الوحي بين الإلهية والبشرية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة، نتحدث عن نظرية التفكيك بين الجانب الإلهي من الدين والجانب البشري. أركون من المفكّرين العلمانيين الذين طرحوا هذه النظرية من خلال مقالاته المتعدّدة، كبحثه حول نقد العقل العربي، وبحثه حول العقل والقرآن. أركون يفكّك بين الجانب الإلهي والجانب البشري في الدين، فما معنى هذا التفكيك؟

معالم الأطروحة الأركونية:

الدين مرَّ بمرحلتين: مرحلة الإرسال، ومرحلة الاستقبال. مرحلة الإرسال بمعنى أن الله «تبارك وتعالى» شرّع المضامين، وشرّع القوانين الدينية. هذه القوانين التي شرّعها الله قبل أن تصل إلى النبي ، وقبل أن يتلقاها النبي ، هذه القوانين هي الدين، هي الدين على إطلاقه، هي الدين على واقعه، هي الدين على قداسته. أما مرحلة الاستقبال فتعني أنَّ النبي استقبل هذه القوانين بعقله، استقبل هذه المضامين بقلبه.

الدين عندما وصل إلى النبي انتقل من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى، كان الدين قبل أن يصل إلى النبي مطلقًا؛ لأنه صادرٌ من المطلق «عز وجل»، فلأن المصدر مطلق، وهو الله، فالصادر منه مطلق لا حدود له، ولكن لما وصل الدين إلى عقل النبي انتقل من مرحلة الإطلاق إلى مرحلة المحدودية، صار محدودًا، كان مطلقًا قبل أن يصل إلى النبي، أصبح محدودًا بعد أن وصل إلى النبي. كان الدين إلهيًا، بعد أن وصل إلى النبي صار بشريًا، إذن الدين له جانبان: جانب إلهي، وهو واقعه المطلق قبل أن يتلقاه عقل النبي، وجانبه البشري، وهو المحدود بعد أن تلقاه عقل النبي محمد . لماذا خرج الدين من الإطلاق إلى المحدودية؟ لعوامل ثلاثة:

العامل الأول: أن عقل النبي محدود.

هو بشر، وإن كان أفضل الخلق، إلا أنه بشر، وعقل البشر محدود وليس مطلقًا، فلا يمكن أن يسيطر عقل النبي على الدين بواقعه المطلق، لا محالة بما هو عقل بشري محدود، إذن فقد تلقى الدين بصفة محدودة، فقد تلقى الدين بحدود معينة، ولم يتلق الدين على إطلاقه وعلى واقعه، محدودية عقله تقتضي أن يكون ما تلقاه محدودًا وليس مطلقًا.

العامل الثاني: أن الوحي تجليات.

النفس الإنسانية عندما تتسامى على المادة، عندما تتعالى على الأرض، عندما تتجرد من الشوائب، النفس الإنسانية إذا تسامت وتحرّرت من الشوائب المادية، يتجلى لها العالم الآخر، يتجلى لها عالم الغيب، يتجلى لها عالم الملكوت، فبمقدار سمو النفس، يتجلى لها، النفوس تختلف في سموها، فتختلف في التجلي. يقول أركون: لهذا الأنبياء تفاوتوا، موسى وعيسى وإبراهيم ومحمد تفاوتهم في الشرائع لتفاوتهم في التجلي، الدين الإسلامي ما هي ميزته على الدين المسيحي؟ أو ما هي ميزته على الدين اليهودي؟ اختلاف السمو يعني اختلاف التجلي، فإذن الاختلاف بينهم هو اختلاف في التجلي ليس إلا.

