فطرية القيم

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا

صدق الله العلي العظيم

هناك سؤالٌ يتبادر إلى ذهن الإنسان عندما يمر بالآيات القرآنية التي تتحدث عن طبيعة الإنسان، فإن الآيات القرآنية على قسمين: قسمٌ ينسب إلى الإنسان أنه بفطرته يسير نحو الحق، وأنه بفطرته يسير نحو الهداية. مثلًا الآية التي قرأناها: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، فإن مفاد الآية المباركة أن الإنسان أُلهم الفجور والتقوى. أي أنه أُلهم الهداية منذ خلقته، ومنذ أول تكوينه، فهو يسير نحو الهداية بفطرته وبطبيعته، بلا حاجة إلى قوة أخرى من خارج ذاته ترشده إلى طريق الهداية، بل هو بنفسه مسترشد ومهتد بمقتضى فطرته وبمقتضى طبيعته. وقال في آية أخرى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ، أي أن الإنسان بفطرته يسير نحو الدين، وبفطرته يمشي على ضوء قيم الدين. وقال في آيةٍ ثالثة: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، أي أن الإنسان بطبيعته يسير على ملة إبراهيم، ولو خلي الإنسان وطبعه لسار على ملة إبراهيم، فإنه لا يحيد عن ملة إبراهيم إلا إذا كان سفيهًا، وإلا متى ما كان الإنسان عاقلًا، ومتى ما كان الإنسان جامعًا لقدرته وقوته العقلانية، فإنه يسير على ملة إبراهيم أي الدين. فهذه الآيات وأشبهاها، نحو قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، كلها تؤكد أن الإنسان يسير نحو الهداية بفطرته وطبيعته.

وهناك قسمٌ آخر من الآيات تنسب إلى الإنسان أنه ضال ظلوم بطبعه وبفطرته. مثلًا قوله عز وجل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أي أن الإنسان بطبعه ظلومٌ جهول. وقال في آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إذن فهو بطبعه وبفطرته هلوع، والهلع يقوده نحو الضلال ويبعده عن أفق الهداية. ويقول في آيةٍ ثالثة: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ، أي أنه بطبعه ظلوم، وهذا ما يؤكده قول المتنبي:

والظلم   من   شيم   iiالنفوس   فإن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ

وإلا فالظلم طبيعةٌ فطريةٌ لدى الإنسان. وقال في آيةٍ رابعة: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، أي أنه بطبيعته ينقاد نحو الطغيان إذا رأى أنه استغنى عن غيره، واستجمع أسباب القوة وأسباب الملك.

فهناك صنفان من الآيات: صنفٌ يؤكد أن الإنسان ذو هداية بطبعه، وصنفٌ يؤكد أن الإنسان ظلومٌ جهولٌ كفارٌ إلى غير ذلك من الصفات بطبعه وبفطرته، فكيف نجمع بين هذين الصنفين من الآيات؟ قد يقال بأن هذا تنافرٌ في مداليل القرآن الكريم، وأن هذا تعارضٌ في مفاد آيات القرآن الكريم بين الصنف الذي يؤكد أن الإنسان بطبعه مهتدٍ، وبين الصنف الذي يؤكد أن الإنسان بطبعه ظلومٌ كفار، فكيف نوفق بين هذين الصنفين من الآيات؟ هناك وجهان للإجابة عن هذا السؤال:

الوجه الأول: المقصود بالفطرية إعداد المادة.

المقصود من كون الهداية فطرية، والمقصود من كون الظلم فطريًا هو إعداد المادة، أي مادة الهداية فطرية، لا أن الإنسان مهتدٍ بالفعل بالفطرة بل مادة الهداية فطرية. ومادة الظلم والانحراف والضلال فطرية، لا أنه ظلومٌ بالفعل منذ أن يُخلق فهو ظلومٌ بالفعل، أو منذ أن يُخلق فهو مهتدٍ بالفعل، وإنما المقصود هو المادة، مادة الظلم، ومادة الاستقامة والاعتدال.

بيان ذلك: الإنسان في حياته يحتاج إلى ثلاثة أنواع من المعلومات: معلومات جزئية، ومعلومات عقلية، ومعلومات عملية. المعلومات الجزئية: أن يشعر بالحرارة، أن يشعر بأن هناك إنسانًا آخرًا معه، أن يعرف أن هذا طعام وهذا شراب وهذا حيوان وهذا نبات، هذه معلومات جزئية. هذه المعلومات الجزئية التي يحتاج إليها الإنسان، جعل الله طريقًا للوصول إليها، وهو طريق الحس أي أعطى الإنسان إحساس، ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، أي جعل للإنسان إحساسًا يقوده إلى المعلومات الجزئية.

