الدرس 86

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

من جملة الوجوه التي أقيمت لمنع استفادة الترخيص المشروط، ما ذكره السيد الشهيد «قده»: من أنّ أدلة الأصول العملية الترخيصية لا تفي اثباتاً باستفادة الترخيص المشروط. وبيان ذلك: أنّ الأدلة على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: هو دليل البراءة، وهو قوله: «رفع عن أمتي ما لا يعملون». وهذا الدليل منصرف عن فرض العلم الإجمالي بالإلزام؛ والسر في ذلك:

أنّه لو قال: «كل شيء لك حلال حتّى تعلم انه حرام» كما في بعض الروايات لقلنا بشموله لكل من الطرفين في نفسه لانطباق عنوان «كل شيء لك حلال حتّى تعلم..»، إذ إنّ مفاده أن موضوعه الشيء المشكوك وهذا ينطبق على كل من الطرفين في نفسه. وأمّا إذا قال: «رفع عن امتي ما لا يعملون» فإن المنساق منه عرفاً اختصاصه بالجهل بأصل الحكم، فلا يشمل مورد العلم الإجمالي فإن مورد العلم الإجمالي مما علم لا مما لم يعلم، فلا تصل النوبة الى الترخيص المشروط لانصراف الدليل من الأساس عن فرض العلم الاجمالي بالإلزام.

ولكن يلاحظ على ما أفيد: أنّ دليل البراءة كدليل أصالة الحِل من حيث الانحلال، غاية ما في الباب أنّ الانحلال في حديث أصالة الحِل بالوضع، حيث قال: «كل شيء...»، بينما انحلال حديث الرفع بالإطلاق المبتني على مقدمات الحكمة فمقتضى انحلاله انطباقه على كل طرف في نفسه حيث يصدق على كل طرف انه مما لا يعلم.

نعم، لا إطلاق احوالي له لفرض فعل الآخر، وهذا هو الفرق بينه وبين الأدلة الأخرى، فإن الأدلة الأخرى إنما ينهدم إطلاقها الأحوالي لفرض فعل الآخر بالتعارض إذ لازم شمول إطلاقها الأحوالي لفرض فعل الآخر الترخيص في المخالفة القطعية فينهدم الإطلاق الأحوالي لها لأجل التعارض، أما حديث الرفع فهو منهدم إطلاقه الأحوالي للإنصراف، لأنّه خاص بما لا يعلم فلا يشمل ما علم، فغاية النكتة التي أفادها «قده» أن لا إطلاق احوالي من الاساس لحديث الرفع بحيث يشمل هذا الطرف وإن ارتكب الطرف الآخر، فيحصل الترخيص المشروط بلا حاجة إلى دعوى التعارض بل للإنصراف في نفسه.

القسم الثاني: دليل الاستصحاب. كما إذا علم بنجاسة أحد الآنية وكان كل منهما طاهرا في رتبة سابقة، فهل يجري استصحاب الطهارة في كل منهما في نفسه والنتيجة استفادة الترخيص المشروط؟ أم لا؟. فهنا ذلك في كلمات الأعلام وجوه لمنع ذلك:

الوجه الأول: ما ذكره الشيخ الانصاري في الرسائل: من المناقضة بين الصدر والذيل، أي: أّن دليل الاستصحاب لا يشمل موارد العلم الاجمالي أبداً، فإنّ مقتضى الصدر وهو قوله «لا تنقض اليقين بالشك» انطباقه على كل طرف، حيث إنَّ في كل طرف في نفسه يقينا سابقاً بالطهارة وشكا في ورود النجاسة فيشمله «لا تنقض اليقين بالشك»، ولكن بملاحظة الذيل وهو قوله «ولكن انقضه بيقين آخر» عدم شمول دليل الاستصحاب لوجود يقين آخر وهو اليقين الاجمالي، أي: اليقين بثبوت النجاسة في المقام، فنتيجة التعارض بين الصدر والذيل يصبح دليل الاستصحاب مجمل فلا شمول فيه لأطراف العلم الإجمالي.

