مظاهر الرحمة المحمدية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين

صدق الله العلي العظيم

انطلاقا يتم حديثنا من الآية المباركة في ثلاثة محاور:

  • معنى الرحمة في الآية المباركة.
  • الصراط التكاملي للرحمة.
  • مظاهر الرحمة في شخصية الرسول الأعظم .
المحور الأول: معنى الرحمة في الآية المباركة.

ما هو المقصود بالرحمة؟ قسّم علماء الكلام صفات الله عز وجل إلى صفات ذاتية وصفات فعلية:

الصفات الذاتية: ما لا تنفك عن ذاته ولا يصح سلبها عنه، كالعالمية التي لا يمكن سلبها عن الله عز وجل بلحاظ أي جهة وأي قيد.

الصفات الفعلية: يصح سلبها عنه بلحاظ زمن أو جهة، فلا يمكن أن يقال أن الله ليس بعالم ولكن يمكن أن يقال ليس بخالق للشر بل خالق للخير، فالخالقية من صفات الفعل يمكن سلبها عن الله بلحاظ جهة، فالعالمية من صفات الذات والخالقية من صفات الفعل وكلا الصفتين منطويتان تحت قوله عز وجل: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فالحي صفة ذاتية، والقيوم صفة فعلية.

الحي تعني الصفات الذاتية، الذي يتصف بالحياة المطلقة والحياة الحقيقية فلا بد أن يكون عالما قادرا، فالحياة بدون علم وقدرة ليست حياة مطلقة، فالحي تعني: العالم القادر، فهي تتضمن الصفات الذاتية التي لا يمكن سلبها عنه، ولا يمكن أن يقال غير عالم أو غير قادر، بل هو حي مطلقا وعالم مطلقا وقادر مطلقا.

القيوم تعني الصفات الفعلية، كيف؟ لأن القيومية هي عبارة عن الإحاطة بالوجود وتدبير أموره، الله قيوم أي محيط بالوجود، مدبر لأموره، فالقيومية تتضمن كل أفعاله مثل: الخلق، الرزق، الإحياء، الإماتة، الهداية، الرحمة. إذن، هذه العبارة الختصرة: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ تضمن الصفات الذاتية والفعلية، ومن أبرز الصفات الفعلية - بل هي الأبرز -: الرحمة، وهي إفاضة الحياة، ولذلك القرآن الكريم يعبر عنها بأنها وجه الله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وجه الله يعني لطلب رحمته، وجه الإنسان هو أبرز صفاته، إذا أبرز صفاتك الكرم، فهو وجوهك، إذا أبرز صفاتك الحلم، فهو وجهك، أبرز صفات الله الفعلية التي قابل بها عباده هي الرحمة.

أقسام الرحمة الإلهية:

القسم الأول: رحمة رحمانية: تشمل الوجود كله من أصغر ذرة لأعظم مجرة، ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ

القسم الثاني: رحمة رحيمية: خاصة بالمؤمنين، ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ.

وقد عبر عنهما في القرآن ب: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، فالرحمن تعني الرحمة العامة، والرحيم تعني الرحمة الخاصة، فما هو أول تجلي من تجليات الرحمة الإلهية؟

الجواب: كما تحدث عن نفسه عز وجل، فقال: ”كنت كنزا مخفيا - يعني أعلم بذاتي - فأحببت أن أُعرف - يعني أتجلى لغيري، كيف؟ - فخلقت الخلق لكي أُعرف“، فأول تجلي من تجلياته، وأول مظهر تجلى به الله «عز وجل» فكان ذلك التجلي وجها له ومظهرا له هو: نور محمد . إذن، قبل أن يُخلق هذا الوجود كله بتفاصيله وأجزائه، كان هو أول رحمة أفاضها وتجلى بها، فكانت نبعا للحياة والعطاء، نور النبي محمد هو الحقيقة المحمدية والعقل الأول والتجلي الأول، كل هذه المعاني يُقصد بها شيء واحد وهو: نور النبي ، فهو أول عقل خلقه الله، وأول تجلي له، وأول مظهر له تضمن رحمتيه الرحمانية والرحيمية، كلتا الرحمتين تجليتا في وجه النبي محمد .