لهذا، القرآن يتحدث عن النبي إبراهيم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام» فيقول: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إذن، الله استجاب لإبراهيم لأن سمو نفسه وصل إلى مرتبة تجلى له كيفية إحياء الموتى، بينما موسى: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي، استجاب لإبراهيم ولم يستجب لموسى، ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا، ما هو الفرق بين الآيتين؟

هناك يريد أن يقول: أنت يا إبراهيم بلغت درجة من السمو وصلت فيها إلى مرحلة التجلي، فأريناك كيفية إحياء الموتى، وأنت يا موسى لم تصل إلى تلك المرتبة التي أتجلى لك بما أنا وعلى واقعي، نظير هذا الجبل، هذا الجبل الصلب الأشم لا يتحمل أن أفيض عليه طاقةً من الضوء أكبر من حجمه، وأكبر من تماسكه. إذن، الأنبياء يختلفون في درجات التجلي، ولأجل ذلك رأينا الأديان تختلف، ورأينا الملل تختلف لاختلاف درجات التجلي.

العامل الثالث: اللغة.

يركّز أركون على اللغة، يقول: اللغة هي المشكلة، اللغة هي التي حوّلت الدين من مطلق إلى محدود، هي التي حوّلت الدين من إلهي إلى بشري. بالنتيجة الدين عندما وصل إلى النبي صاغه النبي بلغة عربية، عندما وصل الدين إليه تصوّره عبر اللغة العربية؛ لأنه عربي، تصوّر الدين من خلال لغته العربية، واللغة عندما تصاغ بها أي فكرة تصبح محدودة بحدود اللغة، تصبح مبهمة بإبهام اللغة.

مثلًا: كيف يسيطر الله على الوجود؟ سيطرة الله على الوجود، وإحاطة الله بالوجود، إحاطة إطلاقية، لا نستطيع نحن أن نتصورها كما هي، لكن عندما جاء القرآن ليصوغها صاغها بلغة عربية، قال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، فلما صاغها باللغة العربية صارت محدودة، كأن هناك عرشًا ماديًا، والله أتى للعرش وجلس عليه! نحن إذا قرأنا هذا المعنى من خلال اللغة، نجده محدودًا، فاللغة عاملٌ ساهم في محدودية الفكرة، اللغة عامل ساهم في إبهام الفكرة، ولم لم تُصَغ بهذه الصياغة لأمكن لنا أن نتعقل أن لله إحاطةً إطلاقيةً لا حد ولا قيد لها، ولكن لما صيغ بهذه الصياغة فإن الصياغة اللغوية أعطت الفكرة محدوديةً ونوعًا من الإبهام والغموض.

مثال أوضح: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ، هل معنى ”اجتنبوه“ أنه حرام أم المقصود: هو ليس حرامًا ولكن ابتعدوا عنه؟ هل الأمر هنا إلزامي أم ليس أمرًا إلزاميًا؟ إذا كان أمرًا إلزاميًا فما الفرق بينه وبين قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ؟! أليس ”انكحوا“ أمرًا؟! الإنسان ليس ملزمًا بأن يتزوج باثنتين وثلاث وأربع، فلماذا الأمر هنا ليس إلزاميًا وهناك إلزامي؟! قلتم بأن ”فاجتنبوه“ أمر إلزامي، ولكن لماذا قلتم بأن ”انكحوا“ أمر مستحب وليس أمرًا إلزاميًا؟! إذن، اللغة عامل يساهم في إبهام الفكرة، وفي غموض الفكرة، وفي محدودية الفكرة.

لأجل ذلك، يقول أركون: الدين بعد أن وصل إلى النبي، وصيغ باللغة العربية، خرج من الجانب المطلق إلى الجانب المحدود، خرج من الجانب الإلهي إلى الجانب البشري، وبعد أن خرج إلى الجانب البشري فقد القداسة. الدين مقدس لأنه إلهي، أما إذا صار بشريًا فإنه يفقد القداسة، القداسة للدين الإلهي، القداسة للجانب الإلهي من الدين، لا للجانب البشري المحدود، هذا ليس مقدسًا، وبالتالي: لو أنَّ إنسانًا أنكر شيئًا مما يعبّر عنه بالدين، فلا يصح الحكم بالارتداد.

