الدرس 91

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

لازال الكلام في مدلول موثقة سماعة الواردة في الإنائين المشتبهين. ولا يبعد أنّ قوله: «ويتمم» لا يدل على الوجوب التعييني، أما لكونه وارداً في مقام دفع توهم الإلزام، أو لأنّ الشق الآخر وهو تحصيل الطهارة المائية بأن يتوضأ بأحدهما ويصلي ثم يطهر اعضائه بالآخر ويتوضأ به ويصلي تحتاج إلى مؤونة والتفات، فلكون تحصيل الطهارة المائية مما لا يمكن القاؤه عادة على العامة الذين لا يمتلكون هذا الالتفات إلى تحصيله أمر بالتيمم على نحو التخيير بينه وبين الطهارة المائية.

ولكن مع ذلك - أي سواء استفدنا من الرواية أنّ الأمر بالتيمم تعييني أو تخييري - فإنها تدل على كل حال على منجزية العلم الاجمالي، والوجه في ذلك: أنّه لولا منجزية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية لم يكن التيمم مشروعا أصلاً، إذ لو كان المكلف قادراً عقلاً بأن يقتحم كلا الإنائين أو يقتحم أحدهما فإنّه لا تصل النوبة إلى التيمم، إذ لو لم يكن العلم الاجمالي منجزاً لوجوب الموافقة القطعية بأن جاز للمكلف ارتكاب أحدهما مثلاً فإنّ المكلف حينئذٍ واجدا للماء وقادر على استعماله عقلاً، فلأجل ذلك: لم يتنقح موضوع لزوم التيمم في حقه، إذا فنفس الأمر بالتيمم ولو كان لبيان الوجوب التخييري لا التعييني هو دال على منجزية العلم الاجمالي.

فتحصل بذلك: أنّ موثقة سماعة دالة على منجزية العلم الاجمالي إما من خلال الفقرة الأولى وهي قوله «يهريقهما جميعاً»، أو من خلال الفقرة الثانية وهي قوله «ويتمم» أو بمجموع الفقرتين.

بقي مطلبان في هذه الرواية:

المطلب الأول: بناءً على دلالة الرواية على منجزية العلم الإجمالي هل أنّ مفادها المنجزية الشرعية؟، أم أن مفادها مجرد الارشاد إلى المنجزية العقلية؟ أم أنّ مفادها تنقيح موضوع المنجزية؟، فهنا ثلاثة محتملات:

المحتمل الأول: أن يكون مفاد موثق سماعة المنجزية الشرعية بمعنى جعل وجوب الاحتياط في موارد العلم الاجمالي، فمضافا لحكم العقل بالمنجزية فإنّ الشارع جعل وجوب الاحتياط شرعاً في مورد العلم الاجمالي، من خلال قوله: «يهريقهما جميعاً ويتيمم». وحينئذٍ: لا يبقى لحكم العقل مورد، فإنّ حكم العقل بمنجزية العلم الاجمالي فرع عدم العلم التفصيلي باهتمام الشارع بالحكم الواقعي، فإذا لم يعلم المكلف باهتمام الشارع بالحكم الواقعي على مستوى الحكم الظاهري فإنّ العقل يحكم بمنجزية العلم الاجمالي، وأمّا إذا أبرز الشارع اهتمامه بالحكم الواقعي وأمر بالاحتياط أمراً لزومياً فقد حصل علم تفصيلي باهتمام الشارع بالحكم الواقعي المردد، وبالتالي يرتفع حكم العقل بمنجزية العلم الاجمالي بارتفاع موضوعه.

المحتمل الثاني: إنّ الرواية مجرد إرشاد إلى ما يحكم به العقل من منجزية العلم الاجمالي، وهذا يتلاءم مع مسلك العليّة، فعلى القول بأنّ العلم الاجمالي علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية فضلا عن حرمة المخالفة القطعية فمع هذا الحكم العقلي المنجز تكون الرواية إرشاداً إلى هذا الحكم العقلي ولا تتضمن تصرفاً مولوياً من قبل المشرع.

المحتمل الثالث: أن يكون مفاد الرواية تحقيق موضوع المنجزية، وذلك بناءً على مسلك القول بالاقتضاء؛ فبناءً على أنّ منجزية العلم الاجمالي بنحو الاقتضاء لا العلّة التامّة أي أنّ المنجزية معلقة على عدم ترخيص الشارع في ارتكاب أحد الأطراف، فموثقة سماعة بيان لعدم الترخيص لا أنّها عدم بيان للترخيص، فإذا تكفلت الموثقة ذلك فقد حققت موضوع المنجزية، أي حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي.

