمة أهل البيت . إذن، هناك عنوان أولي وهناك عنوان ثانوي، والحكم يتغير بتغير العنوان.

الضابط الثالث: التزاحم بين المهم والأهم.

إذا حصل التزاحم فإن الحكم يتغير من حكم المهم إلى حكم الأهم، فمثلًا: نأتي إلى مسألة التشريح، هل يجوز تشريح جسد الإنسان المؤمن؟ طبعًا لا يجوز؛ لأن فيه هتكًا لحرمة هذا الإنسان المسلم، وقد ورد عن الرسول محمد : ”إن حرمته ميتًا كحرمته حيًا“، هو محترم حيًا وميتًا، لا يجوز تشريح جسده لأنه هتك لحرمته، ولكن لو توقف على تشريح جسده أمر أهم، إذا لم نشرّح هذا الجسد ينتشر مرض خبيث في المجتمع، ويتوقف منع المرض على تشريح هذا الجسد، إذا شرحنا الجسد فسوف نكتشف المرض، وإذا اكتشفنا المرض منعنا انتشاره بين أبناء المجتمع، فيتوقف انتشال المجتمع من الوباء الخطير على تشريح هذا الجسد، ماذا نصنع؟ هنا نشرّح الجسد، كان حرامًا وصار واجبًا؛ لأنه حصلت المزاحمة بين المهم، وهو المحافظة على حرمة الميت، وبين الأهم، وهو إنفاذ المجتمع من مرض خطير، فقدّمنا الأهم على المهم.

كذلك المسألة التي ذكرناها، وهي مسألة الزوجة الطبيبة، لو كانت الزوجة طبيبة، وأراد زوجها أن يشرب شايًا، فهي تقول له: عندي عملية جراحية، ويتوقف عليها إنقاذ هذا الإنسان المريض، يجب أن أخرج من البيت وأذهب لإجراء العملية الجراحية، والزوج يقول: أنا أريد شايًا وبالتالي أنا لا أجيز الخروج من البيت في هذه الساعة! هنا يحصل التزاحم بين المهم والأهم، نحن لا نمنع، إذا حصلت المزاحمة بين المهم والأهم قُدِّم الأهم على المهم، حفظ النفس المحترمة التي تحتاج إلى العملية الجراحية أهم من مراعاة إذن الزوج وعدم إذنه، فيقدّم الأهم حينئذ على المهم، إذا حصلت المزاحمة لا بأس أن يتقدّم الأهم على المهم.

ولذلك، ينبغي للطبيبة والعاملة ألا تفعل مشاكل مع زوجها، وذلك بأن تشترط في عقد النكاح، في إيران المرأة تشترط على الزوج ألا يمنعها من الخروج في المظاهرات، تشترط عليه في العقد، حتى لا تتورط معه بعد ذلك، تقول له منذ البداية: أنا من الآن أكتب لك في العقد أنني سأخرج في المظاهرات كل يوم! فهذه أيضًا تشترط على زوجها، هي طبيبة، عاملة، ممرضة، تشترط على زوجها في ضمن العقد، في ضمن عقد الزواج، ألا يمنعها من الخروج إلى مزاولة عملها كطبيبة أو كممرضة مثلًا، فإذا صار ذلك شرطًا ضمن العقد صار واجبًا على الزوج العمل بهذا الشرط. إذن فبالنتيجة: إذا حصلت المزاحمة بين المهم والأهم فيمكن أن يتقدم الأهم على المهم، فيتغير الحكم.

الضابط الرابع: تغيّر الحكم بتغيّر موضوعه.