ومن أجل فهم عمومية رحمته وشموليتها، لا بد من فهم المفردة الثانية من الآية وهي العالمين لنفهم مدى مساحة وشمولية رحمته . مفردة العالمين إذا أطلقت في القرآن الكريم فهي تشمل كل العوالم من جن، وإنس، وملائكة، وأهل النار، وأهل الجنة، كل العوالم: عالم الجبروت - أي عالم العقول -، عالم الملكوت - أي عالم الأرواح -، عالم الناسوت - أي عالم المادة -، ما يرى ومالا يرى، غيبه وشهادته، كلها تدخل تحت كلمة العالمين، يقول «تبارك وتعالى»: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فربوبيته تمتد لكل العالمين، عاقل أو غير عاقل، حي أو جماد، أنس أو جن أو ملك، هو رب العالمين جميعًا.

كلمة العوالم إذا أُطلقت فإنها تشمل العوالم كلها بلا استثناء، إلا أن تقوم قرينة على اختصاص لفظ العالمين بالمجتمع البشري في زمن معين، مثلًا في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، هنا كلمة العالمين ترجع إلى المجتمع البشري في ذلك الزمن فقط لا جميع العوالم، لأن القرينة قامت على ذلك، وهي قوله تعالى لأمة محمد : ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فالجمع بين الآيتين يقتضي تفسير كلمة العالمين بالمجتمعات البشرية في تلك الفترة الزمنية.

وكذلك قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، اصطفاك أولًا بمعنى اختارك، وطهّرك بمعنى العصمة - مريم كانت امرأة معصومة -، واصطفاك ثانيًا بمعنى فضلك، هل المراد بالعالمين كل البشر في كل زمن وفي كل مكان؟ لا، وذلك لوجود الحديث النبوي الصحيح، السنة النبوية مقيدة للقرآن الكريم، حاكمة عليه، مثلًا: قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، يعني حرّم الربا مطلقًا، لكن جاءت الرواية الصحيحة: ”لا ربا بين الوالد وولده“، هذه الرواية مقيدة لإطلاقة الآية، هنا أيضًا لدينا آية: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، ولكن جاءتنا رواية صحيحة مقيدة وهي قوله لابنته فاطمة الزهراء: ”أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين“، فتفضيل مريم صار تفضيل مقيد وليس مطلق، وأما إذا أطلقت كلمة العالمين من دون قرينة، فإنها تُحمل على جميع العوالم من دون استثناء، من هنا نفهم معنى رحمة النبي : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين، كل ما في الوجود منذ أول الخلق حتى آخره محتاج لرحمة محمد .

فهو رحمة تكوينية ورحمة تشريعية ورحمة تربوية. أما كونه رحمة تكوينية، فلأن الوجود كله أُفيض من نوره، فأول ما خلق نوره ثم خلق كل الوجود منه.

كل نور في ساحة الكون بادي
أحمد  المصطفىى من الله قدمًا
  فهو من فضل نور خير iiالعباد
قبل    خلق   الآزال   iiوالآبادل

أول نور هو، وآخر صفحة هو، ”بكم فتح الله وبكم يختم، وبكم ينزّل الغيث، وبكم يمسك السماء تقع على الأرض إلا بإذنه“، كل شيء بكم لأنكم أول نور أُفيض. أما الرحمة التشريعية، فهي بمعنى أن الرسالة التي أتى بها النبي نفسها رحمة، رسالة النبي رحمة، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ، فرسالته وكتابه الذي أنزل إليه أيضًا رحمة للمسلمين. وأما الرحمة التربوية فقد كانت ذاته قطعة من الرحمة، فقد كان وجوده قطعة من الرحمة تتمثل وتتجسد على الأرض، كانت ذاته قطعة من الرحمة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ.

المحور الثاني: الصراط التكاملي للرحمة المحمدية.

