الدرس 92

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

الرواية الثانية: ما ورد في غسل موضع النجاسة. كصحيحة زرارة، عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ:

«قَالَ قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ إِنَّهُ أَصَابَ ثَوْبِي دَمٌ مِنَ الرُّعَافِ أو غَيْرِهِ أو شَيْءٌ مِنْ مَنِيٍّ فَعَلَّمْتُ أَثَرَهُ إلى أَنْ أُصِيبَ لَهُ مَاءً فَأَصَبْتُ الْمَاءَ وحَضَرَتِ الصَّلَاةُ ونَسِيتُ أَنَّ بِثَوْبِي شَيْئاً فَصَلَّيْتُ ثُمَّ إِنِّي ذَكَرْتُ بَعْدُ قَالَ تُعِيدُ الصَّلَاةَ وتَغْسِلُهُ قَالَ قُلْتُ فإن لَمْ أَكُنْ رَأَيْتُ مَوْضِعَهُ وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ فَطَلَبْتُهُ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ فَلَمَّا صَلَّيْتُ وَجَدْتُهُ قَالَ تَغْسِلُهُ وتُعِيدُ قَالَ قُلْتُ فإن ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ ولَمْ أَتَيَقَّنْ ذَلِكَ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئاً ثُمَّ طَلَبْتُ فَرَأَيْتُهُ فِيهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَالَ تَغْسِلُهُ ولَا تُعِيدُ الصَّلَاةَ قَالَ قُلْتُ ولِمَ ذَاكَ قَالَ لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ نَظَافَتِهِ ثُمَّ شَكَكْتَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً قُلْتُ فَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ ولَمْ أَدْرِ أَيْنَ هُوَ فَأَغْسِلَهُ قَالَ تَغْسِلُ مِنْ ثَوْبِكَ النَّاحِيَةَ الَّتِي تَرَى أَنَّهُ أَصَابَهَا ”حَتَّى تَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِهِ“ قَالَ قُلْتُ فَهَلْ عَلَيَّ إِنْ شَكَكْتُ فِي أَنَّهُ أَصَابَهُ شَيْءٌ أَنْ أَنْظُرَ فِيهِ فَأَقْلِبَهُ قَالَ لَا ولَكِنَّكَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ تُذْهِبَ الشَّكَّ الَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِكَ قَالَ قُلْتُ فَإِنِّي رَأَيْتُهُ فِي ثَوْبِي وأَنَا فِي الصَّلَاةِ قَالَ تَنْقُضُ الصَّلَاةَ وتُعِيدُ إذا شَكَكْتَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ ثُمَّ رَأَيْتَهُ فِيهِ وإِنْ لَمْ تَشُكَّ ثُمَّ رَأَيْتَهُ رَطْباً قَطَعْتَ وغَسَلْتَهُ ثُمَّ بَنَيْتَ عَلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّهُ شَيْءٌ وَقَعَ عَلَيْكَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ بِالشَّكِّ الْيَقِينَ».

ووجه الاستدلال بهذه الرواية هو التعليل الذي أفاده، حيث قال: «حتّى تكون على يقين من طهارته» فإنّ ظاهر هذا التعليل أنّ المطلوب تحصيل الموافقة القطعية، إذ لولا أنّ المطلوب تحصيلها لما أمر بالغسل بحدّ يوجب اليقين بطهارة الناحية التي أصابها النجس، ومقتضى لزوم تحصيل الموافقة القطعية هو منجزية العلم الاجمالي، فلولا منجزيته لما وجبت الموافقة القطعية.

ومن قبيل الرواية: «أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الْمَذْيِ يُصِيبُ الثَّوْبَ قَالَ إِنْ عَرَفْتَ مَكَانَهُ فَاغْسِلْهُ فإن خَفِيَ مَكَانُهُ عَلَيْكَ فَاغْسِلِ الثَّوْبَ كُلَّهُ». فهي ظاهر في لزوم الموافقة القطعية.

