الدرس 92

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

لازال الكلام في الجمع بين صحيحة معاوية بن عمار التي قال: «فيها وما بين المشرق والمغرب قبلة»، وبين صحيحة الحلبي التي قال: «فيها يعيد ولا يعيدون فإنّهم قد تحروا». وقد ذكرنا: أنّ السيد الإمام ذكر بأنّ هذا التنافي لا يفي بعلاجه وجود طائفة ثالثة توجب التقييد، ولذلك طرح وجوها أخرى للجمع بين الروايتين، وما أفاده يحتاج إلى تأمل، وذلك بالإشارة إلى أمور:

الأمر الاول: أفاد «قده»: أنّ ما دلّ على «أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة» واضح الدلالة على أنّ المناط هو ما بين المشرق والمغرب، وما دلّ على أنّ التحري هو المطلوب يدل على أنّ المناط في الصحّة هو التحرّي سواء كانت الصلاة ما بين المشرق والمغرب أو غير ذلك، فلو أردنا أن نحل المعارضة بين هاتين الراويتين. وقلنا: بأنّ علاج المعارضة بطائفة ثالثة وهي موثقة الحسين بن علوان التي قال فيها: «من صلى على غير القبلة وهو يرى انه على القبلة قال لا يعيد وما بين المشرق والمغرب قبلة»، فلو أردنا علاج المعارض بين صحيح معاوية والحلبي بهذه الرواية الثالثة، فغاية ذلك أن موثقة الحسين سيكون دورها التقييد بمعنى أنّها ستقيد بصدرها مفاد صحيحة معاوية حيث إنَّ صحيحة معاوية تدل على أنّ المناط في الصحّة أن تكون الصلاة ما بين المشرق والمغرب؛ وصدر موثقة الحسين تقول: أنّ المناط أن يرى أنه على القبلة حينما يصلي فبهذا ستتقيد صحيحة معاوية بن عمار بهذا القيد، وبذيلها ستقيد صحيحة الحلبي حيث تقول: المدار على التحري، وهذه تقول: إذا كانت صلاته ما بين المشرق والمغرب، فدور موثقة الحسين بن علوان التقييد بصدرها وذيلها.

إلّا أنّ مجرد التقييد لا يرفع المعارضة، والسر في ذلك: أنّ صحيحة معاوية وزرارة التي عبّرت: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»، أنّ التعبير ب «ما بين المشرق والمغرب» ليس من قبيل المطلقات كي تنحل المشكلة بوجود طائفة ثالثة مقيدة، وإنّما هو من قبيل الحقيقة الادعائية وهي تحتاج إلى مصحح وهو ترتب أغلب الآثار عليها أو البارز منها وهو الصحّة في المقام، فإذا جاءتنا رواية وقالت: إنّ الآثار لا تترتب على ما بين المشرق والمغرب إلّا إذا تحرّى وكان حين صلاته يرى أنّه على القبلة فسوف يلغي المصحح العرفي للحقيقة الادعائية إذ لا معنى لاعتبارها قبلة، حينئذٍ إذا كانت لا تترتب عليه الآثار وإنّما تحتاج إلى ضميمة أخرى وهو التحرّي وأنه يرى أنّه على القبلة لا أنّ مجرد أنّ صلاته ما بين المشرق والمغرب.

وقال أيضاً: حتّى لو اعتبرنا أنّه هذه العبارة «ما بين المشرق والمغرب قبلة» من المطلقات القابلة للتقييد، فإنّ تقييدها بفرض التحرّي يوجب تقييد الأكثر لأنّ لازمه أنّ من قطع بصحة صلاته لا يكفي ومن نسي أو أخطأ أو قامت عنده البينة ففي جميع هذه الموارد لا تصح صلاته وإن كانت ما بين المشرق والمغرب ما لم يكن قد تحرّى فلازم ذلك خروج أغلب الموارد عن قوله: «ما بين المشرق والمغرب» وبقاء مورد التحري وهذا مستهجن، إذاً فالتوسل بطائفة ثالثة، أي: موثقة بن علوان التي لا دور لها إلّا التقييد غير مجد في حل المشكلة بين صحيحة معاوية وصحيحة الحلبي.

ولكن ما أفاده محل تأمل، والسر في ذلك: لابّد من معرفة النكتة العرفية في الاستهجان إذ مجرد كون العبارة حقيقة ادعائية، والعبارة من قبيل المطلقات مما لا موضوعية له عند العرف فلابّد من أن نبحث النكتة في الاستهجان كي نعرف أنّها تنتفي في مورد موثقة بن علوان أم لا؟!.