المطلب الثاني: لو سلّمنا دلالة موثقة سماعة على منجزية العلم الاجمالي فغايتها المنجزية في الشبهة المحصورة ذات الابتلاء مما تكون أطرافها دفعية ومتماثلة لأن المفروض فيها وقوع قذر في أحد الإنائين ومن الواضح أن الشبهة محصورة وأطرافها داخلة في محل الابتلاء بقرينة قوله «يهريقهما جميعاً».

وأمّا أنّها دفعية: حيث إنَّ العمل إجمالي بوقوع قذر بالفعل في أحد الإنائين فالأطراف دفعية. ومتماثلة: لأنّه يعلم إجمالا بنجاسة إناء ألف أو نجاسة إناء باء فكيف يتعدى من الرواية لمنجزية العلم الاجمالي في الاطراف التدريجية؟!، كما لو علمت المرأة أن الحيض إما هذا الدم الذي طرقها بالفعل أو الدم الذي سيطرقها بعد عشرين يوماً. أو يتعدى من الأطراف المتماثلة: كالعلم الاجمالي بنجاسة أحد الإنائين إلى غير المتماثلة، كما لو علم إمّا بنجاسة الماء أو التراب أو بخلل في صلاته أو في صومه. فيقال: بما أنّ مورد الرواية الأطراف الدفعية المتماثلة فالتعدي إلى غيرها مشكل.

والجواب: إذا استفدنا من الرواية أنّها إرشاد إلى منجزية العلم الاجمالي أو أنها تحقيق لموضوع المنجزية فمن الواضح أنّ العرف يلغي خصوصية كون الأطراف دفعية متماثلة لوحدة النكتة.

نعم، لو استفدنا منها المنجزية الشرعية فلعل لكون الأطراف دفعية متماثلة خصوصية في الجعل الشرعي فلا يتعدى إلى غيرها وبالتالي ففي الأطراف الأخرى نرجع إلى ما يحكم به العقل من المنجزية.

فإن قلت: أنّ صحيحة بن سنان التي ذكرناها وهي قوله: «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه»، دالة على عدم منجزية العلم الإجمالي، ومقتضى ذلك: وقوع المعارضة بينها وبين موثقة سماعة الواردة في الإنائين المشتبهين.

قلنا: بأنّ صحيحة ابن سنان أعم من أن تكون الشبهة محصورة أو غير محصورة داخلة في محل الابتلاء أم خارجة متماثلة الأطراف أم مختلفة الأطراف؟!، وموثقة سماعة حيث إنّها واردة في الشبهة المحصورة الداخلة في محل الابتلاء تكون أضيق منها وأخص فتقدم عليها بالأخصية فتدل موثقة سماعة على منجزية العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة الداخلة في محل الابتلاء ويبقى تحت صحيحة بن سنان الشبهة غير المحصورة أو الخارج بعض اطرافها عن محل الابتلاء.

فإن قلت: بما أنّ موثقة سماعة خاصة بالأطراف الدفعية، فإذا بالاطراف التدريجية نأخذ بإطلاق صحيحة بن سنان الدالة على عدم المنجزية لو كانت الأطراف تدريجية.

قلنا: بأنّ ظاهر صحيحة بن سنان الأطراف الدفعية «كل شيء فيه حلال وحرام» بالفعل فهو ظاهر بالأطراف الدفعية. وبالتالي: فصحيحة بن سنان لها مدلول مطابقي وهو عدم المنجزية في الشبهة الدفعية سواء كانت محصورة أو غير محصورة وتدل بالدلالة الإلتزامية على عدم المنجزية في الأطراف التدريجية لأنّه لو لم يتنجز في الاطراف الدفعية فمن باب أولى في التدريجية، فمفاد صحيحة بن سنان بالمدلول المطابقي عدم المنجزية في الأطراف الدفعية وبالمدلول الالتزامي عدم المنجزية بالاطراف التدريجية فإذا قدمت عليها موثقة سماعة ضربت المدلول المطابقي لها واسقطته عن الحجية فإذا سقط المدلول المطابقي لها عن الحجية بمقتضى تقديم موثقة سماعة عليها سقط المدلول الالتزامي فيرجع بعد ذلك إلى ما يقتضيه حكم العقل.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بموثقة سماعة على المنجزية.

والحمدُ لله ربِّ العالمين