الدرس 95

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

واما ما ذكره المحقق الهمداني دفعاً للمعارضة بين هذه الرواية وهي راوية خراش وبين النصوص الدالة على مطلوبية التحري: بأنّ المراد بالاجتهاد في رواية خراش هو عبارة عن الفتوى بسقوط شرطية الاستقبال حال اطباق السماء أو ظلامها فلذلك لا يكون مفاد رواية خراش عدم مطلوبية التحري بمعنى تشخيص القبلة وانما منظورها نفي الاجتهاد بالرأي الذي هو متعارف لدى العامة الذي يؤدي في المقام إلى الفتوى بسقوط شرطية الاستقبال.

ولكن هذا الحمل خلاف الظاهر فان ظاهر الاجتهاد في القبلة الاجتهاد في تشخيصها لا في حكمها في الفتوى بسقوط شرطية الاستقبال خصوصاً انه لم ينقل عن أحد فتواه بسقوط شرطية الاستقبال في هذا المورد وهو اطباق السماء، كما ان رواياتنا عبرت بالاجتهاد عن التحري كما في معتبرة سليمان بن خالد حيث قال «وان مضى الوقت فحسبه اجتهاده» أي تحريه في تشخيص القبلة.

كما ان ما أفاده المحقق النائيني في صلاته في حمل الاجتهاد في رواية خراش على القياس والاستحسان غير عرفي إذ لا محل للقياس في مجال تشخيص القبلة فان المكلف ان اعتمد على القرائن العقلائية في تشخيص القبلة كان تحريا واجتهادا وان لم يعتمد على ذلك فمسالة الاستحسان والقياس انما يعبر بهما في مجال استنباط الحكم في الشبهات الحكمية لا في تشخيص الموضوع والمنصرف من لفظ الاجتهاد في رواية خراش ما كان متعارفا بين العامة وهو الاجتهاد في تشخيص القبلة.

هذا تمام الكلام في رواية خراش وقد تبين عدم صحّة التمسك بها على منجزية العلم الاجمالي.

الرواية الاخرى صحيحة الحلبي: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي الْمَغْرَاءِ عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع يَقُولُ إذا اخْتَلَطَ الذَّكِيُّ والْمَيْتَةُ بَاعَهُ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ الْمَيْتَةَ ويَأْكُلُ ثَمَنَهُ».

بتقريب: أنّ هذه الرواية دالة على منجزية العلم الاجمالي للمدلول الالتزامي، والسر في ذلك: انه لولا منجزية العلم الاجمالي لجاز بيع المختلط بالميتة لغير المستحل أو بيع أي منهما لغير المستحل فحصر الإمام الجواز ببيعه على من يستحل الميتة ظاهر في مراعاة منجزية العلم الاجمالي.

والكلام في هذه الرواية من ثلاث جهات:

الجهة الاولى: في اعتبارها حيث ذكر بعض الاصحاب ان المتعين طرح هذه الرواية ومنهم ابن ادريس حيث قال: ان الرواية مخالفة للأصول، لان الرسول «صلى الله عليه واله» قال: ان الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه فإذا كان بيع الميتة محرما كان ثمنه حراما». ولكن ما أفاده مدفوع بأن هناك وثوقا بتمامية الرواية مفادا لعمل الاصحاب بها ما سوى بعض من المتأخرين منهم بن ادريس مضافا لاعتضادها بعدة نصوص تدل على ما يقارب هذا المفاد منها صحيحة الحلبي الاخرى.

منها: «ما عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ وبَقَرٌ وكَانَ يُدْرِكُ الذَّكِيَّ مِنْهَا فَيَعْزِلُهُ ويَعْزِلُ الْمَيْتَةَ ثُمَّ إِنَّ الْمَيْتَةَ والذَّكِيَّ اخْتَلَطَا فَكَيْفَ يَصْنَعُ بِهِ فَقَالَ يَبِيعُهُ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ الْمَيْتَةَ ويَأْكُلُ ثَمَنَهُ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ». فإذا قيل بأنّ الراويتين واحدة لأن الراوي واحد.

نقول: إنّ الرواية الثانية رواها علي بن جعفر عن اخيه موسى في كتابه المسائل.

والرواية الاخرى: «عن حفص بن البختري في الصحيح عن أبي عبد اللّٰه في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: يباع ممّن يستحلّ الميتة».

فإنّ ظاهر هذه الرواية ان البيع ممن يستحل غير عزيز في النصوص فاعتضاد صحيحة الحلبي بمثل هذه النصوص يوجب الوثوق بتمامية مفاداها.

