الدرس 93

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

لازال الكلام في جواب المقدمة الأولى على دفع الاستدلال بهذه الرواية على منجزية العلم الاجمالي.

وذكرنا: أنّ اعتبار القصد للعنوان في تحقق الامتثال إمّا لدخل ذلك في تحقق العبادية وقد سبق الكلام عنه، وإما لأجل أنّ العنوان بحسب المرتكز العرفي والعقلائي لا ينطبق على المأتي به إلّا مع فرض القصد بأن يدّعى مثلاً أنّ الشارع عندما أمر بالظهر فإنّ عنوان الظهر لا ينطبق على العمل المأتي به خارجاً إلّا إذا قصد المكلف هذا العنوان، فالعنوان في حدّ نفسه ليس عنوانا قصديا، مثلاً عنوان التشريع وعنوان التجري عنوان قصدي في حدِّ ذاته، وعنوان الغسل والمشي ليس قصديا، وعنوان الظهر والعصر إنّما يعتبر فيه القصد لا لأنّه عنوان قصدي بل أنّ صدقه بحسب المرتكز في بعض الموارد يتوقف على القصد، فبناءً على ذلك: فلابّد من البحث عن النكتة في عدم صدقه إلّا بالقصد ليرى أنّ هذه النكتة موجودة في المقام أم لا، فيقال: إن العنوان: تارة يكون له تعين واقعا وتارة لا يكون له تعين، فإن كان العنوان متعيناً واقعاً ولو لأنّ المأمور به في حق المكلف واحد واقعاً كما إذا افترضنا أنّ المأمور به في حق المكلف ما بين الضحى وبين الزوال قضاء وليس شيئاً آخر، فإذا كان المخاطب به المكلف واحداً واقعاً كان متعينا واقعا فمتى ما قصده ولو إجمالاً وأشار إليه ولو اجمالاً كان العنوان مقصوداً وصدق عند العقلاء تحققه، فيقال للصلاة المأتي بها بقصد ما في الذمة أو الأمر الواقعي: أنّه صلى الظهر قضاء أو العشاء قضاء، لأن المفروض أنّ العنوان مما له تعين واقعاً ولو بلحاظ هو المأمور به الوحيد في حق المكلف.

وأمّا إذا افترضنا أنّ العنوان مما ليس له تعين واقعا إمّا لأن المأمور به متعدد في حقه فهو مأمور بنافلة الفجر ومأمور بصلاة الفجر وجوبا، أو هو مأمور بالعشاء أداءً والعصر قضاءً مع فرض وحدة الصورة بين المكلف بهما؟! أو فرضنا أنّ الموضوع من قبيل المعاملات، وليس لها تعين واقعا، وما دامت متعددة بمعنى ان اعطاء المال بيد شخص يصلح أن يكون مصداقا للقرض وللهبة وللعارية... الخ، فبما أنّ المعاملة مما ليس لها تعين واقعا باعتبار قابليتها للإنشاء بهذا العمل الذي هو واحد، صورة مع هذه المعاملات المختلفة حقيقة، فحينئذٍ لا يمكن القصد الاجمالي إليه بأن يقول قصدت ما هو في نفس الأمر، فإنّ القصد الاجمالي لا يكون محققا لما هو العنوان عند المرتكز، فاعتبار القصد لأن صدق العنوان بحسب المرتكز العرفي يتوقف على القصد احيانا فبالتالي متى ما كان المأمور به واحد سواء علم المكلف به تفصيلا أو اجمالا فإن الاشارة الذهنية بقصد ما في الذمة حضور له في افق النفس وبالتالي يكون مقصودا وتتحقق بذلك الموافقة القطعية، فيندفع بذلك المقدمة الأولى والثانية، بأنّ اكتفاء الشارع في هذه الرواية لما قال: «صلِّ الثانية أو الثالثة أو الرابعة» ليس في مقام الاجزاء في مقام الامتثال، وإنّما هو من أجل تحقق الموافقة القطعية.

نعم، لو قلنا بالطريق الثالث وهو: إن اعتبار القصد تعبدي، أي أنّ الشارع اعتبر في التلبية أن يقصد بها الحج أو العمرة عن نفسه أو عن غيره إن قلنا باعتبار القصد تعبداً وإن لم يكن صدق العنوان متوقف على القصد لدى المرتكز العرفي، فهنا يقال: إن اجتزاء الشارع بالثانية أو الثالثة أو الرابعة مجرد اجتزاء لا لأجل تحقق الموافقة القطعية، ولكن هذا ليس بصحيح.

الرواية الاخرى: «أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنِ الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ خِرَاشٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ عَلَيْنَا يَقُولُونَ إذا أُطْبِقَتْ عَلَيْنَا أو أَظْلَمَتْ عَلَيْنَا فَلَمْ نَعْرِفِ السَّمَاءَ كُنَّا وأَنْتُمْ سَوَاءً فِي الِاجْتِهَادِ فَقَالَ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ إذا كَانَ ذَلِكَ فَلْيُصَلَّ لِأَرْبَعِ وُجُوهٍ».