مثلًا: لو قال شخص بأنه ليس مقتنعًا بحرمة الربا في هذا الزمان، فإننا لا نستطيع أن نقول بأنه مرتد؛ لأنه لم يخالف الدين الإلهي، وإنما خالف الجانب البشري، فهو لم يخالف الجانب المقدس من الدين، وهو الجانب الإلهي المطلق، وإنما خالف الجانب البشري المحدود، وهو ما نفهمه من خلال اللغة العربية، وهذا جانب محدود، وليس مقدسًا، فلا نستطيع أن نحكم عليه بالارتداد؛ لأنه لم يخالف واقع الدين، وهو الواقع الإلهي المطلق.

مناقشة هذه الأطروحة:

ما ذكرناه هو خلاصة نظرية أركون وغيره من العلمانيين في هذا المجال، فما هي مناقشاتنا وأجوبتنا نحن في المقابل على هذه الأطروحة؟ نحن نذكر ثلاث مناقشات:

المناقشة الأولى: مناقشة عقلية.

المناقشة العقلية تتلخص في مقدمتين:

المقدمة الأولى: هل الدين شُرِّع بلا هدف أم شُرِّع لأجل هدف؟

لا يمكن أن يقال بأن الدين شُرِّع بدون هدف، لا يمكن القول بأن الدين شُرِّع لغوًا وعبثًا وبدون هدف؛ فإنَّ هذا يعني صدور القبيح من الحكيم تعالى. الحكيم لا يصدر منه القبيح، وصدور الدين لغوًا أو عبثًا أو جزافًا بلا هدف يعني صدور القبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم «تبارك وتعالى»، فإذن الدين شُرِّع لأجل هدف، كما ذكر القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لماذا؟ ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، الهدف هو انتشار العدالة، الهدف هو تطبيق العدالة على وجه الأرض، الهدف من تشريع الدين نشر العدالة، ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، فإذن الدين شُرِّع لهدف، وهذا واضح.

المقدمة الثانية: مقتضى الحكمة ضمان آلية الوصول للهدف.

من أسّس مشروعًا لأجل هدف، لا بد أن يضمن آلية وصوله إلى الهدف. أنت عندما تؤسّس روضة أطفال مثلًا، ما هو الهدف؟ تقول: الهدف من تأسيسي لروضة الأطفال أن يكتشف هؤلاء البراعم مقدارًا من الثقافة، وأن يتقن هؤلاء البراعم مقدارًا من اللغة الإنجليزية، الهدف من تأسيس الروضة هو تأهيل مجموعة من البراعم للثقافة وللغة الإنجليزية، إذا كان هذا هو هدفك، لا بد أن تجعل آلية للوصول إلى هذا الهدف، ما هي الآليات التي وضعتها من أجل أن تحقّق هدفك؟ ما هي المميزات التقنية والفنية التي وضعتها في هذه الروضة من أجل إيصال هؤلاء البراعم إلى الهدف؟ إذن، كل من أسّس مشروعًا لأجل هدف، لا بد أن يؤسّس معه آلية توصل ذلك المشروع إلى الهدف، وإلا يكون تأسيسه للمشروع لغوًا وعبثًا، وهذا واضح.

من هنا نقول: الله «تبارك وتعالى» أسّس مشروعًا سمّاه دين الإسلام، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، الله أسّس مشروع، وهو الإسلام، لهدف، وهو انتشار العدالة. كما يجب عليه أن يؤسّس الدين لأجل انتشار العدالة، يجب عليه أن يضع آلية لإيصال الدين إلى أهدافه، فالله «تبارك وتعالى» يقوم بدورين: الدور الأول: تشريع الدين لأجل الهدف، والدور الثاني: هو خلق آلية من خلالها يحقّق أهداف الدين، فما هي الآلية؟