هذا هو أهم الضوابط، وحتى يتضح نضرب مثالًا: الإمام الخميني «قدس سره» كان يقول: الشطرنج حرام إذا كان من أدوات القمار، أي أن الإسلام لم يحرّم الشطرنج لأنه شطرنج، بل حرّمه لأنه أداة قمار، فالموضوع هو أداة القمار، فلو تغير هذا الموضوع، وصار الشطرنج في زمن من الأزمنة أداة لتنشيط العقل، لرياضة الذهن، وليس أداة قمار، يعني أغلب العالم يستخدمه كأداة لرياضة الذهن، كأداة لتنشيط الذهن، أغلب الناس هكذا يستخدمونه، فإذا تغير الموضوع، حينئذ لا محالة يتغير الحكم، الحكم يتبع موضوعه، إذا تغير الموضوع يتغير الحكم، فينقلب الحكم من الحرمة إلى الحلية، كان الشطرنج حرامًا، صار الشطرنج حلالًا، نتيجة تغيّر الموضوع، لكن نحن كيف ندرس الموضوع؟ نحن نريد أن نقول: الحكم يتغير إذا تغير موضوعه، لكن ما هو موضوعه؟ كيف نحدّد موضوع الحكم؟ كيف ندرس موضوع الحكم؟ هنا موارد ثلاثة أذكرها كمثال حتى نلتفت إلى كيفية تحديد موضوع الحكم.

المورد الأول: الفرق بين الفقه الحرفي والفقه الموضوعي.

هذا تعبير للسيد الشهيد، السيد الصدر «قدس سره». أحيانًا الفقيه يكون اتجاهه حرفيًا، يجمد على اللفظ، يمشي مع اللفظ، لا شغل له بشيء وراء اللفظ، هو مع هذا اللفظ، اللفظ قال: «الشطرنج» يعني الشطرنج، ورد في الرواية: الشطرنج لا تنظر إليه، الناظر إليه كالناظر في فرج أمه، في بعض الروايات هكذا، روايات تشدّد على مسألة الشطرنج، والمقصود بالناظر إليه الناظر إليه وهو يزاول اللعبة نفسها، وهو يزاول العمل، وليس المقصود به أن يمر شخص فيرى شطرنجًا وينظر إليه! إذن، فالروايات تنهى عن الشطرنج.

أنا كفقيه حرفي أجمد على اللفظ، وأقول: الشطرنج حرام، الشطرنج لا يتغير حكمه، هو حرام مطلقًا. وهناك حكم موضوعي، يعني: أن يدرس الموضوع من خلال المرتكزات العرفية، أن يدرس الموضوع من خلال المرتكزات العقلائية، إذا قرأ المرتكزات العرفية والعقلائية وجد أن الموضوع ليس كلمة الشطرنج، الموضوع هو أداة القمار، سواء كان شطرنجًا أو غير شطرنج، فإذا تغير الموضوع يتغير الحكم.

مثال أوضح: ما حكم صلاة المرأة في المسجد؟ هنا اختلف الفقهاء، الاتجاهات تختلف، المدارس تختلف، مثلًا: سيدنا الخوئي «قدس سره» كان يقول: صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، حتى لو صلت في البيت فرادى وفي المسجد جماعة، لم؟ لأن الرواية موجودة عندنا: ”صلاة المرأة في بيتها أفضل“، وهذه الرواية مطلقة، ونحن نأخذ بإطلاقها، فنقول: صلاة المرأة في البيت أفضل، هكذا كان رأي سيدنا «قدس سره».

نأتي إلى رأي السيد السيستاني «دام ظله»، يقول: صلاة المرأة في المكان الأستر أفضل، يعني النص عندما قال: صلاة المرأة في بيتها، لا يقصد بيتها بما هو، بل لأن بيتها كان أستر من غيره، المنظور ليس البيت، بل المنظور هو المكان الأستر، في الزمن السابق كان البيت أستر من المسجد، ولذلك كانت صلاتها في البيت أفضل، إذا تغير المكان الأستر، أو صار سواء، المسجد مستور، والبيت أيضًا مستور، كلاهما على حد سواء في الستر، إذن لا يأتي الحكم بالأفضلية، صلاة المرأة في بيتها - يعني: في المكان الأستر - أفضل، فإذا فرضنا أن المسجد والبيت متساويان في الستر، فحينئذ لا مانع، يتساويان في الفضيلة، وإذا ضُمِّ إلى صلاتها في المسجد تعلمها للأحكام الشرعية، تعلمها للعقائد، تعلمها لأخلاق الإسلام ومفاهيمه، سوف تصبح صلاتها في المسجد أفضل من صلاتها في البيت. إذن، هناك فرق بين الاتجاه الحرفي، والاتجاه الموضوعي، وتبعًا لاختلاف الاتجاه تختلف النتيجة المُسْتَنْبَطَة.

