الدرس 87

منجزية العلم الإجمالي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

لازال الكلام في القسم الثالث من الروايات:

وهو: ما ورد فيه التقسيم من الحلال والحرام: كما ورد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : «كُلُّ شَيْ‌ءٍ يَكُونُ فِيهِ حَرَامٌ وحَلَالٌ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ أَبَداً حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ».

وقد وقع البحث في هذه الرواية الشريفة من عدة جهات:

الجهة الاولى: من ناحية سندها. حيث توجد رواية أخرى عن عبدالله بن سنان عن عبدالله ابن سليمان، فيقال: إن احتمال السقط في السند وارد في هذه الصحيحة، وهو صحيحة عبدالله بن سنان بلحاظ التصريح في الرواية الأخرى أنّ الراوي هو عبدالله بن سليمان، وحيث إنّه محل تأمل لدى البعض فيكون ذلك موجبا لوهن سند الرواية.

ولكن، عند التأمل يظهر أنّ الروايتين مختلفتان في الإمام المروي عنه، فمحل الكلام هو صحيحة ابن سنان عن ابي عبدالله، والرواية الأخرى عن ابن سنان عن عبدالله بن سليمان عن ابي جعفر فهما روايتان بلحاظ اختلاف الإمام المروي عنه:

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَنِ الْجُبُنِّ، فَقَالَ لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ طَعَامٍ يُعْجِبُنِي ثُمَّ أَعْطَى الْغُلَامَ دَرَاهِمَ فَقَالَ يَا غُلَامُ ابْتَعْ لِي جُبُنّاً ودَعَا بِالْغَدَاءِ فَتَغَدَّيْنَا مَعَهُ وأُتِيَ بِالْجُبُنِّ فَقَالَ كُلْ فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْغَدَاءِ قُلْتُ مَا تَقُولُ فِي الْجُبُنِّ قَالَ أَ ولَمْ تَرَنِي أَكَلْتُ قُلْتُ بَلَى ولَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْكَ فَقَالَ سَأُخْبِرُكَ عَنِ الْجُبُنِّ وغَيْرِهِ كُلْ مَا يَكُونُ فِيهِ حَلَالٌ وحَرَامٌ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ. فهذه الرواية رواية أخرى غير ما هو محل الكلام.

الجهة الثانية: هل أنّ هذه الرواية خاصة بمورد العلم الاجمالي أم أنها تشمل فرضه وفرض الشبهة البدوية؟!، حيث أفاد الشيخ الانصاري في «الفرائد»: أنّ الرواية خاصة بمورد العلم الإجمالي فتكون دليلاً على جواز ارتكاب أطراف العلم الاجمالي، وموقع البحث هو في قوله: «فيه حلال وحرام» فهل أنّ ظاهر هذه الفقرة التردد؟ أم أنّ ظاهر هذه الفقرة هو التصنيف؟ أم أنّ ظاهرها التقسيم الفعلي كما استظهره الشيخ الأعظم؟!.

فقد يقال كما عن المحقق النائيني: أنّ ظاهر هذه الفقرة هو التردد، أي: أنّ المقصود بقوله: «فيه حلال وحرام» أي: يحتمل حليته ويحتمل حرمته، ففيه احتمال الحلال والحرام، لا أنّ فيه حلالا وحراما بالفعل، والقرينة على ذلك: التعبير بالشيء، فإن الشيء ينصرف إلى الموجود خارجا لأنّ الشيئية مساوقة للوجود فالمراد بالشيء ما هو الموجود والموجود الخارجي جزئي وهو لا ينقسم إلى حلال وحرام بالفعل فهو إمّا حلال أو حرام، فعنوان الشيء قرينة على أنّ المقصود بهذه الفقرة هو التردد لا الانقسام بالفعل، وبالتالي فهذه الرواية تشمل الشبهة البدوية.

ولكن القرينة التي اسند اليها غير تامة، فإنّ الشيء وضع للعنوان المبهم الصادق على كل مفهوم سواء كان موجودا أو معدوما كليا أو جزئيا، حتّى ما لا يقبل الوجود كشريك الباري فإنّه يطلق عليه الشيء إطلاقاً حقيقياً.

المعنى الثاني: ان المراد بهذه الفقرة: التصنيف. فكأنّه قال: كل شيء له صنفان: صنف حلال وصنف حرام، فهو لك حلال، مثلاً: اللحم فيه صنفان: المذكى والميتة، وكذلك الأشياء الأخرى كالمائعات، وهذا لا يختص بمورد العلم الاجمالي فحتى في الشبهات البدوية لو وجدنا لحماً نشك في أنّه حلال وحرام يصدق أنّه في اللحم صنفين.

