الدرس 93

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

فتلخص مما مضى: أنّ الصحيح في وجه الجمع بين صحيحة معاوية الدالة على «أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة»، وصحيحة الحلبي الدالة على اعتبار «التحرّي»، وشاهد الجمع بينهما وهو: موثقة الحسين بن عمار.

ولكن قد يقال: أنّ العنوان الوارد في موثقة بن علوان هو عنوان رؤية القبلة، حيث قال: «من صلى على غير القبلة وهو يرى انه على القبلة» ولم يقل وقد تحرّى، بينما العنوان الوارد في صحيحة الحلبي هو عنوان التحري، فإنّهم قد تحروا أو كما في معتبرة سليمان بن خالد، حيث قال: «فإن مضى الوقت فحسبه اجتهاده»، وبين التحري وبين رؤية القبلة فرق، فإنّ المكلف قد يرى أنّ الجهة قبلة قطعاً أو ظناً من دون تحري وقد يكون التحري والفحص طريقا لترجيح احتمال على آخر وإن لم يحصل له الظن بالقبلة، وحينئذٍ فنحن بين هذين العنوانين - أي عنوان يرى القبلة وعنوان تحرى القبلة -، فإن قلنا إن المرتكز العرفي لا يرى للتحري موضوعية، وإنما يلحظه على نحو الطريقية، وإنما المدار على أن يكون حين صلاته مرجحا إلى أنّ الجهة التي يصلي إليها هي القبلة أو لا سواء حصل هذا الرجحان عن تحري أو كان هذا موجوداً لديه ابتداء بالقطع أو الظن فإذا لم يكن للتحري موضوعية لدى المتركز كانت موثق الحسين بن علوان شاهد جمع بين صحيحة معاوية والحلبي، وأما إذا قلنا أنّ المرتكز العرفي هو العكس يرى أنّ الصلاة إلى جهة عن تحري هو المعول عليه لا مجرد الرجحان، وإن كان ناشئاً عن طريق غير عقلائي فإنّ ما يحتمله المرتكز العرفي أن يكون مناطاً للصحة هو الرجحان عن فحص بحيث يكون رجحانا عقلائي لا مجرد الرجحان ولو نشأ عن عامل نفسي، وعليه بناء على ذلك: ولا أقل من احتماله، لا تصلح موثقة بن علوان أن تكون شاهد جمع ولا حتّى لانقلاب النسبة لأنّ النسبة لا تتغير، أي أننا لو قيدنا صحيحة بن عمار بموثقة الحسين بن علوان فغايته أننا أضفنا لصحيحة بن عمار قيداً وهو أنّه يرى أنّه على القبلة وهذا لا يوجب انقلاب النسبة بينها وبين صحيحة الحلبي لأنها تقول المدار على التحري رأى أنّه صلّى إلى القبلة أم لا، وصحيحة معاوية بعد التخصيص تقول: المدار على أنّه يرى أنها قبلة وأن يكون الانحراف بين اليمين واليسار تحرى أم لا، فتبقى النسبة بينهما عموما من وجه حتّى بعد تخصيص صحيحة معاوية بموثقة الحسين بن علوان، وبالتالي حيث لا تصلح موثقة بن علوان لا لكونها شاهد جمع ولا لكونها موجبة لانقلاب النسبة فيقع التعارض بين الموثقة وصحيحة الحلبي، وذلك في فرض أنّه صلّى معتقداً أنّ ما صلى إليه قبلة وكان انحرافه ما بين اليمين واليسار، ولكن لم يكن عن تحري فمقتضى الموثقة صحّة صلاته، ومقتضى صحيحة الحلبي فساد صلاته لأنّه لم يتحر، وحينئذٍ إذا تعارضا حيث لا مرجح بينهما تساقطا، والمرجع ما اعتبر القبلة كالآية: ﴿وحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.