ولكن، ذكر الأعلام: أنّ ظاهر التفريع ان الرافع للاستصحاب اليقين الناقض لا مطلق اليقين، واليقين الناقض لليقين السابق إنما هو اليقين التفصيلي لا الاجمالي فإنّه لا يرفع الشك أبداً.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني: ومحصله: أنّ مفاد دليل الاستصحاب كونه علما تعبداً، وبناءً على ذلك: فمن غير المعقول عرفاً التعبد بعلمين مع علم إجمالي إجمالي بكذب أحدهما، فاذا قال «اتعبدك بانك عالم بالطهارة في إناء ألف» وأنّك عالم بالطهارة في إناء باء مع العلم الإجمالي بكذب أحد التعبدين فإنّ هذا متهافت عرفا، فحيث لا يتعقل العرف التعبد بعلمين مع العلم بكذب أحدهما كان ذلك موجباً لانصراف دليل الاستصحاب عن موارد العلم الاجمالي.

وهذا الوجه لو تم كالوجه السابق لا يختصان بالعلم الإجمالي بالإلزام، بل يشملان العلم الاجمالي بالترخيص، كما لو كان كلا الإنائين نجسين من السابق ثم علم إجمالاً بطهارة أحدهما، فالعلم الإجمالي بطهارة أحدهما غير منجز لأنّه علم بحكم ترخيصي. ولكن مع ذلك مقتضى النكتة التي ذكرها الشيخ الاعظم والنائيني عدم شمول دليل الاستصحاب، لأنّ التهافت بين الصدر والذيل وامتناع شمول علمين متهافتين لا يختص بذلك. وما ذكره المحقق إنما هو بناءً على جعل العلمية لدليل الاستصحاب. أمّا لو قلنا: أنّ مفاده: مرجعية اليقين السابق عند الشك في التبدل، فلا مانع من جعل مرجعية لليقين السابق في كل طرف في حد نفسه، مضافاً لما ذكرناه سابقاً من أنّه ليس المدّعى إلّا القصور في مقام الإثبات، والقصور في مقام الإثبات عن شمول المفاد لفرض ارتكاب الآخر لا يلغي جعل العلمية تعبدا لمورد الاستصحاب.

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الشهيد: من أنّ أدلة الاستصحاب محفوفة بالمرتكز على أنّه لا يرفع اليد عن الغرض اللزومي بغرض ترخيصي وهذا سبق التأمل فيه. ولكن لو تم فإنّه لا يختص بدليل الاستصحاب بل جميع أدلة الأصول الترخيصية.

الوجه الرابع: ما ذكره السيد الشهيد: وهو خاص بدليل الاستصحاب، حيث قال: إنّ المنساق من دليل الاستصحاب كاشفية اليقين السابق عن بقاء المتيقن، فديل الاستصحاب مشتمل على حيثية الكاشفية، وهذا ميز عن بقية أدلة الأصول الترخيصية؛ وبناءً على ذلك: فإنّ العرف لا يتعقل الكاشفية المشروطة، بأن تقول: هذا اليقين كاشف عن البقاء ان لم تفعل ذلك الطرف واليقين في ذلك الطرف كاشف عن البقاء ان لم تفعل الطرف الأول، فإنّ العرف لا يتعقل التبعيض في الكاشفية وبما أنّ العرف يأبى التبعيض في الكشفية فهذا الإباء العرفي قرينة متصلة مانع من إطلاق دليل الاستصحاب بنحو يستفاد منه الترخيص المشروط.