المورد الثاني: الفرق بين العلة والحكمة.

القرآن الكريم حرّم الربا، ولكنه علّل الحرمة، ذكر علة لحرمة الربا، وهي الظلم، ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، العلة في حرمة الربا أنه ظلم، إنما حرّم الربا لأن الربا ظلم، هذه هي العلة، ما معنى علة؟ يعني يدور الحكم مدارها، الحكم يتغيّر بتغيّر هذه العلة. لو افترضنا أن الربا ليس ظلمًا، مثلًا: بين الوالد وولده، الوالد يقرض الولد، أنا أقرضت ولدي مئة ألف بمئة وعشرة، هذا جائز، ”لا ربا بين الوالد وولده“، يجوز أن يأخذ الوالد فائدة ربوية على الولد؛ لأن هذا ليس ظلمًا، باعتبار أن ما قام به الأب من تربية وعناية وجهد وطاقة في تربية هذا الولد وإنشائه لا يُقَدَّر بثمن، فحينئذ لو أخذ الأب من الولد مقدارًا كفائدة على قرضه لا يعدّ ظلمًا للولد، ولذلك ورد في الرواية أن شخصًا يشتكي إلى رسول الله ، قال: يا رسول الله، إن استعداني على أموالي، صار يأخذ بعض أموالي، فنهره الرسول وقال: ”أنت ومالك لأبيك“. إذن فبالنتيجة: لا ربا بين الوالد وولده، هنا نقول: علة حرمة الربا أن الربا ظلمٌ، فإذا لم يكن فيه ظلم، كما لو كان بين الوالد والولد، فلا حرمة للربا.

أما الحكمة فتختلف عن العلة، فمثلًا: القرآن الكريم يقول: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا لماذا؟ ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ، يأتيك فاسق ويقول لك: فلان اغتابك، فلان نال منك ما نال، أنت تأخذك الحمية، تأخذك العواطف، تأخذك المشاعر، وتتهم ذلك الإنسان بأن فيه وفيه! تثبّت، لتعرف هل هذا الكلام واقع أم ليس بواقع، هذه ”أن تصيبوا قومًا بجهالة“ هل يدور الحكم مدارها؟ يقول الفقهاء: هذه حكمة وليست علة، افترض أن فاسقًا أخبرك بربح أو خسارة، ولم يخبرك عن قوم، عندك وكيل يدير أعمالك، لكنه فاسق «........»، لا توجد هنا إصابة قوم بجهالة، لأنه لم يخبرك عن قوم حتى تصيبهم بجهالة، هل يعني أن نأخذ بخبره في هذا المورد لأنه لا يترتب على خبره إصابة قوم بجهالة؟ يقول لك: لا، هذه إصابة القوم بجهالة طرحها القرآن كحكمة، ولم يطرحها كعلة، فلا يدور الحكم مدارها وجودًا وعدمًا، قد تنتفي هذه الحكمة، لكن الحكم يبقى.

«........»

