الدرس 88

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

لازال الكلام في المطلب الثالث من مطالب صحيحة عبدالله بن سنان، حيث ذكرنا: إنّه قد يستغنى عن القرينة وهي كلمة «بعينه» للإشارة إلى أنّ الرافع للحلية العلم التفصيلي، وذلك بأن يقال: حتّى لو لم ترد هذه اللفظة وهي قوله: «بعينه» فإنّه يكفي ما قبلها في الدلالة على أنّ الرافع للحلية العلم التفصيلي، وهو قوله : «حتّى تعرف الحرام منه»، فإنّ هذه اللفظة حتّى «تعرف الحرام منه» ظاهرة في العلم التفصيلي، إذ لا يقال عرف الحرام منه مع تردده إجمالاً بين طرفين، فقوله : «كل شيء فيه حلال وحرام» وإن كان منطبقا على العلم الإجمالي حيث يصدق على الجبن الموجود في السوق الذي نعلم اجمالا بالفعل أنّ بعضه حلال وبعضه حرام يصدق عليه أنّه مما فيه حلال وحرام، وقوله في الذيل: «حتّى تعرف الحرام منه» ظاهر في العلم التفصيلي بمقتضى مسبوقيته بفرض العلم الإجمالي، ومقتضى قوله: «منه» فإنّ مقتضى القرينة السياقية ومقتضى القرينة اللفظية وهي قوله «منه» أنّ الغاية الرافعة للحلية الظاهرية العلم التفصيلية بالحرمة فلا حاجة إلى اضافة كلمة بعينه.

الأمر الرابع: في النسبة بين صحيحة بن سنان ورواية مسعدة بن صدقة. حيث قال فيها: «كل شيء لك حلال حتّى تعلم انه حرام بعينه فتدعه»، فإنّ صحيحة بن سنان بمقتضى ظهورها في التقسيم الفعلي، أي: أنّ ظاهر قوله «فيه حلال وحرام، أو منه حلال وحرام» كما في بعض الروايات ظاهرة في وجود حلال وحرام بالفعل، هذا إنّما ينطبق على العلم الاجمالي، بينما رواية مسعدة تشمل الشبهات البدوية لأنّه قال: «كل شيء لك حلال»، ولم يقل «فيه حلال وحرام أو منه حلال وحرام»، فمقتضى إطلاقها شمولها لفرض الشبهة البدوية، بينما ظاهر القرينة اللفظية في صحيحة بن سنان نظرها للعلم الاجمالي.

وثانياً: أنّ الغاية في صحيحة بن سنان قوله «حتّى تعرف الحرام منه» بينما الغاية في رواية مسعدة «حتّى تعلم أنّه حرام»، والفرق بينهما: أنّ التعبير الثاني وهو قوله: «حتّى تعلم انه حرام» قد ينطبق على العلم الاجمالي، ولا يختص بالعلم التفصيلي، مثلاً: إذا علمت ان لحم زيد أو جلد زيد حرام علمت بأن هناك جلدا حراما معيناً ثم اشتبه بين جلدين فهنا يصدق ان ذاك الجلد المعين حرام، فيصح لي أن أقول انا اعلم ان ذلك الجلد المشار اليه حرام مع ان الجلد معلوم بالإجمال لا بالتفصيل، فقوله «حتّى تعلم انه حرام» ينطبق على العلم الاجمالي إذا علمنا ان جلد زيد حرام، بينما في صحيحة بن سنان حتّى تعرف الحرام منه لا ينطبق إلّا على العلم التفصيلي، فلا يقال للعلم الإجمالي عرف الحرام منه.

إذن: فلو فرضنا أنّ رواية مسعدة بن صدقة تشمل موارد العلم الاجمالي بوجود الحرام فإن صحيحة بن سنان ظاهرة بالاختصاص بالعلم التفصيلي من خلال الغاية التي فيها.