ولذلك إذا قرأنا آيات القرآن الكريم، رأينا أن القرآن إذا تعرض للمعلومات الجزئية يستخدم تعبيرات حسية، مثلًا يقول: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ، ولا يقول: أفلا يتفكرون في الإبل. يعني هذه المسألة مسألة حسية، فلا بد للإنسان أن يستخدم الحس. وأيضًا يقول: ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، هذا الكوكب الذي نعيش عليه محفوف بعوامل التعرية. وعوامل التعرية التي تحف بهذا الكوكب الذي نعيش عليه تنقص، وتأخذ من ترتبه وقشرته بمرور الوقت، وإلى أن يعوض ما أُخذ، يحتاج إلى وقتٍ آخر. بما أن هذه المعلومات معلومات حسية، معلومات جزئية، فالطريق إلى الوصول إليها، والطريق إلى اقتناصها هو الإحساس؛ لذلك القرآن يستخدم التعبيرات الحسية عندما يتحدث عن هذه المعلومات الجزئية.

والقسم الآخر من المعلومات: المعلومات العقلية، أن هناك نبي، وأن هناك إمام، وأن هناك قيم، وأن هناك فضائل، هذه كلها معلومات عقلية. والطريق لاقتناص هذه المعلومات العقلية هو القوة المفكرة لدى الإنسان التي يمتاز بها عن الحيوانات، هذه القوة التي تستوعب المعلومات، ترتبها وتستنج منها. أيضًا نلاحظ القرآن إذا تحدث عن المعلومات العقلية لا يستخدم الإحساس، بل يستخدم العقل، يقول: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، لم يقل: إنما يتذكر أولو الأبصار، أو أولو الأسماع، أو أولو الأرجل؛ لأن المسألة مسألة عقلية، لأن المعلومة معلومة عقلية. وعندما يتحدث عن الهدف من وجود هذا الكون بأسره يقول: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قال: ويتفكرون، استخدام العقل في الوصول إلى المعلومات العقلية.

بعضهم قرأ هذه الآية ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، وهو دائمًا إذا أراد أن يذكر الله، نام على جنبه، وقال: الحمد لله، لماذا تنام على جنبك؟ قال: لأن الآية قالت: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ، فبعضهم يتصور أنه هذا أمر مطلوب أن ينام على جنبه حتى يحقق مصداق الآية المباركة، فيقول: أنا أذكر الله أحيانًا وأنا واقف، ثم أقعد وأذكر الله، ثم أنام على جنبي وأذكر الله؛ حتى أحقق معنى الآية ومضمون الآية المباركة، مع أن المقصود بالآية المباركة هو أن ذكر الله لا ينفصل، ولا ينفك عن ألسنتهم في تمام حالاتهم. يعني هؤلاء لشغفهم بذكر الله، ولعشقهم لله، ولتعلقهم بالله، لا ينفك ذكر الله عن شفاههم وألسنتهم كيفما كانوا، وفي أي حالة كانوا، لا أن المطلوب من الإنسان أن يذكر الله وهو نائم على جنبه حتى يكون مصداقًا من مصاديق مضمون الآية المباركة.

فالمعلومات العقلية جعل الله لها طريقا وهو القوة المفكرة، والمعلومات الجزئية جعل الله لها طريقا وهو القوة الحسية، والصنف الثالث من المعلومات هو المعلومات العملية، ما معنى المعلومات العملية؟ مثلًا: الظلم قبيح فاجتنبه، هذه معلومة سلوكية، العدل حسن فخذ به، الأمانة أمر حسن فالتزم بها، الخيانة أمرٌ قبيح فابتعد عنه. هذه المعلومات العملية أيضًا جعل الله لها طريقًا يصل الإنسان به إليها، وهو ما يسمى بالعقل العملي.