والظاهر أنّ النكتة في الاستهجان لغوية العنوان، أي أننا لو اقحمنا قيد التحرّي وجعلنا المدار على التحري كان عنوان «ما بين المشرق والمغرب» لغواً، فلأجل تفادي اللغوية نقول: بأنه لابّد من التحفظ على هذا العنوان نظير ما ذكره الأعلام في مسألة «الطيران وأبوال ما لا يؤكل لحمه»، فإنّه إذا ورد عندنا دليلان دليل يقول «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» ودليل يقول: «كل شيء يطير فلا بأس ببوله وخرئه»، فإنّ النسبة بين الدليلين عموم من وجه، إذ قد يطير وهو مما يؤكل، وقد يكون مما يؤكل وهو مما لا يطير، ففي مثل هذا المورد لو قدّمنا قوله «اغسل ثوبك على كل شيء يطير» صار عنوان الطيران لغواً لا ربط له بالمسألة، لأنّه لكونه مما لا يؤكل فبوله وخرئه نجس، وأما طيرانه لا أثر له، إذ لازم تقديم الأول على الثاني لغوية عنوان الطيران، فهنا يقال: لا يصح التقديم ما دام يلغي الآخر، ولكن هل المقام من هذا القبيل أي أننا لو اقحمنا عنوان التحري وقلنا لا تصح الصلاة بمجرد أن يكون الانحراف ما بين المشرق والمغرب، بل لابّد من التحري، فغايته أن التحري جزء العلة لا تمام العلة، أي: أنّ الموضوع مجموع الأمرين: التحري، وكون الصلاة ما بين المشرق والمغرب، فما دام لكون الصلاة ما بين الشرق والمغرب جزئية للعلة ودخل في موضوع الحكم فلا يلزم من التوسل بالطائفة الثالثة لغوية العنوان بل غايته أنّه انضم إليه جزء آخر وهذا ليس أمراً مستهجنا. ومن الغريب قوله: أنّه «لو قدمنا ما يدل على اعتبار التحري لكان سائر الفروض كالقطع والظن والبينة والغفلة... الخ» غير محكومة بهذا الحكم، فإنّه لا ملازمة بين دخالة التحري في صحّة الصلاة وفساد الصلاة في هذه الموارد كي يقال أن لازم التقييد بالتحري خروج أغلب الموارد وانحصار الصحة بالتحري، فهل من قطع أنّ هذه هي القبلة يخرج عن تعنوان التحري وهي من اعتمد على البينة يخرج عن عنوان التحري؟!. كما أنّ من صلى غفلة أو نسيانا هل هو محل للتحري، حيث يعتبر في التحري فرض الالتفات والناسي غير معتبر في حقه فخروجه عن موضوع التحري تخصصي، وبالتالي فعدم التحري بالعنوان التفصيلي في هذه الموارد لا يوجب صلاة الصلاة فيها كي يقول أنّ لازم تقييد الروايات بالتحري الحكم بفساد الصلاة في هذه الموارد ولم يبق تحت صحيحة بن عمار إلّا التحرّي.

الأمر الثاني: قال إنّ صحيحة معاوية حاكمة على صحيحة الحلبي، والمقتضي للحكومة موجود هو اللسان والمانع مفقود، لأنّ المانع من حكومتها صحّة تقديم معارضها عليها ولكن لا يصح تقديم معارضها وهو صحيحة الحلبي عليها لأننا لو قدمنا صحيحة الحلبي على صحيحة معاوية للزم اللغوية، بخلاف ما لو قدمنا صحيحة معاوية على صحيحة الحلبي فسوف يبقى لصحيحة الحلبي مورد وهو مورد الاستدبار فإنّ المكلف لو التفت إلى أنّه مستدبر فلا يصح أن نصحح صلاته بصحيحة معاوية. بينما تقديم صحيحة الحلبي الدالة على أنّ المناط هو التحري على صحيحة معاوية يلزم أن لا يبقى لصحيحة معاوية مورد.

الصحيح في دفع اللغوية: أنّ التحري إنّما يعتبر في مورد إمكانه. وأما في مورد الغفلة أو القطع بأنّ ما يصلي إليه هو القبلة فإنّ هذا خارج عن التحري موضوعا وبالتالي يصح في هذه الموارد العمل بصحيحة معاوية بن عمار منفردة فلا يلزم من تقديم صحيحة الحلبي على صحيحة معاوية بن عمار لغوية موردها.