أضرب لك المثال الذي ضربناه البارحة: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، ربما إنسان إذا قرأ الآية يقول: القرآن قال بأن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل لأنها تضل، فلو لم تضل المرأة، نعرفها ذكية، قوية الذاكرة، متدينة مئة بالمئة، فنحن نقطع أنها لا تضل، هل نعتبرها كشهادة الرجل لأنها لا تضل؟ لا، الحكم لا يتغير؛ لأن الضلال ذكرته الآية كحكمة لا كعلة، يجب أن ندرس في كل مورد أن ما ذُكِر هل هو علة، فالحكم يتغير بتغيره، أم هو مجرد حكمة، فلا يتغير الحكم بتغيره. إذن، لا بد في مقام تحديد الموضوع أن ندّقق في الفرق بين الحكمة والعلة.

المورد الثالث: الفرق بين التفسير الشرعي والتفسير العرفي.

إذا كان عندنا تفسير شرعي، فإننا نقدمه على التفسير العرفي، فمثلًا: الآية التي قرأناها في الليلة السابقة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ.

ربما يقول قائل: الربا يُعَدُّ ظلمًا في الزمن السابق، زمن النبي، حيث لم يكن في ذلك الزمان تضخم للعملة، العملة لا تتغير، العملة هي ذهبية، كان الدرهم ذهبيًا، كان الدينار فضيًا، فهذا لا تتغير قيمته، لأن العملة لا تعيش تضخمًا في زمن النبي ، فلو أن إنسانًا أقرض إنسانًا مئة دينار بمئة وعشرة يُعَدُّ ظلمًا؛ لأنه أخذ عليه أكثر مما أعطاه، أما في زماننا هذا فإن العملة تعيش حالة من التضخم، هذا الدولار قبل عشر سنوات قيمته الشرائية ليست كالقيمة الشرائية له بعد عشر سنوات، فلو أنا أقرضت إنسانًا مئة ألف دولار قبل عشر سنوات، وقلت له: الدولار بعد عشر سنوات سوف تنقص القوة الشرائية له، فلا بد من تعويض نقص القوة الشرائية، فأقول: أقرضك مئة ألف دولار بمئة وعشرة، حتى تكون العشرة مقابل نقص القوة الشرائية للدولار بعد عشر سنوات، إذن هذا الربا ليس ظلمًا؛ لأنني تداركت أموالي، تحفظت على أموالي، من أن تنقص قيمتها الشرائية. نحن كيف نجيب عن هذه الشبهة؟

نقول: هذا تحديد عرفي، أنت حدّدت الظلم بمعناه العرفي، ولم ترجع إلى التحديد الشرعي، هناك روايات وردت عن أهل بيت محمد حدّدت لنا معنى الظلم، معنى الظلم في الآية أن اشتراط الفائدة في المعروف ظلم، القرض معروف، أنت عندما تقرض إنسانًا تصنع له معروفًا، اشتراط الفائدة في المعروف ظلم؛ لأن هذا المقترِض إن كان مستهلِكًا فأنت إذا اشترطت الفائدة على صنع المعروف - وهو القرض - سوف يمتنع الناس عن صنع المعروف، إذا الإسلام أباح، وقال: كل من أراد أن يقرض فله أن يأخذ فائدة على قرضه، إذا انفتح هذا الباب امتنع الناس عن القرض المجاني، امتنع الناس عن صنع المعروف، وامتناع الناس عن صنع المعروف ظلمٌ للمجتمع؛ لأن المجتمع حينئذ ستصبح علاقاته كلها علاقات مادية، ليس فيها علاقات إنسانية. إذا الإسلام سدَّ باب المعروف، أصبحت علاقات المجتمع علاقات مادية، ولكن الإسلام جبرنا على المعروف، قال: أقرضوا بلا فائدة، أنتم مجبورون على صنع المعروف، إذا جبرنا الإسلام على صنع المعروف عوّدنا على العلاقات الإنسانية، ونزّهنا عن العلاقات التجارية، والعلاقات المادية.