ولكن، قد يستشكل على الاستدلال بهذه الروايات على منجزية العلم الاجمالي مطلقاً، وذلك: لأنّ مورد هذه الروايات هو الشك في الامتثال فالتعدي إلى مورد الجهل بالتكليف غير صناعي، والسر في ذلك: أنّ المكلف يعلم تفصيلاً بوجوب الصلاة مع طهارة خبثية أو يعلم تفصيلاً بوجوب الطواف مع طهارة خبثية أو يعلم تفصيلا بأنّ ملاقاة المتنجس مع الرطوبة المسرية موجبة للنجاسة المانعة من دخول المسجد فالتكليف في هذه الموارد معلوم تفصيلاً، وإنّما الشك في امتثاله وهو أنّه بالنسبة إلى النجاسة المعلومة بالثوب إجمالاً هل يكفي التطهير إجمالاً في الخروج عن ذلك التكليف المعلوم تفصيلاً؟!، فأجاب الإمام : بلزوم تحصيل الموافقة القطعية، لأنّه من موارد الشك بالامتثال.

أمّا لو كان العلم الاجمالي مقرونا بشبهة حكمية: كما لو علم إجمالاً إمّا بوجوب الظهر أو الجمعة فلا شاهد على لزوم الموافقة القطعية في هذا المورد، لأنّه من قبيل العلم الاجمالي المقرون بالجهل بالتكليف، فلا يقاس بالمورد وهو العلم الاجمالي في مورد الشك في الامتثال.

الرواية الثالثة: «أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صَلَاةِ يَوْمِهِ وَاحِدَةً ولَمْ يَدْرِ أَيُّ صَلَاةٍ هِيَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وثَلَاثاً وأَرْبَعاً». مورد الرواية نسيان صلاة يومه.

الرواية من حيث السند تامة، فإنّ التعبير بغير واحد يختلف عن التعبير ببعض أصحابنا، حيث إنَّ التعبير ب «غير واحد» ظاهر في أنّ الواسطة متعدد وأنّه يعلم إجمالاً بوثاقة أحد الواسطة بالمقارنة بين علي بن اسباط وبين مشائخه المباشرين، فإذا كان الغالب في مشائخه المباشرين الوثاقة، وذكر عن غير واحد عن الإمام فإنّ ذلك كاشف عن وثاقة الواسطة. أو أن هذا التعبير كما ذكر المحدث النوري يطلق على الرواة في فرض وجود الواسطة والاستغناء عن السند.

مضافا إلى انجبار الرواية بعمل الاصحاب حيث ادعى الشيخ في الخلاف: الاجماع على العمل بهذا المورد.

أمّا من حيث الدلالة: فقد يستشكل على الاستدلال بالرواية: أنّ الإمام لم يُلزم بالموافقة القطعية، فإنّ الإتيان بركعتين وثلاثة وأربعة وإن كان موافقة قطعية من حيث العدد لأنّ الفائت إمّا فجر أو مغرب أو رباعية؛ أمّا من حيث النوع فلم يحققها باعتبار أنّه يعتبر في وقوع الصلاة ظهراً أو عصراً أو عشاءاً قصد عنوانها، وبيان ذلك بذكر مقدمتين:

المقدمة الأولى: أنّ الدليل قد قام على اعتبار قصد العنوان في الفرائض فلا يجزي المكلف أن يأتي بركعتين قربة إلى الله إذا كان في حال السفر بحيث تقع ظهراً أو يأت بثلاثة ركعات قربة إلى الله وتقع مغرباً، فلابّد من قصد العنوان واعتبار قصد العنوان في وقوع الفريضة شاهد على أنّ الفريضة عنوان قصدي والعنوان القصدي إذا تعلق به الأمر لا يتحقق امتثال أمره إلّا بقصده والإشارة الإجمالية وهو أن يأت بقصد ما ذمته ليست قصداً للعنوان القصدي، والسر في ذلك: أنّ قصد العنوان عبارة عن حضوره في أفق النفس بعنوان تفصيلي أو اجمالي فما لم يقصده مع عدم التعين عنده، إذ تارة يكون القاصد قد تعيّن عنده العنوان كما لو علم انه مخاطب بالفجر ثم يقال اتيت بركعتين بقصد ما في الذم، فحينئذٍ بما ان العنوان حاضر في نفسه فقصد ما في الذمة قصد له اما إذا كان القاصد جاهل بالعنوان ولا يدري انه مخاطب بالفجر أو ركعتي الطواف أو ركعتي نذر لا يدري ما هو المخاطب به فقد ركعتين عما في ذمته فهذا ليس قصدا للعنوان المتعلق للأمر لان العنوان لم يحضر في النفس لا تفصيلا ولا اجمالا ولذلك لا يكتفى في المعاملات بالقصد المبهم مثلاً لو سلم شخص سلعة لشخص آخر على نحو المعاطاة ولم يدر القابض هل انه قصد الهبة أو القرض أو البيع فلا يكفي بالنسبة للقابض ان يقول اقصد ما قصد فإن هذا لا تتحقق به المعاملة أو ان الزوجة انشات الجامع بين العقد المنقطع والدائم على القول بصحة ذلك، فقصد الرجل قبول ما قصدته الزوجة فإن هذا لا يقع نكاحا، إذاً فالقصد المبهم ليس قصدا للعنوان المتعلق للأمر.

المقدمة الثانية: بما أنّ الأمر تعلق بعنوان قصدي وقصده إجمالاً ليس قصداً له، إذاً الموافقة القطعية لم تتحقق وبالتالي فاكتفاء الإمام «بأثنين وثلاثة وأربعة» ليس من باب لزوم الموافقة القطعية كي يستدل به على منجزية العلم الاجمالي، بل لعله اجتزاء منه في مقام الامتثال بهذا المقدار والاجزاء في مقام الامتثال بهذا المقدار في هذا المورد لا يعني انه يجزيء بنحوه في مورد آخر، فلو تردد الطواف الفرضي بين طواف الفريضة أو النساء أو المستأجر عليه مثلاً عن شخص آخر فهل يكتفي الإمام في مقام الامتثال بطواف عما في الذمة؟ أم لابّد من قصد التعيين فلا يمكن التعدي عن مورد الرواية إلى موارد أخرى ما دام الإمام لم يلزم بالموافقة القطعية واجتزأ بهذا النحو في مقام الامتثال؟.

ولكن اجيب عن هذا الاشكال: تارة بمنع المقدمة الأولى، وأخرى بمنع الثانية.

أمّا منع المقدمة الاولى: فقد يقال: بأنّ بمجرد الأمر بفريضة كقوله «اقم الظهر» لا يدل على أنّ العنوان المتعلق للأمر عنوان قصدي. وإنّما يعتبر قصده لأحد وجوه:

الوجه الأول: أن يقال: إنّما يعتبر قصده لأنّ التعبدية لا تتحقق إلّا بقصده، حيث إنَّ العنوان المتعين للأمر عبادي وليس أمراً توصلياً، وبما أنه عنوان عبادي فالعبادية لدى المرتكز العقلائي لا تتحقق إلّا بتوافق إرادة العبد مع إرادة المولى، وبما أنّ المولى أراد العنوان فالإتيان بالعمل بقصد القربة من دون قصد العنوان منع من توافق إرادة العبد مع إرادة المولى فلم تتحقق العبادية بهذا النحو من الامتثال.

وهذا كما ترى لو كان تاما فإنه يتم في فرض العلم التفصيلي بما هو المأمور به وأمّا في فرض الجهل فإذا أتى العبد بأثنين وثلاثة وأربعة بإرادة ما أراده المولى منه فقد حصل التوافق بين الإرادتين المحقق للعبادية.

والحمدُ لله ربِّ العالمين