هل أن الرحمة المحمدية خاضعة للتكامل أم لا؟ هل أن الله «تبارك وتعالى» خلق الرحمة المحمدية بدرجة لا تزيد ولا تنقص - منذ أول الأمر - أم أن الرحمة المحمدية في صراط الترقي والتكامل من مقام إلى مقام؟

نتعرض لآيتين من القرآن: قد يتساءل إنسان، فيقول: نرى تعارض وتهافت بين آيات القرآن التي تتحدث عن النبي ، فمن جهة عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ، نستفيد أن الرسول كان يعلم بالقران من قبل نزوله، لهذا قال: لاتعجل، معناها أن الرسول كان يعلم بالقرآن قبل نزوله، وقال في آية أخرى واصفًا هذا المعنى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، فهذه الآيات تدل على معرفة النبي بالقرآن مسبقًا، بينما تأني آيات أخرى تدل على غير ذلك، مثلًا قوله عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا - يعني إلهام - ﴿أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ - يعني يخلق الصوت فيسمعه، مثلما خلق الصوت في الشجرة فسعمه النبي موسى - ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، ثم قال: ﴿كَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.

فكيف نوفق بين هاتين الآيتين وكيف نجمع بينهما؟ فهذه الآية تقول: قبل أن يُنزل الكتاب، ما كنت تدري، وتلك تقول: كان يعلم بالقرآن، فكيف نجمع بين الآيتين؟ كيف نجمع بين هذه الآية التي تقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين، والتي تقول: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وبين الآية التي تقول: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا؟ وقال في آية أخرى: ﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ؟ ما معنى تثبيت فؤاده وهو يعلم بالقرآن قبل نزوله؟

هذه الآيات تحتاج إلى تحليل، هنا وجهان في بيان الجمع بين هذه الآيات المباركات:

الوجه الأول: الفرق بين العلم العقلي والعلم الحسي.

مثالًا أنت تسمع بوجود شخصية مرجعية معروفة مثل السيد السيستاني، لكنك لم تره، أنت علمت به من خلال وصفه والحديث عنه، فهذا يسمى علم عقلي، فإذا رأيته تحول العلم إلى علم حسي، كان علمك به عقليًا، واصبح حسيًا، أنت قبل أن تحصل على العلم الحسي، أستطيع القول بأنك لا تعلم السيد السيستاني، بمعى أنك لا تعلم به علمًا حسيًا، العلم العقلي موجود مثبت، والمنفي هو العلم الحسي.

إذا طبقناه هذا على الآية: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، هو يعلم المنافقين ويعرفهم، لكنه لم يعلمهم علمًا حسيًا، يعني لم يرهم بحسه وببصره وهم يحيكون له المؤامرات والمكائد، لا تعلمهم تعني حسًا، وعن كنت تعلمهم عقلًا. نفس الكلام في الآية: ﴿كَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، الروح هو جبرائيل، قبل نزول جبرئيل هل كنت تعلم به علمًا حسيًا؟ لا، هو يعلم به عقلًا، لكن العلم الحسي بمعنى أنه تقابل معه ورآه بوجهه وسمع منه هذا الوحي لم يحصل، ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ، أي ما كنت تدري دراية حسية، تسمعها من جبرائيل، بل كنت تدري بالكتاب دراية عقلية، فليس المنفي أصل الدراية، بل المنفي هو الدراية الحسية.

الوجه الثاني: الدراية لها إطار تكاملي تترقى من مقام إلى مقام.

هل الرسول كان يترقى من مقام إلى مقام؟

العلوم ثلاثة: العلم بالتشريع، والعلم بالكون، والعلم بالله، علمه النبي بالتشريع لا يترقى، رزق العلم بالتشريع كله جملة واحدة، هو عالم بالتشريع بتمام تفاصيله، علمه بالكون أيضًا لا يترقى ولا يتكامل، رزق ذلك دفعة واحدة. أما علمه بالله، ومعرفته بالله تنتقل من نور إلى نور، ومن مقام إلى مقام، ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ، يعطيك مقامًا فوق المقام الذي عندك، فالمقامات الروحية التي تعني علم النبي بربه وعلقته بربه كانت في إطار التكامل، فالنبي في كل لحظة هو أعلم الناس بربه، لا يجاريه أحد لا وصي ولا إمام، ولكنه في كل لحظة ينتقل من مقام إلى مقام، فمعرفة الله لا تنتهي بحد، فهو ينتقل من مقام إلى مقام في معرفته بالله تبارك وتعالى، فعندما يقال: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، يعني هذا المقام الذي وصلت إليه بعد نزول الوحي عليك لم يكن موجودًا عندك قبل ذلك، وإن كنت قبل ذلك نبيًا، كان نبيًا منذ بداية الخلق حيث يقول : ”كنت نبيا وآدم بين الماء والطين“، بل هو النور الذي خلق منه آدم وغير آدم، إذن كنت في مقام قبل نزول الوحي وترقيت إلى مقام آخر بنزول الوحي.