ومحصل الاستدلال بهذه الرواية على منجزية العلم الاجمالي:

إنّ الواسطة وهو بعض أصحابنا ذكر للإمام : أنّ المخالفين ينقضون علينا فيقولون لنا لماذا لا تجيزون الاجتهاد وتتقيدون بالنص الوارد عن المعصوم، والحال أنكم في مسألة القبلة إذا اشتبهت تعملون بالاجتهاد فتأخذون بالظن فلماذا في غير القبلة في استنباط الأحكام الشرعية لا ترون حجية الظن؟!، وأما في باب القبلة فتعملون بالظن بالقبلة إذا اطبقت علينا كنا وانتم سواء بالاجتهاد - أي كلانا نعمل بالظن - فلماذا تقولون بحجية الظن في باب القبلة ولا تقولون في غير ذلك من الابواب؟!.

قال : ليس كما يقولون إذا حصل اطباق أو ظلام فليصل إلى الأربع جهات طلبا لتحصيل العلم بالقبلة وليس عملا بالظن، فهذه الرواية ترشد إلى ان مقتضى العلم الاجمالي بالقبلة لزوم الموافقة القطعيّة.

ويقع الكلام في ثلاث جهات:

الجهة الاولى: في صحّة طريقها؛ حيث إنه مبتلى بثلاثة اشكالات: الارسال، اسماعيل بن عباد مما لا توثيق له إلّا قول الكشي، بأن الفضل بن شاذان كان يقرأ عليه في المسجد، وهذا وإن دل إنّ له شأناً علميا إلّا أنه ليس دليلا على وثاقته.

والامر الثالث خداش مما لا توثيق له وإن روى عدة روايات بالواسطة .

واجيب في كلمات بعض اساتذتنا «دام ظله» عن الإرسال: بأنّ الواسطة زرارة حيث إننا استقرأنا روايات خداش فلم نجد أنّه يروي عن غير زرارة، فيحمل عن بعض أصحابنا على زرارة. ولكن مجرد هذا الاستقراء لا يوجب الوثوق بذلك.

الجهة الثانية: هل أنّ الأصحاب عملوا بهذه الرواية كي يكون عملهم جابراً لضعف سندها بناءً على جابرية الشهرة لضعف السند أو على مسلك السيد الأستاذ من أنّ الشهرة قرينة من قرائن الوثوق بالرواية فهل أنّ المشهور عملوا بهذه الرواية الضعيفة سنداً أم لا؟!.

فقد يقال: في تقريب ذلك: بأنّ المشهور قد عملوا إما تخييرا أو تعيينا أو جمعا، فعلى كل حال عملوا بها ولو على نحو الموجبة الجزئية، فهناك من عمل بها تخييرا، كما هو إيراد الكليني لهذه الرواية بعنوان «وروي»، وذكر الصدوق لها مع ذكر أخرى قال: روي في المتحير أنه يعمل بالظن؛ وروي فيه: أنه يصلي إلى أربع جهات؛ فظاهر إيراد الصدوق الروايتين في عرض واحد أنّه يرى التخيير بينهما، فهو ممن عمل بالرواية تخييراً.

ونُسِبَ إلى الشيخين في المقنعة وفي المبسوط والنهاية: أنهما أوجبا الاحتياط حتّى مع فرض إمكان تحصيل الظن بالقبلة، ومع فرض إمكان التحري.

وهناك من قال بها جمعاً كما ذكر العلامة في «المختلف»، واساس ذلك هو الشيخ الطوسي في «التهذيب» حيث جمع بين رواية يصلي إلى أربع جهات، وصحيحة حريز عن زرارة يجزي التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة، وصحيحة زرارة الأخرى: «يجزي المتحير أينما توجه إذا لم يعلم أين وجه القبلة». هنا ثلاث روايات جمع بينها الشيخ في «التهذيب»: فقال: إذا تحرّى يعمل بما تحرّى وإن لم يتحرّى صلّى إلى أربع جهات، وإن لم يمكنه الصلاة إلى أربع جهات ولو لأجل ضيق الوقت صلّى إلى أي جهة. فهو ممن عمل بالراوية جمعاً وقد ذكر صاحب الجواهر أنّ الصلاة إلى أربع جهات هو المشهور نقلاً وتحصيلاً بل في صريح «الغنية والمعتبر» الإجماع عليه، هذا فيما إذا تعذر الظن والاجتهاد، أي: أنّ الصلاة إلى أربع جهات في غير إمكان التحرّي.

فهل هذا المقدار كاف في تنقيح عمل المشهور بالرواية؟!.

والحمدُ لله ربِّ العالمين