إلّا ان يقال: لو حملنا هذه الفقرة في رواية مسعدة وهي قوله : «حتّى تعلم انه حرام» على ما يشمل العلم الاجمالي للزم التعارض في تطبيقها فإننا إذا علمنا أن إناء زيد من بين هذين الانائين حرام شربه فهذا الاناء يشمله صدر الرواية كل شيء لك حلال لأنك لا تعرفه بعينه ومقتضى شمول صدر الرواية له ان شربه حلال فإذا شمله ذيل الرواية أيضاً وهي قوله حتّى تعلم انه حرام إذ قلنا بأن هذه اللفظة تشمل الحرام المعلوم بالإجمال إذ قد علمت ان إناء زيد حرام فيلزم التعارض بين الصدر والذيل في امثال هذه الموارد.

وقد يقال: أنّ هذا التهافت بين الصدر والذيل قرينة على ان المراد بالعلم بالذيل العلم التفصيلي ويؤكد ذلك تعقيبه بقوله: «حتّى تعلم انه حرام بعينه فتدعه» فلا يبقى من هذه الجهة فرق بين رواية مسعدة وصحيحة بن سنان.

الأمر الخامس: وهو المهم في الرواية، ذهب صاحب الكفاية: إلى ان منجزية العلم الاجمالي مرفوعة بهذه الصحيحة أي صحيحة بن سنان، حيث أفاد بأنه حتّى لو قلنا بمنجزية العلم الاجمالي عقلاً لحرمة المخالفة القطعية، ولكن بما أنّ منجزية العلم الاجمالي حكم عقلي وهو معلق على عدم ترخيص الشارع فصحيحة ابن سنان ظاهرة في الترخيص في المخالفة القطعية فيجوز ارتكاب أطراف العلم الاجمالي بمقتضى صحيحة ابن سنان، بل هذا هو لازم القول بالاقتضاء، وهو المسلك الذي اخترناه من ان العلم الاجمالي مجرد مقتض لحرمة المخالفة القطعية فضلا عن وجوب الموافقة القطعية فمع وجود صحيحة ظاهرة في جواز ارتكاب كلا الطرفين هو عدم المنجزية، وقد قرب استدلال الكفاية لدى تلامذته بوجهين:

الوجه الأول: أن يقال: بأنّ صحيحة بن سنان بمقتضى ذيلها ظاهرة في الحكومة على أدلة الأحكام الواقعية، فدليل الحكم الواقعي مثلاً قوله: «اجتنب الميتة أو اجتنب النجس» دليل الحكم الواقعي ظاهر في أنّ مفاده حكم فعلي، وأنّه متى وصلك هذا الخطاب وهو حرمت عليك الميتة تنجز في حقه، فإنّ مفاده ان حرمة الميتة حكم فعلي في حقك فمتى وصلك تنجز هذا هو ظاهر أدلة الأحكام الواقعية، ولكن ظاهر صحيحة ابن سنان حتّى تعرف الحرام منه بعينه ان فعلية الحكم الواقعي منوطة بالعلم التفصيلي فما لم يعلم تفصيلا فلا حرمة ولا نجاسة وهو ما ذهب اليه صاحب الحدائق في «كل شيء نظيف»، أي: ان القذارة واقعا منوطة بالعلم بها فما لم يعلم فلا قذارة، وبالتالي فمقتضى ظهور الصحيحة في ان الفعلية منوطة بالعلم التفصيلي الحكومة على أدلة الأحكام الواقعية، وتضييق دائرة الفعلية بفرض العلم التفصيلي.

ولكن اشكل على ذلك: ان ظاهر صدرها ان الفعلية ثابتة مع غض النظر عن العلم، لأنّه قال: «كل شيء فيه حلال وحرام»، فهو يرى ان هناك حلال وحرام بالفعل في رتبة سابقة على العلم التفصيلي، كل شيء فيه حرام وحلال بالفعل فهو لك حلال فنفس الرواية ظاهرة في ان الحلية والحرمة فعلية في رتبة سابقة على العلم التفصيلي، ومقتضى ذلك: أنّ العلم التفصيلي دخيل في التنجز وليس دخيلا بالفعلية.

