الدرس 89

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تقدم: أنّ صاحب الكفاية «قده» استدل بصحيحة بن سنان على جواز المخالفة القطعية في أطراف العلم الإجمالي، وذلك بأحد وجهين:

الوجه الأول: دعوى حكومتها على أدلة الأحكام الواقعية. وقد سبق النقاش فيه.

الوجه الثاني: دعوى المعارضة. حيث إنَّ النسبة بين أدلة الأحكام الواقعية وبين صحيحة بن سنان عموم من وجه، لأنّ دليل الحكم الواقعي كقوله: «اجتنب النجس أو الميتة» لا يشمل الشبهة غير المحصورة ولا البدوية، وذلك لمركوزية جواز ارتكابهما لدى العقلاء؛ فبما أنّ ارتكاز العقلاء جار على عدم التوقف في الشبهة في البدوية وفي غير المحصورة، فدليل الحكم الواقعي، وهو قوله: «اجتنب النجس» بمقتضى احتفافه بهذا المرتكز منصرف عن الشبهة البدوية وغير المحصورة، وصحيحة بن سنان «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» شاملة للشبهة المحصورة وغير المحصورة، ولكنّها لا تشمل فرض العلم التفصيلي، لأنّ المنظور فيها صدر الرواية لا ذيلها باعتبار أن الذيل رافع لمضمونها، فإذا كان المنظور صدر الرواية وهو ناظر للعلم الاجمالي فهي لا تشمل العلم التفصيلي بينما دليل الحكم الواقعي القدر المتيقن منه فرض العلم التفصيلي فكانت النسبة بينهما عموما من وجه فمع فرض التعارض المرجع البراءة، وقد قلنا بأنّ الرجوع للبراءة العقلية فرع احراز عدم البيان ولا يحرز ذلك مع العلم الإجمالي بالتكليف. ثم وصلت النوبة إلى أنّه مع إطلاق صحيحة بن سنان للشبهة المحصورة الداخلة اطرافها في محل الابتلاء، فمقتضى ذلك: جواز ارتكاب المخالفة القطعية، وذكرنا أنّ هناك جوابين: الأول للسيد الشهيد.

الجواب الثاني ما ذكره السيد الإمام في «المكاسب المحرمة»: محصله:

أنّ هذه الصحيحة منصرفة إلى الشبهة البدوية لا إلى المقرونة بالعلم الاجمالي، وذلك لقرينتين:

القرينة الأولى: اعراض الأصحاب عنها حيث لم يفت أحد بجواز المخالفة القطعية للعلم الاجمالي إلّا قليل من المتأخرين، فبما أنّ الأصحاب اعرضوا عن العمل بها فإعراضهم كاشف عن انصرافها لديهم عن مورد الشبهة المحصورة.

القرينة الثانية: أنّه لو أخذنا بمدلولها لجاز للمكلف أن يوقع نفسه عمداً في المخالفة القطعية بخلط أطراف العلم الاجمالي، كما لو علم تفصيلاً بوجود لحم ميتة فقام وخلطه بلحم آخر فشمله صحيح بن سنان «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال»، وهذا مما لا يلتزم به أحد، فهو منبه على أنّ الصحيحة منصرفة إلى الشبهة البدوية، فلأجل ذلك: يكون مفاد صحيحة بن سنان يعني كل طبيعة فيها قسم حلال وقسم حرام، كاللحم طبيعة فيه نوع حلال ونوع حرام فهذه الطبيعة في أي فرد منها وضعت يدك عليه فهو حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه.

ويلاحظ على ما أُفيد:

أمّا بالنسبة إلى القرينة الأولى: وهي دعوى إعراض الأصحاب عنها فهذا الاعراض إنّما يكون موهنا لحجيتها أو كاشفاً عن عدم ظهورها من الأساس في الشمول للشبهة المحصورة إذا احرز ذلك، وأنّ الأصحاب اعرضوا عنها لمانع فيها، وأمّا لو كان يحتمل أنّ عدم العمل بها لأجل بنائهم على منجزية العلم الإجمالي، فليس اعراضا عنها لوجود مانع فيها كي يكون موهنا لحجيتها أو كاشفا عن ضيق ظهورها.

وأمّا القرينة الثانية: لو أخذنا بمدلولها لجاز لنا التحايل لارتكاب المخالفة القطعية بخلط الأطراف. يلاحظ عليه: أنّ الرواية منصرفة إلى الخلط العمدي كما ذكره الأعلام كسيّدنا في مسألة النجاسة فقالوا لو وقعت قطرة دم في كر واستهلكت تلك القطرة في ذلك الكر بحيث لا ترى في الإشارة الحسية جاز شرب الكر كلّه وإن كان في ضمنه تلك القطرة، وأمّا لو أراد أحد ان يتحايل لشرب الخمر فيضع قطرة في كر فيشربه بالتدريج، والخمر مستهلك فيه فإن النصوص منصرفة عن فرض العمد فما دلَّ على عصمة الكر منصرف عن فرض العمد بخلط النجاسة به وأنّه لو وقعت فيه النجاسة قهرا أو بالطبع وكانت مستهلكة فيه فإنّها ليست مضرة بعصمته لا أنّ دليل اعتصام الكر ذو إطلاق حتّى لخلطه بالنجاسة عمداً. وكذلك الامر في محل الكلام.