الأمر الثالث: أفاد أنّ صحيحة الحلبي معارضة بصحيحة عبد الرحمن بن ابى عبد اللّه انه سأل الصادق : «عن رجل أعمى صلى على غير القبلة قال ان كان في وقت فليعد وان كان قد مضى الوقت فلا يعد».

فأفاد: بأنّ الصحيحتين متعارضتان ولعل منشأ القول بالتعارض بنظره أنّه يرى أنّ النسبة بينهما هي العموم من وجه، باعتبار أنّ صحيحة الحلبي تدل على أنّ المدار على التحري، وحيث إنَّ الاعمى لم يتحر فلذلك حكم بإعادة صلاته بينما صحيحة عبد الرحمن تدل على أنّ المدار أنه انكشف في أثناء الوقت أو بعده فالنسبة بينهما عموم وجه.

ولكن يرد عليه: أنّه على فهمه للرواية تكون النسبة بينهما العموم المطلق لأنّه ذكر أنّه لو اختص أثر الكعبة أي صحّة الصلاة ونحوها بفرض واحد وهو فرض التحري الذي يختص بمن يبصر، ويكون الاعمى محروما منه فإن التحري هو الأخذ بالأحرى بعد الاجتهاد والتفحص عن الجهات؛ فكأنّه فهم من عنوان التحري الفحص الحسي والأخذ بالاحتمال الأحرى وهذا لا يتأتى في حق الأعمى، ولذلك ما لم يقطع الأعمى أو يطمأن بالقبلة أو تقوم لديه البينة فإنّ صلاته لا تصح، فلأجل ذلك قال: يعيد ولا يعيدون فإنّهم قد تحروا. ولعل بعض الروايات تؤيد ذلك:

«علِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوْفَلِيِّ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَؤُمُّ الْمُقَيَّدُ الْمُطْلَقِينَ ولَا يَؤُمُّ صَاحِبُ الْفَالِجِ الْأَصِحَّاءَ ولَا صَاحِبُ التَّيَمُّمِ الْمُتَوَضِّينَ ولَا يَؤُمُّ الْأَعْمَى فِي الصَّحْرَاءِ إِلَّا أَنْ يُوَجَّهَ إلى الْقِبْلَةِ».

فقد يقال: أنّ هذه الرواية شاهد على أنّ الأعمى لا يتأتى منه التحري. فبناء على فهمه هذا: تكون النسبة بين صحيحة الحلبي وصحيحة عبد الرحمن عموم وخصوص مطلق، لأنّ الوجه في كون النسبة بينهما عموماً من وجه أنّ الأعمى يمكن أن يتحرى ويمكن أن لا يتحرى.

وأما إذا قلنا: أنّ الأعمى ليس له إلّا فرض واحد، وهو: أنّه لا يمكنه التحري فلا محالة تكون النسبة بينهما بالنسبة إلى صلاة الأعمى العموم والخصوص المطلق، وبالتالي لا وجه للمعارضة بينهما، والحمل في قوله «يعيد» في صحيحة الحلبي على الاستحباب.

الوجه الرابع: قال: «أنّ‌ صحيحة معاوية بن عمار عن ابى عبد اللّه قال قلت الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى انه قد انحرف عن القبلة: يمينا وشمالا قال قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة».

ظاهرة في أنّ وروده فيها كان لا باجتهاد ونظر، بل لغفلة ونحوها. وإن أبيت فلا أقل من احتمال كونه عن اجتهاد أو غفلة أو خطأ ونحوها. ومع عدم الاستفصال تدل على الصحة في جميع الفروض والمحتملات.

فعلى الأول الذي هو الأظهر: تكون معارضة لصحيحة الحلبي تعارض النص والظاهر، فتقدم عليها بالحمل على الاستحباب وكذا على الثاني لبعد حملها على خصوص فرض الاجتهاد فتدبر».

فمع أنّها واردة في فرض عمد التحري حَكْمَ الإمام بصحة صلاته، فتكون معارضة لصحيحة الحلبي، التي فيها: «فإنهم قد تحروا».

ولكن الظاهر: أنّ العنوان في الرواية أعم من فرض التحرّي وغيره، فلا تعارض بينهما.

والحمدُ لله ربِّ العالمين