العقل لها قوتان: قوةٌ تسمى عقلًا نظريًا، وقوةٌ تسمى عقلًا عمليًا. فالعقل النظري هو الذي يدرك ما ينبغي أن يعلم، المسائل الرياضية يدركها الإنسان بالمسائل النظرية؛ لأنها مما يبنغي أن يعلم. والعقل العملي هو الذي يدرك ما ينبغي أن يعمل، مثل: حسن العدل، وقبح الظلم، وحسن الصدق، وقبح الكذب، وأمثال ذلك من المعلومات العملية. هذا الذي سميناه مادة الهداية، يعني أُعطي عقل عملي. ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، ليس معناه أن الإنسان منذ ولادته يعرف أن الزنا حرام، ليس معناه أن الإنسان منذ ولادته يعرف أن الصدق واجب والكذب قبيح، يعرف مثلًا أن عقوق الوالدين معصية وبر الوالدين طاعة، ليس معناه هذا.

معنى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، يعني أعطاه عقلًا عمليًا، هذا العقل العملي بمقتضى الوقت والخبرة والثقافة يوصل الإنسان إلى المعلومات العملية. فمعنى إلهام الفجور والتقوى، ومعنى أن الإنسان فطريٌ بطبعه وبخلقته، معناه أنه أعطي مادة الهداية ومادة الاستقامة. ومادة الهداية والاستقامة هي عبارة عن العقل العملي، وهو قوةٌ يتمكن الإنسان من خلالها أن يميز بين الصحيح والفاسد، وبين الحسن والقبيح، ليس أنه يدرك بالفعل، لا بل يحتاج إلى وقت وخبرة وثقافة. وأيضًا أُعطي مادة الظلم، لا أنه ولد ظالمًا، لا أنه ولد وهو يحمل غريزة الظلم، لا أنه ولد وهو يحمل طبع التعدي على الآخرين، لا بل أُعطي المادة التي من خلالها يمكن أن يظلم ويمكن أن ينحرف. ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، كلها تشير إلى الظلم، لماذا؟

طبعًا ليس المقصود بالظلم فقط ظلم الإنسانِ لغيره. ورد عن الإمام أمير المؤمين : ”الظلم ثلاثة: ظلمٌ لا يُطلب، وظلمٌ لا يُترك، وظلمٌ لا يُغفر. فأما ظلم الإنسان لنفسه...“، ظلم الإنسان لنفسه هو أن يقصّر على نفسه لا بحد المعصية. افترض مثلًا إنسان يحتاج أن يلعب رياضة يوميًا حتى ينشّط من قوى بدنه، ولا يلعب رياضة، هذا يعتبر ظلم للنفس لكنه لا يطلب منه هذا، يعني ليس ظلمًا يُعاقب عليه. أو أن الإنسان مثلًا يحتاج يوميًا أن يقرأ ثقافةً، أن يطّلع على المعلومات حتى يكون مستنيرًا، حتى يكون واعيًا، وهو لا يقرأ ولا يفتح كتابًا، هذا ظلمٌ لنفسه ولكن هذا ظلم لا يعاقب عليه.

”فأما ظلم الإنسان لنفسه فإنه لا يطلب...“، يعني لا يعاقب عليه، أنت إن أحسنت لنفسك أحرزت آثار العناية، أصبحت مثقفًا، أصبحت رياضيًا، أصبحت قويًا نشيطًا، وإن لم تتعب على نفسك تبقى جاهلًا، تبقى إنسانًا كسولًا، يبقى جسمك جسمًا مريضًا. هذا ظلمٌ لنفسك ولكنه لا يُطلب منك. وأما ظلم الإنسان لغيره، ظلم الإنسانِ للناس، فإنه لا يُترك، وهذا لا يجدي فيه التوبة، مثلًا الإنسان يقول: أنا تبت من الظلم، هذا لا يفيد، ولا يترك هذا الظلم، ويلحق به الإنسان حتى بعد موته؛ لأن الآخر المظلوم لم يتجاوز عن مظلوميته، لم يتجاوز عن خطيئته. ”الظلم ثلاثة: ظلمٌ لا يُطلب، وظلمٌ لا يُترك، وظلمٌ لا يُغفر وهو الشرك بالله“؛ لأن الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، فمن مات وهو مشرك لم يغفر له ذنب الشرك.

إذن الظلم ليس من شيم النفوس بمعنى أنه فطرة وطبيعة متأصلة في النفس كما يتحدث المتنبي، ولكن مادة الظلم هي الفطرية، وهي الطبيعية، وهي المتأصلة لدى الإنسان. ومادة الظلم هي عبارة عن غريزة التملك، وغريزة السيطرة، وغريزة الاستبداد. هذه الغريزة المسماة بغريزة التملك، غريزة السيطرة، غريزة الاستبداد، غريزةٌ موجودةٌ في الإنسان بالطبع والفطرة، ولكن إذا لم يكن لدى الإنسان ثقافة عادلة، ولم يكن له تربيةٌ عادلة، فإن هذه الغريزة تدعوه إلى الظلم، فيصبح ظلومًا جهولًا وظلومًا كفارًا و﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، فالإنسان بفطرته ليس مهتديًا بالفعل، ولا ظالمًا بالفعل، ولكن الإنسان بفطرته يمتلك مادة الاستقامة وهي العقل العملي، ويمتلك مادة الظلم ألا وهي غريزة التملك والسيطرة لدى هذا الإنسان.