ولكن الشيخ الانصاري استظهر التقسيم بالفعل، أي: فيه حلال بالفعل وحرام بالفعل، لظهور المشتق بالفعلية مضافا إلى ما ورد في الذيل قوله «الحرام منه وبعينه»، فإنّ الظاهر من هذا التعبير وجود الحرام بالفعل، ولأجل ظهور التقسيم في كونه بالفعل اختصت الرواية بمورد العلم الاجمالي، وذلك: بأن يلاحظ الشيء كلاً لا كليا، والأفراد أجزاء لا جزئيات، فيقال: هذا الجبن الخارجي فيه حلال بالفعل وحرام بالفعل، وعليه إنّ هذا الشيء المنقسم هو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه، فظاهر الرواية: جواز اقتحام أطراف العلم الاجمالي مالم يحصل علم تفصيلي بالحرمة.

وما أفاده الشيخ الأعظم عرفي جداً.

الجهة الثالثة: في أن كلمة «بعينه» هل هي قيد احترازي عن العلم التفصيلي أم أنّها مجرد تأكيد للمعرفة؟.

فقد أفاد الشيخ الاعظم: أننا لو خلينا مع كلمة بعينه لم تكن ظاهرة في أنّ الغاية العلم التفصيلي، فإنّ كلمة «بعينه» ما هي إلّا تأكيد للضمير، حيث قال: «حتّى تعرف إنّه» فكلمة «إنّه» مشتملة على ضمير، وكلمة «بعينه» تأكيد لهذا الضمير وليست قيداً يقسم المعرفة إلى معرفة بعينه ومعرفة لا بعينه، ولذلك يقال رأيت زيداً بعينه، ولا يراد بعينه مقابل بغيره، وإنّما يراد تأكيد المعرفة، أي: أنّك عرفت زيداً لا إنّك ظننته أو تخيلته، فلأجل تأكيد أنّ ما حصل معرفة استخدم كلمة بعينه لإخراج الظن والوهم فمجرد كلمة بعينه لا تنفعنا في المقام، إنّما الذي ينفعنا هو المسند والمسند إليه، أي: المجموع الحرام منه بعينه، فلولا هذا المسند الحرام منه بعينه لم تكن كلمة بعينه كافية في استفادة العلم التفصيلي من الغاية، ولكن حيث ضم الحرام استفدنا أنّ الغاية الرافعة للحليّة هي العلم التفصيلي فيكون هذا الذيل قيداً احترازياً ينوع المعرفة إلى اجمالية وتفصيلية والرافع للحلية المعرفة التفصيلية.

ولكن أشكل على ما أفيد بملاحظتين:

الملاحظة الأولى: هي أنّ الإنصاف ظهور كلمة بعينه في القيد الاحترازي، وإنّها ظاهرة في المعرفة التفصيلية، حتّى في قولنا: «رأيت زيدا بعينه»، فإنّها ظاهرة في أنّه رآه لا على نحو الإجمال بل على نحو التفصيل، ولذلك يقال: أحدهما بعينه وأحدهما لا بعينه فكلمة بعينه في حدِّ ذاتها ما لم يكن سياق على شيء آخر فهي ظاهرة في القيد الاحترازي للمعرفة الذي ينوعها لمعرفة تفصيلية أو اجمالية.

الملاحظة الثانية: لو صرفنا النظر عن كلمة بعينه فالمهم ما قبلها، فلو لم تكن موجودة في الرواية وإنّما الموجود «حتّى تعرف انه حرام» فهذا كاف في ظهور الذيل في الإشارة إلى العلم التفصيلي ولو لم تكن في ذلك كلمة بعينه، والوجه في ذلك: أنّه فرق في قوله «حتّى تعرف انه حرام» و«حتّى تعرف حراما»، فالأول: لا ينطبق على العلم الاجمالي، إذ لا يقال في مورد العلم الاجمالي بالحرام أنّك عرفت حراما بل عرفت أنّه «حرام هو أو غيره» فكلمة «حتى تعرف أنّه حرام» ولو لم تنضم إليها كلمة بعينه هي ظاهرة في العلم التفصيلي، فتكون قرينة أخرى على نظر الرواية للعلم الاجمالي وأن لا رافع إلّا العلم التفصيلي.

ولكن أجيب عن هذه الملاحظة: بعدم اطرادها لسائر موارد العلم الاجمالي، مثلاً: تارة أعلم أنّ أحد اللحمين حرام، فهنا قد يشملها حتّى تعرف أنّه حرام؛ وتارة أعرف أن لحم زيد حرام واشتبه بين اللحمين، فهنا يصدق على المعلوم بالإجمال أنّه عرف أنّه حرام ومع ذلك لم يتميز بل اشتبه بين اللحمين.

والحمدُ لله ربِّ العالمين