وأمّا ما أفاده: من ان الرواية مفادها: أن كل طبيعة فيها قسم حلال وحرام، فأي فرد تضع يدك عليه فهو حلال، هذا التحليل خلاف الظاهر، فإنّ ظاهرها الانقسام الفعلي، كل شيء فيه حلال وحرام بالفعل، لا أن من أقسامه الحلال والحرام. على أنّ لازم تفسيره الاستخدام، أي: رجوع الضمير على معنى غير ما ذكره في الكلام، حيث إنَّ المراد بقوله «كل شيء»: أي: الطبيعة. بينما المراد بقوله: «فهو لك حلال»: الفرد الخارجي من اللحم. فكأنه قال: طبيعي اللحم الذي ينقسم إلى حلال وحرام لو وضعت يدك على فرد من أفراده فذلك الفرد حلال، فكلمة «فهو» لم تعد على الطبعي، وإنّما عاد على الفرد وهذا الاستخدام خلاف الظاهر.

بينما على تفسير المحقق النائيني والذي ذكره الشيخ الاعظم لا استخدام. أما على كلام النائيني: فلأنه يقول: كل شيء تضع يدك عليه فانه يحتمل حليته وحرمته، ولأجل ذلك: فهو لك حلال حتّى تعلم الحرام.

أمّا على تفسير الشيخ الأعظم من أنّه إذا وجد شيء في الخارج فيه حرام بالفعل وإن كان مجهولاً كما إذا علمنا على نحو الشبهة المحصورة أنّ الجبن الموجود في هذا الدّكان فيه حرام وحلال، فهذا الجبن الموجود في الدكان الملحوظ على نحو الكل فيه حلال وحرام، فهذا الجبن وليس فرداً منه أو بعضاً منه فهذا الجبن الذي فيه حلال وحرام هو حلال بالفعل حتّى تعرف الحرام منه أي هذا الجبن الملحوظ على نحو الكل. وبالتالي: فإشكال المحقق النائيني بأنّ التفسير الذي طرحه الشيخ يستلزم الاستخدام غير صحيح فإنّه لا يوجد أي استخدام، فإن مرجع الضمير ما ذكر في الكلام وليس شيئاً آخر، وبالتالي فالصحيح: دلالة هذه الرواية على جواز المخالفة القطعية في أطراف العلم الاجمالي سواء كانت الشبهة محصورة أو غير محصورة خارجة عن محل الابتلاء أو داخلة فاذا قلنا بما قاله السيد الشهيد من احتفاف هذه الصحيحة بمرتكز عقلائي قائم على انه لا يضحى بغرض الزامي لأجل ترخيصي أو على الاقل كان احتمال الإرتكاز احتمالا عقلائيا معتداً به فلا يحرز اطلاق الرواية للشبهة المحصورة الداخلة في محل الابتلاء، فلا تتنافى مع حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي أو جريان الاصول.

الأمر الأخير: في هذه الرواية، ذكر السيد الشهيد: أنّ هذه الرواية لا يمكن أن يستفاد منها الترخيص المشروط، أي أنّ كل جزء من هذا الجبن حلال إن تركت غيره، لأنّ ظاهرها الحلية التعينية لا المشروطة، فهو يقول «كل شيء» أي الجبن فيه حلال وحرام، فهو أي هذا الكل حلال لك أبداً، فكيف يستفاد منه أنّ كل جزء من أجزائه حلال إن تركت غيره، فهذا يحتاج إلى مؤونة، وهذا الوجه متين.

فتحصل: أنّ ما أفاده السيد الشهيد من إنصراف جميع روايات الأصول العلمية الترخيصية عن الشمول لجميع أطراف العلم الإجمالي بحيث لا يبقى مجال لاستفادة الترخيصي المشروط تام في قسم منها لا في بقية الاقسام.

الوجه الاخير: في الجواب عن شبهة الترخيص المشروط: ما أشار إليه الشيخ الاعظم في «الرسائل»: أنّه يوجد أمام هذه الأصول الترخيصية روايات تدل على لزوم الموافقة القطعية للعلم الاجمالي فلو فرضنا أنّ أدلة الأصول العلمية كدليل أصالة الحل والبراءة المقتضي فيها تام وهو أنّها تفيد الترخيص المشروط في أطراف العلم الإجمالي، مع ذلك توجد روايات واضحة الدلالة على لزوم الموافقة القطعية لأطراف العلم الاجمالي وعدم الترخيص فيها ولو كان مشروطاً وهذه الروايات منها موثقة سماعة.

والحمدُ لله ربِّ العالمين