الوجه الآخر: فعلية الفطرة.

إن الإنسان مهتدٍ بفطرته بالفعل، بمعنى أنه وُلد وهو يعرف أن الصدق حسن والكذب قبيح، وُلد وهو يحمل إلهامًا يدعوه إلى أن الصدق حسن والظلم قبيح، إلى أن العدل حسن والظلم قبيح، وغير ذلك من القيم والفضائل، فالهداية هدايةٌ فعليةٌ بالفطرة. وأيضًا وُلد هذا الإنسان وهو يملك الفطرة التي تدعوه نحو الظلم.

بيان ذلك: لاحظوا أن القرآن الكريم يقول: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، ما معنى هذه الآية؟ الإنسان كما يقول عنه فلاسفة علم الاجتماع خُلق وهو يملك غريزة الاستخدام. الإنسان مستخدِمٌ لغيره كما هو مستخدَمٌ من قبل غيره. وُلد الإنسان وهو يملك غريزة حب الحياة، وغريزة حب الحياة تدفعه إلى أن يوفر لنفسه الطعام والشراب، والمسكن والملبس والمأوى. ولا يمكنه أن يوفر لنفسه الطعام والشراب، والمسكن والملبس والمأوى إلا باستخدام الآخرين.

إذن خُلق الإنسان وهو يمتلك غريزة الإستخدام؛ لأنه خُلق وهو يمتلك غريزة حب الحياة، وغريزة حب الحياة تدعوه لاستخدام الآخرين؛ لتوفير متع الحياة ولذائذ الحياة، فهو قد خُلق وهو يمتلك غريزة الاستخدام. وغريزة الاستخدام هي التي تدعو الإنسان إلى الظلم؛ لأنه يفكر فقط في نفسه، المهم أن أنام، والمهم أن آكل، المهم أن يشبع بطني وجيبي، وأنام على وسادةٍ ناعمةٍ مريحةٍ. عندما يمتلك الإنسان غريزة الاستخدام، فإن غريزة الاستخدام تدعوه إلى ظلم الآخرين، وإلى أن يبخس الآخر حقه، وإلى أن يطلب من الآخر فوق طاقته، وإلى أن يصيّر الآخر إلى خدمته من دون مقابلٍ. فغريزة حب الحياة دعت إلى غريزة الاستخدام، وغريزة الاستخدام دعت إلى الظلم، لذلك فالإنسان ظالم بفطرته، أي لأنه يمتلك غريزة الاستخدام الداعية إلى الظلم بفطرته، ومن هنا قالت الآيات: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ.

لماذا خلق الله هاتين القوتين بالفعل؟ خلق له هدايةً بالفعل، وخلق له غريزة الاستخدام التي تدعوه إلى الظلم بالفعل. فقد خلق لديه قوتين متنافرتين ومتواجهتين؛ لكي يصل إلى كماله عن جدارةٍ واستحقاق. إنما خَلق الإنسان بغريزة الظلم، وخلقه بغريزة الهداية؛ لكي يصل إلى كماله عن جدارة وعن صمود، وعن إحكام إرادة وفاعلية إرادة، كما ورد عن الإمام أمير المؤمين : ”إن الله خلق البهائم شهوةً بلا عقل، وخلق الملائكة عقلًا بلا شهوة، وركّب في الإنسان عقلًا وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو أدنى من البهائم“. إذن بما أن الإنسان يمتلك قوتين فطريتين متنافرتين يعيش من خلالهما الصراع المرير؛ من أجل أن يصل إلى كماله عن قوة إرادة، وعن استحقاقٍ واضح؛ لأجل ذلك قلنا بأنه مهتدٍ بالفطرة، وأنه ظالمٌ بالفطرة. فهو من جهة ظلومٌ كفارٌ بطبيعته، ومن جهة أخرى فهو مهتد مسترشد بطبيعته كما ذكرت الآيات القرآنية الأخرى.