التقريب الثاني: بأن يقال: ان صحيحة بن سنان شاملة للشبهة البدوية ومورد العلم الاجمالي بينما أدلة الأحكام الواقعية وهو قوله حرمت عليكم الميتة أو اجتنب النجس ناظرة لغير العلم التفصيلي فيجتمعان أي صحيحة بن سنان مع أدلة الأحكام الواقعية في فرض العلم الاجمالي حيث إنَّ مقتضى دليل الحكم الواقعي في فرض العلم الاجمالي هو الحرمة، ومقتضى صحيحة بن سنان الحلية، حيث لا يعلم تفصيلاً، وتفترق صحيحة بن سنان عن أدلة الحكم الواقعي في نظرها للشبهة غير المحصورة حيث إنَّ صحيحة بن سنان لا تشمل الشبهة غير المحصورة بل هي خاصة بالمحصورة بينما دليل الحكم الواقعي يشمل الشبهتين.

بناء على ذلك: تكون النسبة عموما من وجه يتعارضان في مورد الاجتماع ويتساقطان والمرجع البراءة العقلية، فتكون النتيجة بصالح الحلية.

ولكن، لو سلّمنا ان النسبة بينهما عموما من وجه، نقول: لا يمكن الرجوع للبراءة العقلية في المقام، والسر في ذلك: أنّ موضوع البراءة العقلية أن يحرز عدم البيان، لأنّ المناط في قبح العقاب هو الظلم وصدق الظلم منوط بإحراز عدم البيان، فمع العلم بأصل التكليف حيث علمنا بأصل التكليف وانما كان العلم اجماليا ولا ندري انه يحل بهذا الفرض أو لا فمع العلم بأصل التكليف وان كان اجمالا لم يحرز عدم البيان كي يكون حكم العقل بقبح العقاب فعليا فلا مجال للرجوع للبراءة العقلية ومقتضى لزوم دفع الضرر المحتمل المنجزية.

ولكن، حتّى مع دفع تقريبات مطلب صاحب الكفاية يبقى الاشكال قائما وهو ماذا نصنع بظاهر صحيحة بن سنان فإن ظاهرها هو الترخيص في المخالفة القطعية ما لم يعلم تفصيلا بالحرمة سواء تمت تقريبات الكفاية أم لا فما هو العلاج لظاهر هذه الرواية؟.

فهنا وجهان من الجواب:

أحدهما: ما ذكره السيد الشهيد. والآخر: ما ذكره السيد الإمام في «المكاسب المحرمة، ج2، ص264»:

فقد أفاد السيد الشهيد: أن المرتكز العقلائي قائم على انه لا يُضحى بالغرض اللزومي لأجل غرض ترخيصي ومقتضى احتفاف صحيحة بن سنان بهذا المرتكز العقلائي انصرافها إلى الشبهة غير المحصورة أو الشبهة المحصورة التي احد اطرافها خارج عن محل الابتلاء والا فمع كون الشبهة محصورة ودخول اطرافها محل الابتلاء يلزم من الترخيص في المخالفة القطعية التضحية في الغرض اللزومي بغرض ترخيصي.

ونحن وان لم نحرز المرتكز العقلائي ولكن يكفينا شبهة الانصراف لأنّه انما يتم الاستدلال بصحيحة بن سنان على جواز المخالفة القطعية إذا احرزنا إطلاقها للشبهة المحصورة ذات محل الابتلاء واحتمال احتفافه بالمرتكز العقلائي الذي حصله السيد الصدر يكفي هذا الاحتمال في عدم احراز إطلاقها كي نتعكز عليه في الاستدلال على جواز المخالفة القطعية، فإن شبهة الانصراف تكفينا في عدم العلم بالرواية.

والحمدُ لله ربِّ العالمين