إذن، اشتراط الفائدة في صنع المعروف ظلمٌ للمجتمع؛ لأنه يحوّل المجتمع من مجتمع إنساني إلى مجتمع تجاري، إلى مجتمع مادي. وإذا افترضنا أن هذا المقترِض منتج، يعني عنده عمل، عنده مشروع تجاري، وأنت تقرضه، وتأخذ عليه أرباحًا تعادل ربحه، ألا يكون هذا ظلمًا لهذا المسكين؟! هو أخذ منك مئة ألف دولار حتى يتاجر بها، ولكنه يضمن المئة ألف، ويضمن لك الفائدة أيضًا، والفائدة تعادل عمله، إذن هو خسر المئة ألف وخسر عمله أيضًا، لأن ما يعادل عمله دفعه إلى المقرِض. إذن، اشتراط الفائدة في القرض - يعني: في صنع المعروف - ظلمٌ للمجتمع، فليس المراد من الظلم مسألة تدارك تضخم العملة وعدم التدارك، بل المراد من الظلم بالتحديد الشرعي، وهو تحويل المجتمع من مجتمع إنساني إلى مجتمع تجاري.

مسألة الموسيقى تعرضت لها البارحة، ولن أتعرض لها الليلة؛ لأنني سأخصّص ليلة للبحث حول الفن في الإسلام، هل الإسلام يعترف بالفن أم لا يعترف به؟ هذا سأخصّص له ليلة من الليالي الآتية، وسأتحدث في ضمن ذلك عن مسألة الموسيقى وغيرها من أنواع الفن، هذا مرتبط بليلته، أنا الآن لا أتعرض له هذه الليلة.

إذن، الحكم يتغير بتغير موضوعه، فنحن نقبل التغير، نحن نقبل التجديد، بمعنى تغيّر الحكم بتغير موضوعه، لكن علينا أن نحدّد الموضوع أولًا، إما بالفرق بين الفقه الحرفي والفقه الموضوعي، أو بالفرق بين الحكمة والعلة، أو في الفرق بين التحديد الشرعي والتحديد العرفي، كما ذكرنا بالأمثلة.

المحور الثالث: أقسام التجديد.

أقسام التجديد ثلاثة: التجديد في الحكم، التجديد في اللغة، التجديد في أسلوب العمل. التجديد في الحكم شرحناه، وقلنا: لا مانع عندنا من التجديد في الحكم ضمن الضوابط الأربعة التي ذكرناها في المحور الثاني.

القسم الثاني: التجديد في اللغة.

نحن نحتاج إلى هذا التجديد. منابرنا، مساجدنا، كتبنا، مؤلفاتنا، قنواتنا، تحتاج إلى التجديد في اللغة، نحن نحتاج أن نخاطب العصر بلغته، نحن نحتاج أن نخاطب الأجيال بلغتها، نحن نحتاج أن نخاطب العالم باللغة التي يفهمها، إذن نحن نحتاج إلى التجديد في اللغة. خطيب المنبر يحتاج أن تكون لغته هي لغة العصر، هي اللغة التي يتداولها أبناء العصر، وإلا فلا يمكنه إيصال مفاهيم الإسلام وأفكار الإسلام من لغة ما قبل خمسين سنة، أو من خلال لغة ما قبل ثلاثين سنة.

حتى كتبنا، حتى قنواتنا. الآن نحن فلننظر إلى قنواتنا الفضائية، قارن مثلًا بين قناة المنار وقناة العالم، أيهما أكثر جذّابية؟ قناة المنار، اللغة المستخدمة في قناة المنار هي لغة جذّابة، هي لغة حديثة، هي لغة فنية، هذه القناة تراعي الأساليب الفنية الجذّابة للمشاهد أكثر مما تراعيها قناة العالم، ونفس الشيء إذا قارنت بين قناة المنار وقناة الجزيرة، أيهما أكثر جاذبية؟ الجزيرة، نحن لا نقصد الموضوعات، ولكن الأساليب الفنية التي تستخدمها القناة أكثر جاذبية من القناة الأخرى. قنواتنا تحتاج دائمًا إلى التجديد، التجديد في أساليبها الفنية.