ويلاحظ عليه: ما سبق في كلام الميرزا أولاً، لأنّ هذا مبني على استفادة الحيثية الكاشفية من دليل الاستصحاب. وأمّا بناءً على أنّ اليقين السابق مجرد حيثية تعليلية لحكم السابق بمرجعية اليقين السابق بقاءً فلا يرد هذا المحذور وعلى فرض التسليم به فلم يدعّ أحد أنّ الكاشفية مشروطة، وإنّما المدّعى القصور في مقام الإثبات وهو أننا لا نحرز امتداد الكاشفية لفرض اقتحام الآخر.

نعم، لا يبعد ما ذكره الشيخ الأستاذ من أنّ دليل الاستصحاب ونحوه مقيد بموثقة سماعة: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ جَرَّةٍ وُجِدَ فِيهَا خُنْفَسَاءُ قَدْ مَاتَتْ قَالَ أَلْقِهَا وتَوَضَّأْ مِنْهُ وإِنْ كَانَ عَقْرَباً فَأَرِقِ الْمَاءَ وتَوَضَّأْ مِنْ مَاءٍ غَيْرِهِ وعَنْ رَجُلٍ مَعَهُ إِنَاءَانِ فِيهِمَا مَاءٌ وَقَعَ فِي أحدهما قَذَرٌ ولَا يَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى مَاءٍ غَيْرِهِ قَالَ يُهَرِيقُهُمَا جَمِيعاً ويَتَيَمَّمُ» ‌.

فإنّ ظاهر عدم شمول أدلة الاستصحاب أو أدلة الطهارة للطرفين لا بنحو مطلق ولا بنحو مشروط لأنّه قال يهريقهما جميعاً ويتيمم فإنّ هذا التعبير كناية عن عدم صلاحية شيء منهما للانتفاع المباح منه ولو على نحو مشروط. هذا ما يرتبط بجريان دليل الأصل في كلا الطرفين على نحو الترخيص المشروط، وأمّا لو جرى دليل الاستصحاب أو دليل أصالة البراءة في أحدهما وجرى دليل أصل آخر في الآخر، أي أنّ كل ما قيل ناظر لفرض شمول لدليل وأحد لكلا الطرفين. أمّا لو تعدد الأصل في الطرفين مثلاً علمنا إجمالاً إما بنجاسة الماء أو عدم تذكية السمك، فالجاري هنا أصالة الطهارة والجاري هناك سوق المسلمين أو يد المسلم، فحينئذٍ لا يأتي فيهما ما ذكره الشيخ الاعظم أو النائيني.

من الوجوه التي ذكرت سابقاً: لو علمنا إجمالا - كما في متن العروة - إما بفوت صلاة الفجر أو خلل في صلاة الظهر التي نحن في وقتها، فإنّ قاعدة الحيلولة جارية في صلاة الفجر، والفراغ جارية في صلاة الظهر، فهل يمكن القول هنا بمنع استفادة الترخيص المشروط مع تعدد الدليل أم لا؟.

فقد يقال بالعدم؛ إمّا لاحتفاف دليل كل أصل ترخصي بارتكاز عقلائي على أنّه لا يجري إن جرى في الطرف الآخر أصل مرّخص، بلحاظ أنّهما لو جريا معاً لزم ترخيص في المخالفة القطعية، أو يقال: بأنّ لكل من الدليلين ظهوراً في نفسه ومقتضى ظهوره شموله للطرف إلّا أنّ هناك ظناً نوعياً على الخلاف، أي: أنّ المرتكز العقلائي يأبى عن حجيتهما معاً لأنّ لازم حجيتهما معاً الترخيص في المخالفة القطعية، فهذا منشأ للظن النوعي بالخلاف ويعتبر في حجية كل حجة أن لا يكون هناك ظن نوعي أو عقلائي بالخلاف، وإلّا فمع غمض النظر عن هاتين النكتتين قد يقال: أنّ ما ذكر من مانع لجريان دليل الأصل للطرفين ليس بمانع من جريان أصلين من دليلين مختلفين في طرفي العلم الإجمالي.

والحمدُ لله ربِّ العالمين