يتعيّن عليه «تبارك وتعالى» حتى يحقّق أهدافه، وحتى لا يصدر منه اللغو والعبث، يتعيّن عليه أن يوصل الدين إلى البشرية بواقعه وبلغة واضحة؛ لأنه ما لم يوصل الدين إلى البشرية على واقعه وبلغة واضحة لم يحقق أهداف الدين، وإذا لم يحقق أهداف الدين صار الدين لغوًا وعبثًا، واللغو والعبث لا يصدر من الحكيم «تبارك وتعالى». إذن، مقتضى حكمته «تبارك وتعالى» تشريع الدين، ومقتضى حكمته أن يوصل الدين إلى البشر باللغة الواضحة، وإلا إذا لم يتم ذلك فإن الأهداف تضيع، وإذا ضاعت الأهداف صار تشريع الدين لغوًا وعبثًا.

من هنا، قال تبارك وتعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. نحن لم نشرّع الدين فحسب، بل ضمنا الآلية أيضًا، نحن شرعنا الدين، وأيضًا شرعنا آلية وصول الدين إلى البشر، أسّسنا دينًا وأسّسنا آليةً لوصول هذا الدين إلى البشر، فالصياغة ليست من قِبَل النبي، وإنما الصياغة من قِبَل الله «عز وجل»؛ لكي يضمن وصول الدين على واقعه، لئلا تضيع أهدافه. ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، نحن ننزله باللغة وبالتفاصيل وبالحروف، كل شيء من عندنا، كما أسّسنا الدين أسّسنا آلية الوصول، أنت ليس عليك إلا التبليغ فقط، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، نحن نضمن كل شيء، ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ.

المناقشة الثانية: حقيقة الوحي.

ليس الوحي مسألة تجلٍ، هذه النظرية نظرية فاشلة، أن الوحي تجليات، أي أن موسى يتعبد، فتسمو نفسه، فيتجلى له عالم الغيب، ومحمد يتعبد في غار حراء، وتسمو نفسه، فيتجلى له الغيب، وعيسى يتجلى له الغيب، وكل شخص يختلف تجليه عن الشخص الآخر، فلذلك تختلف الأديان! ليست مسألة الوحي مسألة تجلٍّ. الفلاسفة يقسّمون المعارف والمعلومات إلى أقسام أربعة:

1 - معلومات حسية.

2 - ومعلومات عقلية.

3 - ومعلومات وجدانية.

4 - ومعلومات انكشافية، ليست حسًا ولا عقلًا ولا وجدانًا.

أمثلة: أنا كيف أعرف أن هذا الجسم حار أو بارد؟ بالحس، هذه نسميها معرفة حسية، وهذا واضح. أنا كيف أعرف أن الله ليس بجسم؟ بالحس؟! لا، بل بالعقل. لو كان الله جسمًا لكان محدودًا، ولو كان محدودًا لاحتاج إلى من يعطيه الحد، وإذا احتاج إلى من يعطيه الحد ما صار ﴿ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، إذن الله ليس بجسم، فهذه معرفة عقلية. كيف أعرف أنني أحبك أو أنني أبغضك؟ بمراجعة الوجدان، أراجع قلبي فأرى أن قلبي يحبك، أراجع قلبي فأرى أن قلبي يبغضك، أراجع مشاعري فأراها فرحة، أراجع مشاعري فأراها حزينة، فمعرفة الحب والبغض والحزن والفرح ليست بالحس ولا بالعقل، بل بالوجدان، وهذه هي المعرفة الوجدانية.

هناك قسم رابع ليس بالحس ولا بالعقل ولا بالوجدان، بل بالانكشاف، أي: أن يصل الواقع إلى قلبك مباشرة، من دون حس، من دون عقل، من دون وجدان، يصل الواقع إلى عقلك على نحو الانكشاف، فمثلًا: الكثير من الناس يصادفهم هذا: مرة من المرات ترى في النوم كأنك تتحدث أو تلتقي مع إنسان معين أنت لا تعرفه في النوم، وبعد فترة ترى نفس هذا الإنسان. ذلك الحلم الذي رأيته، تراه الآن نفسه تمامًا، تلك الرؤيا التي رأيتها في المنام تراها تحققت كما هي، ذلك الإنسان، وذلك الحديث، وذلك المجلس، وذلك الكلام، هو هو كما رأيته في النوم، فما هي المعرفة؟ حسية؟! وجدانية؟! عقلية؟! انكشافية، انكشف الواقع لقلبك مباشرةً.

