الدرس 90

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

وصل البحث إلى الاستدلال بمجموعة روايات: على وجوب الموافقة القطعية فضلاً عن حرمة المخالفة القطعية، وأولى تلك الروايات موثقة سماعة، وموثقة عمار: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ جَرَّةٍ وُجِدَ فِيهَا خُنْفَسَاءُ قَدْ مَاتَتْ قَالَ أَلْقِهَا وتَوَضَّأْ مِنْهُ وإِنْ كَانَ عَقْرَباً فَأَرِقِ الْمَاءَ وتَوَضَّأْ مِنْ مَاءٍ غَيْرِهِ وعَنْ رَجُلٍ مَعَهُ إِنَاءَانِ فِيهِمَا مَاءٌ وَقَعَ فِي أَحَدِهِمَا قَذَرٌ ولَا يَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى مَاءٍ غَيْرِهِ قَالَ يُهَرِيقُهُمَا جَمِيعاً ويَتَيَمَّمُ».

ووجه الاستدلال بهذه الرواية على منجزية العلم الإجمالي لجوب الموافقة القطعية بأحد طريقين: 1 - الأمر بالاهراق. 2 - الأمر بالتيمم.

الطريق الأول: وهو الأمر بالاهراق. حيث قال: «يهريقهما جميعاً». فقد وقع البحث: في أنّ الأمر بالاهراق استطراقي أو استقلالي؟!، وعلى فرض كونه استقلالي فهل هو أمر مولوي أو إرشادي؟!، وعلى فرض كونه مولويا فهل مفاده الوجوب النفسي أو الغيري؟!.

فهنا عدة محتملات في الأمر بالاهراق:

المحتمل الأول: أنّ الأمر الاهراق استطراقي وليس استقلاليا، أي كأنّ المطلوب والمراد الجدي الذي يرد الإمام بيانه هو الأمر بالتيمم ليس إلّا، وإنّما ذكر الأمر بالاهراق استطراقا فكأنّه من الأول يقول «من ليس له ماء غيرهما فوظيفته التيمم»، فالأمر بالاهراق مجرد استطراق لبيان ما هي الوظيفة في حقه وهي التيمم في مفرض المسألة؛ وبناء على ذلك: فلا يتم الاستدلال بالأمر الأمر بالاهراق، على منجزية العلم الاجمالي، لأنّه مجرد أمر استطراقي ليس إلّا.

ولكن، هذا خلاف ظاهر الرواية في أنّها في مقام بيان مطلبين: أحدهما الأمر بإهراق المائين؛ والثاني الأمر بالتيمم، لا أنّ الأول ليس مطلباً ولا مراداً للإمام.

المحتمل الثاني: أنّ الأمر بالاهراق استقلالي وحينئذٍ وقع البحث في انه امر مولوي أو ارشادي. فإذا قلنا أنه مولوي: فهنا احتمالان:

المحتمل الأول: أنّه أمر نفسي؛ وقد نقل عن صاحب مفتاح الكرامة انه ذهب لهذا الاحتمال وهو ان الشارع يبغض استعمال الإنائين المشتبهين مبغوضية نفسيه مع غمض النظر عن منجزية العلم الاجمالي.

ولكن هذا الاحتمال غير عرفي، فإنّ دعوى حرمة استعمال الإنائين حرمة نفسية مع غمض النظر عن منجزية العلم الاجمالي امر بعيد جدا عرفا بل مقتضى مناسبة الحكم للموضوع ظهور الأمر بالاهراق في ارتباطه بمنجزية العلم الاجمالي.

المحتمل الثاني: أنّه أمر مولوي ولكنه غيري بيانه لما كان وجوب التيمم منوطا بفقد الماء إذ مع وجود الماء لا تصل النوبة للتيمم فأمر الإمام باهراقهما مقدمة للتيمم أي من أجل تحصيل موضوع وجوب التيمم وهو فقدان الماء، فلذلك يكون الأمر باهراهما امرا غيريا فهو مولوي غيري.

ولكن هذا المحتمل منفي:

أولاً: بأنّه أما التيمم واجب قبل اهراقهما أو لا، فإن كان التيمم واجبا قبل اهراقهما فلا حاجة إلى الأمر بالاهراق، وإن لم يكن واجبا فلم يجب ذو المقدمة حتّى تجب المقدمة، فليس الأمر بالاهراق أمراً غيريا مقدميا مع عدم وجوب التيمم.

وثانيا: يكفي في الانتقال إلى التيمم المنع العقلي، فإنّ موضوع التيمم ليس فقد الماء، وإنّما عدم القدرة على استعمال الماء ولو لأجل عدم القدرة على استعماله عقلاً، فاذا كان مأمور عقلاً بترك الماء لكونه مغصوبا أو لكونه حفظا لنفس محترمة فلا محالة يتعين عليه التيمم، فمقتضى حكم العقل بمنجزية العلم الاجمالي المنع العقلي من استعمال الماء والمنع العقلي كاف في صدق عدم القدرة على استعمال الماء واللجوء إلى التيمم.