أمّا الجهة الأخرى: وهي المعارضة بين صحيح معاوية والروايات المفصلة، منها: صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبدالله، قال عن أبي عبدالله : «إذا صليت وأنت على غير القبلة واستبان لك أنّك صليت وأنت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد وإن فاتك الوقت فلا تعد»، فيقال: أنّ صحيحة معاوية التي قالت ما بين المشرق والمغرب قبلة إن نجت من المعارضة الأولى فلم تنج من المعارض الثاني، لأنّ النسبة بين هذه الصحيحة وصحيحة عبد الرحمن العموم من وجه، لأنّ صحيحة بن عمار تدل على أنّ المناط في صحّة الصلاة أن تكون ما بين المشرق والمغرب سواء انكشف ذلك في الوقت أم في خارجه بينما صحيحة عبد الرحمن تدل على أنّ مناط الصحّة إن انكشف ذلك خارج الوقت فإنّه متى ما انكشف في الوقت أعاد سواء كان انحرافه ما بين اليمين واليسار أو اكثر من ذلك، فبين الصحيحتين العموم من وجه وبالتالي يتعارضان فيما لو انكشف له أثناء الوقت أنه ما بين اليمين واليسار، فهنا مقتضى صحيحة معاوية صحّة صلاته ومقتضى صحيحة عبد الرحمن فساد صلاته، لأنّه قال فإن كان في وقت فليعد فما هو العلاج؟.

وهنا أفاد صاحب الحدائق بأنّ التعارض بين الطائفتين مستحكم وأنّه في مورد المعارضة وهو من انكشف له في الوقت إنّ انحرافه ما بين اليمين واليسار في أثناء الوقت هو مورد التعارض بين الطائفتين، فإذا تساقطا فالمرجع اطلاق الكتاب ومقتضاه اعادة صلاته. وقد أجيب عن كلام صاحب الحدائق بوجهين:

الوجه الأول: إنّ محل كلامنا من صغريات الكبرى التي اشرنا إليها وهي: أنّه كلما تعارض دليلان بالعموم من وجه وكان تقديم باء يوجب لغوية العنوان في ألف بينما تقديم ألف لا يوجب لغوية العنوان في باء كان ذلك موجباً لاقوائية ألف في مورد المعارض من باء ومقتضى اقوائية ظهوره في مورد المعارضة من الطرف الآخر أن يقدم عليه بنكتة الأخصية حيث إنَّ نكتة الأخصية هي الأظهرية، أي إنّما يقدم الخاص على العام لأنّ الخاص في مورده اظهر من العام، فهذه النكتة موجودة في العامين من وجه إذا كان تقديم باء يلغي عنوان ألف فيكون اظهر من باء. وقد مثلنا له بدليل «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه».

وكذلك الأمر في المقام: فإنّ عندنا دليلان: 1 - دليل يقول: «مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة»، 2 - والآخر يقول: «ان استبان أنه في وقت فليعد وخارجه فلا يعد».

فمقتضى الأول: أنّ المدار على أن يكون ما بين اليمين واليسار. ومقتضى الثاني: أن يكون الانكشاف خارج الوقت فلو قدمنا الثاني وهو باء على الأول لزم لغوية خصوصية ما بين اليمين واليسار، لأنّ المدار على الوقت، فإنّ الانكشاف إن كان في الوقت أعاد وإن كان خارجه لا يعيد، فالمدار في الصحّة على الوقت لا كون الانحراف ما بين اليمين واليسار. فيلزم من تقديم صحيحة عبد الرحمن على معاوية لغوية العنوان. بينما لو العكس: فغايته التخصيص بأن يقال: إن استبان له أنّه صلى لغير القبلة خارج الوقت لا يعيد سواء كان الانحراف ما بين اليمين واليسار أو اكثر، وإن استبان له أنّه صلى غير القبلة أثناء الوقت فهنا تفصيل وهو: إن كان الانحراف ما بين اليمن واليسار فلا يعيد وإن كان أكثر فيعيد، فيلزم من تقديم صحيح معاوية على صحيح عبد الرحمن مجرد التقييد لا إلغاء العنوان، فتقدم صحيح معاوية على صحيح عبد الرحمن بنكتة الأخصية.

وقد أفاد سيدنا «ج: 12، ص: 46»: «وبالجملة: فهذه الكبرى مسلّمة لا غبار عليها، لكنها غير منطبقة على المقام، إلا بناءً على القول بعدم وجوب الإعادة إذا كان الانكشاف خارج الوقت وكان الانحراف كثيراً بالغاً حدّ المشرق والمغرب فما زاد.

وتوضيحه: أنّ النسبة بين صحيحتي معاوية وعبد الرحمن عموم من وجه، ومادة الافتراق من الاولى الانحراف اليسير المنكشف خارج الوقت، ومن الثانية الانحراف الكثير المنكشف في الوقت، ولا معارضة بينهما في هذين الموردين، لتطابقهما على عدم وجوب الإعادة في الأول، ووجوبها في الثاني كما هو ظاهر. وإنّما المعارضة في مادة الاجتماع، ولها موردان:

أحدهما: الانحراف اليسير المنكشف في الوقت، حيث لا يجب فيه الإعادة بمقتضى إطلاق صحيح معاوية، ويجب بمقتضى إطلاق صحيح عبد الرحمن.