منابرنا تحتاج إلى تجديد اللغة، خطاباتنا تحتاج إلى تجديد اللغة، مناهجنا تحتاج إلى تجديد اللغة، نحن نحتاج إلى تجديد اللغة التي نخاطب بها الطفل، نخاطب بها الشاب، نخاطب بها المرأة، نخاطب به الرجل، نخاطب بها المؤمن، نخاطب بها المنحرف. نحتاج إلى لغة متجددة ومواكبة لزمن الإنسان وحضارة الإنسان.

أضرب مثالًا: ربما يعتبر بعض الناس هذا اعتراضًا مني، ولكنه مجرد اقتراح. مثلًا: الرسالة العملية، كمنهاج الصالحين مثلًا، هل لغة منهاج الصالحين لغة العصر، أم هي لغة ما قبل مئة سنة؟ طبعًا لغة ما قبل مئة سنة، المجتمع يريد أن يعمل برسالة منهاج الصالحين، ألا يحتاج إلى لغة تخاطبه؟! ألا يحتاج إلى لغة توصل المعلومة الفقهية إلى ذهن هذا الإنسان بلغته التي يفهمها؟! المرحوم الصدر «قدس سره» كتب كتاب الفتاوى الواضحة، ليس فقهًا كاملًا، وإنما بالمقدار الذي أمكنه عمره أن يكتبه، كتب الفتاوى الواضحة، طبعًا لغة الفتاوى الواضحة لغة سهلة، سلسلة، مرنة، يفهمها من يقرأ هذا الكتاب، لكننا نطمح إلى ما هو أبعد، نطمح إلى ما هو أوسع، إذ ليست المشكلة مشكلة السلاسة فقط.

مثلًا: أنت عندما تفتح كتاب منهاج الصالحين، تجد باب الطهارة، باب الصلاة، باب الصوم، باب الحج، باب الخمس، باب المعاملات، باب البيع، باب المضاربة، باب الإجارة، باب الشركة، باب... وهكذا، نحن لو صغنا الفقه، نفس المسائل، لكن صغناها بعناوين أخرى، مثلًا: فقه المستشفى، نجمع جميع المسائل المتعلقة بالمستشفى، يأتي الطبيب ويجد جميع المسائل المتعلقة به كطبيب موجودة في هذا الباب. فقه الطفل، الأب والأم يطلعان على جميع المسائل المتعلقة بهذا الطفل في باب معين. فقه الأسرة، تأتي إلى الأسرة بجميع مستلزماتها، تجد فقهها في باب معين. فقه السوق، السوق أيضًا لها فقه، فقه البنك، البنك أيضًا له فقه... وهكذا.

إذن، يمكننا تغيير اللغة، يمكننا تجديد العناوين، يمكننا تجديد الصياغة بلغة تنسجم مع ذهنية العصر، وتنسجم مع إنسان هذا العصر. من الطبيعي أن تداخل بعض المسائل، مسألة في فقه المستشفى تتكرر في باب آخر، مسألة في فقه الأسرة قد تتكرر في باب آخر، لكن الفنّان يستطيع أن يصوغ بشكل لا يكرّر، وبنحو لا يلزم فيه التداخل بين المسائل، هذا مجرد اقتراح نذكره في مقام حاجتنا إلى تجديد اللغة.

القسم الثالث: تجديد أسلوب العمل.