مثال آخر: أنت تسمع العرب يقولون: وظنُّ الألمعي عينُ اليقينِ. الحدس أحيانًا يصل إلى درجة الانكشاف، يصل إلى درجة الواقع، فمثلًا: أنا أسافر إلى أوروبا، أرى إنسانًا في الشارع، أقول: لا شك في أن هذا مسلم، من أين عرفت؟ لعله ليس ملتحيًا، ولعله يمشي وهو يغني، ومع ذلك أنا يصير عندي حدس أحيانًا أن هذا مسلم، ثم ألتقي معه، أتحدث معه، فيتبيّن أن حدسي في محله. هذا الحدس ليس حسًا ولا وجدانًا ولا عقلًا، بل هو انكشاف. إذن، بعض المعلومات تصل إلى الإنسان لا بالحس، لا بالوجدان، لا بالعقل، بل بانكشاف الواقع للقلب مباشرةً.

الوحي من هذا القبيل، فليس الوحي يأتي عن طريق الحس، ولا عن طريق الوجدان، ولا عن طريق العقل، بل إن الوحي من القسم الرابع، الوحي انكشاف، ينكشف لقلب النبي العالم الآخر، ينكشف لقلب النبي عالم الغيب، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ لا على أذنك ولا على عقلك ولا على وجدانك، بل ﴿عَلَى قَلْبِكَ انكشاف واقعي ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، فالوحي ليس من قسم التجليات، بل هو من قسم الانكشاف.

إذا كان الوحي كذلك، فإما أن يكون هناك انكشاف، فيكون الدين قد وصل؛ لأنه انكشف، أو لا يكون هناك انكشاف، فلا يكون هناك وحي أصلًا. لا معنى لأن يقال: والله هي قطعة من الجزر، وموسى حصل على ربع من الجزرة، ومحمد حصل على نصف من الجزرة، وإبراهيم حصل على الربع الثاني! لا، المسألة ليست هكذا، إما أن الواقع انكشف أو لم ينكشف، إن انكشف الدين للنبي فقد وصل إليه كما هو وعلى واقعه، وإن لم ينكشف فلا وحي ولا نبوة، فلا معنى لأن يقال: هو نبي وأوحي إليه، لكن لم ينكشف له الواقع، وإنما تجلى له شبح وصورة، ولم يتجلَ ولم ينكشف له الدين على إطلاقه وواقعه.

القرآن الكريم يقول: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى.

المناقشة الثالثة: خلط الأطروحة الأركونية بين الواقعي والاعتباري.

الفلاسفة يقولون: هناك قسمان: قسم واقعي، وقسم اعتباري. الواقعي لا يختلف، والاعتباري يختلف. مثلًا: جاذبية الأرض من الأمور الواقعية، لا تختلف، لا تتغير، صعدت إلى المريخ أم جلست على الأرض، نائمًا كنت أو طائرًا في الهواء، الجاذبية هي الجاذبية، لا تتغير ولا تختلف. بينما السنة أمر اعتباري وليست أمرًا وقعيًا؛ لأنه أمر يختلف باختلاف الملل والشعوب، فبعض الشعوب تحدّد السنة بالسنة الهجرية، وتحدّد السنة الهجرية من شهر محرم، بعض الشعوب تحدّد السنة بالسنة الهجرية الشمسية، بعض الشعوب تحدّد السنة بالسنة الهجرية القمرية، بعض الشعوب تحدّد السنة بالسنة الميلادية، فهذه التحديدات تحديدات اعتبارية، وليست تحديدات واقعية؛ لأنها تختلف باختلاف الشعوب، وباختلاف الأنظار.