بهذا التفسير نأتي للآية الثانية: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، لماذا لا ينزل القرىن دفعة واحدة؟ لماذا لا ينزل بالتدريج؟ كما قال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا، لماذا القرآن ينزل بالتدريج؟ ﴿وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ، يعني هل كان النبي قلقًا أو خائفًا؟ ما معنى لنثبت به فؤادك؟

تثبيت الفؤاد هو عبارة عن الانتقال من مقام روحي إلى مقام روحي آخر، مثل درجات اليقين، علماء الفلسفة يقولون: علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وهذه الدرجات ليست من مخترعات الفلاسفة، كلها موجودة في القرآن: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، لو امتلكت هعلم اليقين لرأيت الجحيم أمام عينك في الدنيا، تنكشف لك الجحيم أمام عينك، تنكشف لك عالم الآخرة بجنته وناره.

﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ هذه الدرجة الثانية، هذه الدرجة أكبر، واحد يرى النار من بعد، هذا نسميه علم اليقين، وواحد تصل له حرارة النار، هذا نسميه عين اليقين، وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، هذه الدرجة الثالثة وهي حق اليقين، هي أعلى درجات المقامات الروحية، فالنبي يترقّى من مقام يقيني إلى مقام يقيني آخر وهذا معنى لنثبت به فؤادك، فهو في كل لحظة أعظم الناس يقينًا، وأشدهم ثباتًا. إذن، صراط الرحمة المحمدية هو صراط تكاملي، صراط يعيش الترقي من مقام إلى مقام آخر.

المحور الثالث: ما هي مظاهر الرحمة في شخصية النبي ؟

النبي كان قطعة من الرحمة، نتحدث عن ثلاث مظاهر:

المظهر الأول: الوجود الجمعي.

أنت لك وجودك الخاص بك، هل تقدر على استيعاب وجود غيرك فتكون وجودًا لنفسك ولغيرك، فتشعر بمشاعرغيرك؟ فتشعر بمشاعر غيرك، تشعر بمشاعر الآخرين، تفكر بما يفكر الناس، تهتم بما يهتم الناس، هل يمكنك أن تصنع لنفسك وجودًا جمعيًا تجمع وجود الآخرين إلى وجودك، فتشعر بمشاعرهم، وتفرح فرحهم، وتتألم لألمهم؟ كلنا نعيش وجودًا فرديًا، أما الأم - بالنسبة إلى طفلها - أعطيت درجة من درجات الوجود الجمعي، هذه الأم اتي يخرج جنينها من أحشائها، تصير علقة بينها وبين هذا الطفل - علقة جمعية -، بمعنى أن هذه الأم أقرب إنسان إحساسًا بهذا الطفل، تشعر بألمه، تشعر ببهجته، تشعر بغضبه، تشعر برضاه، وربما تحزن له أكثر من حزنه بنفسه، تتألم له أكثر من ألمه لنفسه.

علقة النبي محمد بالمؤمنين أعظم من علقة الأم لطفلها، فهو قلب المؤمنين وضميرهم، يتألم للمؤمنين أكثر مما يتألمون لأنفسهمن ويشعر بآلامهم وأحزانهم أكثر مما يشعرون لأنفسهم، فالنبي يحمل وجودًا جمعيًا، فوجوده يستوعب وجود المؤمنين كلهم، فيشعر بهم، ويفرح ويحزن لأجلهم أكثر من أنفسهم، تقول الآية المباركة: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ، ويقول تبارك وتعالى في آية أخرى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ، فبينه وبين المؤمنين علقة جمعية، هذا الوجود العظيم الذي تمثل في النبي - رحمته بالمؤمنين - أشد وأعظم من الأم بطفلها، أشد وأعظم من رحمة الإنسان بنفسه، فهذا الوجود الجمعي الذي تعبر عنه الزيارة الجامعة: ”أرواحكم في الأرواح وأنفسكم في النفوس وآثاركم في الآثار“.