المحتمل الثالث: أنّ الأمر مجرد إرشادي ليس إلّا، أي أنّ قوله «يهريقهما» كناية عن عدم جواز الانتفاع بهما في أي شيء أكلا أو شربا، أو فيما يتوقف على الطهارة كالصلاة، فإذا استظهرنا ذلك - كما هو ليس ببعيد - كان ذلك ارشادا إلى منجزية العلم الإجمالي، فالاستدلال بهذه الفقرة على منجزية العلم الاجمالي مبني على أنّ الأمر استقلالي وليس استطراقي وانه ارشادي لا مولوي، فهو ارشاد وكناية لعدم جواز استعمال المائين مطلقا. ولذلك نظائر في الروايات كما في معتبرة زكريا بن ادم: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ آدَمَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ ع عَنْ قَطْرَةِ خَمْرٍ أو نَبِيذٍ مُسْكِرٍ قَطَرَتْ فِي قِدْرٍ فِيهَا لَحْمٌ كَثِيرٌ ومَرَقٌ كَثِيرٌ فَقَالَ ع يُهَرَاقُ الْمَرَقُ أو يُطْعِمُهُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أو الْكِلَابِ واللَّحْمَ فَاغْسِلْهُ وكُلْهُ قُلْتُ فإن قَطَرَ فِيهَا الدَّمُ فَقَالَ الدَّمُ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قُلْتُ فَخَمْرٌ أو نَبِيذٌ قَطَرَ فِي عَجِينٍ أو دَمٌ قَالَ فَقَالَ فَسَدَ قُلْتُ أَبِيعُهُ مِنَ الْيَهُودِ والنَّصَارَى وأُبَيِّنُ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ شُرْبَهُ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ والْفُقَّاعُ هُوَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ إذا قَطَرَ فِي شَيْ‌ءٍ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَكْرَهُ أَنْ آكُلَهُ إذا قَطَرَ فِي شَيْ‌ءٍ مِنْ طَعَامِي».

فإنّ الأمر بالإهراق كناية عن عدم جواز استعمال الماء لأنّه متنجس هذا تقريب الاستدلال بالرواية على عدم منجزية العلم الإجمالي من خلال الفقرة الاولى.

الطريق الثاني: الأمر بالتيمم، فلو فرضنا أنّ الرواية غير مشتملة على الفقرة الأولى أو أنّه مجرد أمر استطراقي فيصل النوبة إلى الاستدلال بالفقرة الثانية وهي الأمر بالتيمم، وتقريب الاستدلال مع أن المركوز في أذهان المتشرعة ان لا ينتقل إلى التيمم إلّا مع فقدان الطهارة المائية والمفروض هنا وجود الماء فمع ارتكازية الطولية بين التيمم والطهارة المائية جاء الأمر بالتيمم في المقام فمجيء الأمر بالتيمم محتفا بهذا الإرتكاز أن لا تيمم إلّا بعد فقد الطهارة المائية شاهد على ان الشارع اعتبر وجود المائين كالعدم وان رتبة الوصول إلى التيمم متحققة فالأمر بالتيمم بنفسه دالٌ بالدلالة الإلتزامية على منجزية العلم الإجمالي.

واعترض على هذا الاستدلال بعدة وجوه:

الوجه الأول: أنّ مقتضى القاعدة ليس هو تعين التيمم لأنّ الشك في المقام شك في الامتثال وليس في التكليف، إذ يعلم المكلف تفصيلا بوجوب الصلاة عن طهارة، فلا شك لدى المكلف بالتكليف وانما شك في الامتثال هل يتحقق امتثال الأمر بالصلاة عن طهارة باستخدام هذين المائين أم لا، ومقتضى الشك في الامتثال ان الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ومقتضى الفراغ اليقيني ان يجمع بين الصلاة بهما وبين التيمم لا ان الأمر بالتيمم متعين في حقه كي يكون ارشادا إلى منجزية العلم الاجمالي.

الوجه الثاني: بأن منجزية العلم الاجمالي لا تتنافى مع لزوم الطهارة المائية والمفروض ان المكلف قادر على الطهارة المائية وذلك بأن يتوضأ بأحدهما ويصلي ثم يطهر اعضائه بالماء الثاني ويتوضأ به ويصلي مرة اخرى فاذا فعل ذلك احرز وجدانا لا تعبدا انه صلى بطهارة مائية لأنّه ان كان الأول هو النجس فقد طهر اعضائه بالماء الثاني وتوضأ به وصلى وان كان الثاني هو النجس فقد وقعت الصلاة الأولى مع طهارة مائية فهو قادر على تحصيل الصلاة مع الطهارة المائية وجدانا فكيف يؤمر مع ذلك أمراً بالتيمم مع قدرته على تحصيل الصلاة عن طهارة مائية وجدانا، ولا منافاة بين منجزية العلم الاجمالي وبين الصلاة بهذين المائين لان معنى منجزية العلم الاجمالي ان لا يستخدم هذين المائين فيما يؤدي إلى مخالفة تكليف وهو لن يشربهما حتّى يلزم ذلك ولن يبقى مع النجاسة حتّى يلزم مخالفة تكليف فاستخدام المائين بهذا النحو لا ينافي منجزية العلم الإجمالي لأنّه بهذه الطريقة امتثل الأمر بالصلاة عن طهارة مائية لا انه خالف تكليفا منجزا في حقه ومنجزية العلم الاجمالي انما تمنع من ارتكابهما بنحو يؤدي إلى مخالفة تكليف فعلي في حقه.

المناقشة الثالثة: ما ذكره السيد الشهيد في بحوث في شرح العروة «ج2، ص266»: بأنّ الأمر بالتيمم ليس أمراً تعييناً فهو في مقام دفع توهم الالزام بلحاظ ان المكلف يتوهم الالزام بالوضوء نتيجة لوجود المائين ولو من جهة ان يتوضأ بأحدهما وليصلي وثم يتوضأ بالآخر ويصي فالإمام في مقام توهم الالزام قال يتمم فالأمر بالتيمم في مقام دفع توهم الإلزام وهو لا يستفاد منه اكثر من المشروعية والجواز لا انه امر تعييني كي يكون ارشادا إلى منجزية العلم الاجمالي.

والحمدُ لله ربِّ العالمين