نحن هل نراجع عملنا على الأقل كل عشر سنوات؟! لا نراجع. نحن الآن عندنا مسجد، مسجد الرسول الأعظم محمد ، هذا المسجد منطلق للعمل الإسلامي، أو هذا المنبر منطلق للعمل الإسلامين هل نحن نقرأ تجربتنا كل عشر سنوات؟! كل عشر سنوات نقرأ تجربتنا، نحن منذ عشر سنوات إلى الآن ماذا فعلنا؟! ماذا قدّمنا للمجتمع؟! ماذا أعطينا للمجتمع؟! هل كانت أساليبنا صحيحة أم خاطئة؟! هل كانت مثمرة أم غير مثمرة؟! هل كانت منتجة أم غير منتجة؟! هل نحن نتبع قراءة الأساليب؟! هل نحن نسير على قراءة التجربة؟! أم أن ما مضى قد مضى، والله يوفقنا لما سيأتي! إذا أردنا أن نجدّد أساليب عملنا، فالتجديد يتوقف على قراءة التجربة الماضية، قراءة الأساليب الماضية، فإذا قرأناها قراءة دقيقة، استطعنا أن نجدّد الأسلوب.

نحن الآن أهم مسألة عندنا - نحن الشيعة الإمامية - سنويًا نكرّرها ونصر عليها هي قضية الحسين ؛ لأن قضية الحسين تعني قضية الدم الذي يرفض الدم والطغيان، والدم الذي يعيش الإباء والعزة، فهي قضية مهمة عندنا، قضية مقدّسة، ما هي الأساليب التي اتبعناها في هذه القضية؟! هناك أساليب تحتاج إلى التطوير، هناك أساليب تحتاج إلى التجديد، قضية الحسين الآن لا يمكن لنا أن نوصلها إلى الأوروبيين، إلى الأمريكيين، إلى الشرقيين، لا يمكن أن نوصلها من خلال المنبر فقط، المنبر ليس الوسيلة الوحيدة في زماننا هذا لإيصال قضية الحسين، نحن نحتاج إلى التمثيل المسرحي، نحتاج إلى المعرض، معرض الحسين ، يحتاج الشيعة إلى أن يمثّلوا معركة كربلاء تمثيلًا مسرحيًا دقيقًا يكون وسيلة إعلامية لإيصال صوت الحسين، وصرخة الحسين، إلى الشرق والغرب.

نحن نحتاج إلى المعرض، نحن كل سنة نذهب إلى إيران ونأخذ صورة الإمام علي، صورة الإمام الرضا، هل هذه هي الرسومات التي نواجه بها العالم؟! لا، نحن نحتاج أن نرسم كربلاء، كربلاء تحتاج أن تُرْسَم، يحتاج الفنّانون من المسلمين أن يرسموا كربلاء بصور فعّالة، بصور جذّابة، بصور توصل صوت الحسين وصدى الحسين إلى كل قلب. إذن، أساليب الاحتفال، وأساليب إحياء ثورة الحسين، أيضًا تحتاج إلى التجديد، وتحتاج إلى التطوير، مضافًا إلى الأساليب الأخرى.

هناك أساليب ثابتة، حثّ عليها أئمتنا أئمة الهدى «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، وهناك أساليب متغيرة ومتطورة. من جملة الأساليب الثابتة: أسلوب البكاء، أسلوب الندبة، هذا أسلوب ثابت، نبّه عليه وحثّ عليه الأئمة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، أسلوب الزيارة، زيارة الحسين، زيارة الحسين مظاهرة لا مثيل لها في التاريخ، الملايين يذهبون يوم عاشوراء أو يوم الأربعين لزيارة الحسين، هذه تعتبر مظاهرة ترفع صوت الحسين، ترفع صدى الحسين، ترفع لواء الحسين، ترفع راية الحسين . ولذلك ورد عن الأئمة الحث على زيارة الحسين.

إذن، زيارة الحسين، الندبة على الحسين، أساليب ثابتة، حث عليها أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، ”زر الحسين ولو عن بعد“، الإمام الصادق يقول لبعض شيعته: كم بينك وبين الحسين؟ قال: بيني وبين الحسين مسيرة ليلة، قال: ”لو كان بيننا وبين الحسين ما ذكرت لاتخذناه هجرة“، ونحن الآن ليس بيننا وبين الحسين إلا ساعات قليلة، ونصل إلى زيارته المباركة، ونحتشد في هذه المسيرات الضخمة، التي تقف عند قبر الحسين .