إذن، ما هو الفرق بين الواقعي والاعتباري؟ الواقعي ما لا يختلف، والاعتباري ما يختلف باختلاف الأنظار. هناك أيضًا فرق آخر بين الواقعي والاعتباري، وهو أنَّ الواقعي يمكن أن يكون مطلقًا، بينما الاعتباري لا يمكن إلا أن يكون محدودًا. مثلًا: وجود الله أمر واقعي، لكن وجود الله مطلق لا حد له، علمه، قدرته، حياته، هذه أمور واقعية، لكنها مطلقة لا حد لها، فالأمر الواقعي يمكن أن يكون مطلقًا. أما وجوب الصيام فهو أمر اعتباري اعتبره الله، بدليل أن ما فرضه الله من الصيام على المسيحيين غير ما فرضه على المسلمين، هم يصومون بشكل معين، ونحن نصوم بشكل آخر، إذن كيفية الصيام كيفية اعتبارية، اعتبرها الله في حق ملة بشكل، واعتبرها الله في حق ملة أخرى بشكل آخر.

إذن، وجود الله أمرٌ واقعيٌ، ولذلك يقبل الإطلاق، بينما وجوب الصوم أمر اعتباري، فلا يقبل الإطلاق، بل هو أمر محدود باعتبار المعتبِر. من هنا نقول: الدين أيضًا ينقسم إلى قسمين: قسم منه واقعي، وقسم منه اعتباري. مثلًا: وجود الله من الدين، توحيد الله من الدين، لكن هذا أمر واقعي، الاعتقاد بصفات الله من الدين، لكن هذا أمر واقعي، ووجوب الصلاة، وجوب الصوم، وجوب الحج، حرمة الربا، حرمة شرب الخمر، حرمة الغناء، هذه من الدين، لكنها أمر اعتباري، فالدين ينقسم إلى قسمين: أمر واقعي له إطلاق، وأمر اعتباري، وهو محدود.

لذلك، لو صحّت نظرية أركون، ولم نناقشها بالمناقشتين السابقتين، لقلنا: تصح في القسم الأول لا في القسم الثاني، إنما يصحّ لنا أن نصنّف الدين ونقول: الدين له جانبان: جانب إلهي وجانب بشري، هذا التصنيف يصح في القسم الأول، وهو الواقعي من الدين، ولا يصح في القسم الثاني، وهو الأمر الاعتباري؛ لأنَّ الأمر الاعتباري محدودٌ، فيصل إلينا كما هو محدودٌ، نحن محدودون، والأمر الاعتباري محدود، فيصل إلينا كما هو، من دون تغير من جانب إلهي إلى جانب بشري.

إذن، إحاطة الله بالمخلوقات أمرٌ واقعيٌ، لا يصل إلينا، هذا الأمر الواقعي من الدين، لكن لا يصل إلينا كما هو، بل يصل إلينا محدودًا؛ لأن عقلنا محدود، فهذا الأمر الواقعي ينقسم إلى إلهي وبشري، وأما التشريعات العبادية - أحكام العبادات والمعاملات - فهي قوانين اعتبارية، اعتبرها الله لتنظيم حياة البشر فردًا ومجتمعًا، والأمور الاعتبارية محدودة، فإذن وصلت إلينا هذه الأمور كما هي، وليس فيها طرفان: طرف إلهي، وطرف بشري، فإذا وصلت إلينا كما هي فهي مقدّسة؛ لأنها صادرةٌ من القدّوس «تبارك وتعالى»، فهي مقدّسةٌ بقداسته، وإذا كانت مقدّسةً فمتى ما أنكرها شخصٌ عن عمدٍ والتفاتٍ اُعْتُبِر مرتدًا؛ لأنه أنكر الدين كما هو وعلى واقعه.