هذا الوجود الجمعي عبر عنه النبي في الطائف لما ذهب يدعوهم للإيمان، خرج صبيانهم وسفهائهم يرمونه بالحجارة، يرمون عليه الأشواك حتى دميت رجلاه، فأقبل واستند إلى حائط - يعني جدار بستان - لم يولول، ولم يبكِ، ولم يشتكِ، ولم يتحسر، ولم يتأفف، لأنه يعيش نفوسهم وآلامهم وهمومهم، بل رفع يديه إلى ربه وهو مبتسم راضي، وقال: اللهم اهد قومي، إنهم لا يعلمون، إلهي لك العتبى حتى ترضى"، خذ مني كل شيء، أهم شيء هو رضاك، فهذا هو الوجود الجمعي.

المظهر الثاني: الانشراح.

يقول تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، ويقول في آية أخرى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ، معنى الانشراح أنه كان يفيض حبًا بالمحبة، دائمًا لغته لغة الحب والمودة والبهجة، فالنبي ما كان يقوم بأعماله بدافع وظيفي، بل بدافع وجداني، فموظف الشركة يقوم بالعمل بدافع الوظيفة، والصلاة تصليها بدافع الوظيفة، أما النبي يقول: لا، فهو يقيم ويقضي حوائج الناس لا بدافع الوظيفة، بل بدافع وجداني وبدافع المحبة، فلا يشعر بجهد ولا بتعب ولا بحزازة، يقوم بكل العلاقات مع الناس، وقضاء حوائجهم وإدارتهم وتربيتهم وهو يفيض محبة، وهو يعيش الانشراح والانبساط والبهجة، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، وقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ.

المظهر الثالث: التواضع والبساطة.

فلم يكن متكلفًا بأموره أبدًا، الإمام علي يتحدث فيقول: ”كان رسول الله خفيف المؤونة، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بسّامًا من غير ضحك، محزونًا من غير عبوس، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب، رحيمًا بكل مسلم“، فلو أردت الوصول له فإنك تصل له بأسرع وقت، وتجلس معه تشعر كأنه صديقك ومحبك، وجهه يشرق بهجة ونورًا بسامًا من غير ضحك محزون في علاقته بالله من دون عبوس جوادا من غير سرف رقيق القلب رحيم بكل مسلم و، الإمام علي يتحدث عنه فيقول: ”كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب شاته ويجلس على الأرض ويأكل مع العبيد وكان التواضع زينته والزهد خلقه وكان يربط الحزام على بطنه“، وكان إذا جلس مع أصحابه، جلس كجلسة أحدهم، لايتميز عليه. خرج يومًا مع أصحابه في سفر، فاحتاجوا إلى طعام، فذبح أحدهم الشاة، وسلقها الثاني، وقام الرسول بجمع الحطب، قالوا: إنا نكفيك يا رسول الله، قال: ”علمت أنكم تكفونني، ولكني أكره أن أتميز عليكم“.

كما عمّت رحمته على المسلمين كذلك زادها غدقًا على أهل بيته، حيث يقول: ”خيركم خيركم لأهله“، طالما كان يقبل الحسنين ويحتضنهما إلى صدره ويرفعهما على كتفيه، ويقول: ”اللهم هذان ولداي وريحانتي، إني أحبهما، فأحب من يحبهما“، وكان يقول: ”فاطمة بضعة، مني يؤذيني ما يؤذيها، يؤلمني ما يؤلمها، يرضى الله لرضاها، يغضب لغضبها“، إذا رآها يقوم على قدميه، ويقبل ما بين عينها ويجلس بين يديها ويقول لها: فداك أبوي وأمي، أنت أم أبيها.