ثانيهما: الانحراف الكثير البالغ حدّ المشرق والمغرب فما زاد المنكشف خارج الوقت، فإنّه تجب فيه الإعادة بمقتضى ما يفهم من إطلاق صحيح معاوية، حيث أُنيط الحكم فيه بالصحة بما إذا كان الانحراف ما بين المشرق‌ والمغرب، ولا تجب بمقتضى إطلاق صحيح عبد الرحمن لكونه في خارج الوقت». فهنا موردان للمعارضة، ولأجل ذلك نركز على المورد الثاني، وهنا أفاد سيدنا:

إن حلّ المشكلة أنّ كون محل كلامنا من صغريات تلك الكبرى أو لا مبني على آراء الفقهاء، فإن كان الرأي هو عدم وجوب الإعادة في هذا الفرض سوف تتم الكبرى من حيث انطباقها على المقام، وإن كان الرأي هنا هو وجوب الإعادة سوف لن تكون المورد من صغريات تلك الكبرى.

بيان ذلك قال: «ثم إنّ هذه المسألة أعني الانحراف الكثير المنكشف خارج الوقت ذات قولين: فالمشهور عدم وجوب الإعادة، واختاره المحقق في الشرائع وغيره. وذهب جمع منهم الشيخان وغير واحد من الأعلام إلى وجوب الإعادة.

فعلى المشهور: تنطبق الكبرى المزبورة على المقام، إذ لو قدّمنا صحيح عبد الرحمن وقيّدنا عدم الإعادة في صحيح معاوية بما إذا كان الانكشاف خارج الوقت يلزم منه طرح العنوان وإلغاء خصوصية ما بين المشرق والمغرب المأخوذة في صحيح معاوية، إذ المفروض عدم وجوب الإعادة في خارج الوقت، وإن كان الانحراف كثيراً فضلًا عن اليسير، فلا يبقى لهذا العنوان دخل في نفي الإعادة فتلزم اللغوية كما أُفيد. وأما بناءً على القول الآخر أعني وجوب الإعادة، حينئذ الذي ذهب إليه جمع كثير كما عرفت فلا تلزم اللغوية للتحفظ حينئذٍ على عنوان ما بين المشرق والمغرب، إذ المفروض اختصاص عدم الإعادة به دون الانحراف الكثير، فيتعارض الإطلاقان من دون ترجيح في البين، لعدم الموجب لتقييد أحدهما دون الآخر، وبعد التساقط يرجع في كلا موردي مادة الاجتماع إلى عمومات الفوق القاضية باعتبار الاستقبال كما لا يخفى».

كأنّه يريد أن يقول: أنه إن كان رأي المشهور في المورد الثاني وهو: ما إذا كان الانكشاف بعد الوقت على عدم الاعادة فاحتفاف هذه الرواية بهذا الإرتكاز المشهور بين الطائفة على أنّه إذا انكشف الأمر بعد الوقت فلا اعادة مطلقا سواء كان الانحراف يسيراً أو كثيراً، إذاً فالراوية لأجل فتوى المشهور وهي صحيحة معاوية منصرفة عما إذا كان الانكشاف خارج الوقت، فلأجل ذلك: كانت الروايتان لا تتعارضان إلّا في مورد ما إذا كان الانكشاف أثناء الوقت، وحينئذٍ لو قدمنا صحيحة عبد الرحمن وقلنا بوجوب الإعادة لم يبق لصحيحة معاوية مورد لأنّه أثناء الوقت قدمنا صحيحة عبد الرحمن وخارج الوقت منصرف عنه فهنا تكون هذه المسألة من صغريات كبرى وهي لغوية العنوان.

أمّا إذا قلنا: أنّ الفقهاء مختلفون فلا شهرة توجب انصراف الراوية عن مورد دون مورد فنحن وإطلاق الروايتين، فكما أنّ صحيحة عبد الرحمن ناظرة للوقت وبعده فكذلك صحيح معاوية ناظرة لكليهما وحاكمة أنّ الانحراف اليسير لا يضر في الوقت وخارجه، وأنّ الانحراف الكبير مضر خارج الوقت وداخله، وحينئذٍ لا ترجيح لأحدهما على الآخر وتستقر المعارضة. كذا أفاد صاحب الحدائق.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.