وقد يقال ان صحيحة الحلبي معارضة بهذه الرواية:

«أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ ع أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَاةٍ مَسْلُوخَةٍ وأُخْرَى مَذْبُوحَةٍ عَنْ عَمًى عَلَى الرَّاعِي أو عَلَى صَاحِبِهَا فَلَا يَدْرِي الذَّكِيَّةَ مِنَ الْمَيِّتَةِ قَالَ ترم [تُرْمَى بِهِمَا جَمِيعاً إلى الْكِلَابِ». فقد يقال بأن ظاهرها حرمة البيع ولو إلى المستحل.

ولكن اجاب الشيخ الاعظم: بأنّ هذا التعبير يرمى إلى الكلاب كناية عن حرمة الانتفاع بها في الاكل ونحوه من المنافع العرفية الواضحة، ولا دلالة فيها على حرمة البيع وعلى فرض ان هذا التعبير كناية عن حرمة البيع، فغايتها الجمع بين المطلق والمقيد فان هذه الرواية مطلقة وصحيحة الحلبي مقيد.

الجهة الثالثة: في الدلالة فقد حاول جمع التوفيق بين مفاد الرواية وبين ما دل على حرمة بيع الميتة، حيث قالوا بانه لا نحتمل ان مجرد الاختلاط مسوغ لبيع الميتة فإذا كان بيع الميتة حراما تكليفا ووضعاً فكيف يسوغ بمجرد الاختلاط؟.

وعليه: ذكروا وجوها للتوفيق بين هذه الصحيحة وما دل على حرمة بيع الميتة:

الوجه الاول: ما ذكره المحقق الحلي من ان المنظور في الرواية ان يقصد بها بيع المذكى منهما، وتقريب كلامه بحسب بحث تقدم وهو ان عموم احل الله البيع يمكن ان يشمل العنوان الاجمالي، فيقال: المذكى من هذا المختلط بيعه مصداق لأحل الله البيع، أو ما ليس ميتة من هذا المختلط فهو مشمول لأحلّ الله البيع ومقتضى ذلك: صحة بيعه والعلم الاجمالي بوجود الميتة لا يمنع من البيع لأن منجزية العلم الاجمالي انما تمنع من بيعهما أو بيع احدهما واما بيع ما هو المذكى منهما على نحو العنوان المشير فهذا مما لا يمنعه منجزية العلم الاجمالي.

كما ان استصحاب عدم التذكية قد يقال ان مقتضاه في كل من الطرفين ثبوت عدمها ومقتضى ثبوت عدم التذكية عدم جواز البيع مدفوع، لأنّ موطن الحرمة بيع الميتة لا بيع ما لم يذك، فاستصحاب عدم التذكية لا يثبت موضوع الحرمة.

وعلى فرض ان موضوع حرمة البيع ما يشمل غير المذكى فعلى مبنى الشيخ من ان الاستصحاب لا يجري مع العلم بانتقاضه بأحد الطرفين للمناقضة بين الصدر والذيل فلا يجري الاستصحاب في المقام.

نعم، يرد على هذا الوجه انه خلاف الظاهر لأن ظاهر الرواية إذا اختلط الميتة والذكي باعه أي مرجع الضمير المختلط.. مضافا إلى انه لو جاز بيع المذكى من المختلط لجاز بيعه على غير المستحل إذ ما دام المبيع هو الفرد المحلل فإذا بالإمكان بيعه على غير المستحل ولا يحتمل خصوصية للمستحل، ودعوى ان المستحل هنا ليس قيدا مولويا وانما قيد بالمستحل لأنّ الذي ينتفع به عداة هو المتحل خلاف الظاهر فان ظاهر التقييد به انه مولوي لا ارشاد إلى ان غير المستحل لا ينتفع عادة بهذا المختلط.

الوجه الثاني: ما ذكره العلامة في المختلف من جواز أخذ الثمن بعنوان الاستنقاذ أي ان البيع ليس بيعا حقيقيا وانما هو صوري والمسالة مسالة استنقاذ ثمنه

تارة يعبر بالاستنقاذ كما في تعبير العلامة في المختلف والاستنقاذ انما يتصور إذا كان المشتري كافرا حربيا وما سواه كالكافر الذمي أو المعاهد.. الخ فان ماله محترم ومقتضاه عدم جواز استنقاذ المال.

وتارة يعبر بالاستحلال كما اشار اليه في الجواهر والمقصود منه أخذ المال ممن يرى ان اخذه حلال وان كنا لا نرى اخذه حلالا فبما ان دافع المال راض في اخذه وتملكه فيصح اخذه بعنوان الاستحلال وان لم يكن هناك بيع حقيقي.

وهذا المبنى ذهب اليه السيد الاستاذ في كثير من المعاملات المحرمة فقال: لا يجوز قبض الثمن على اساس انه وفاء بالمعاملة ولكن من باب الاستحلال لرضى دافعه بأخذه وتملكه الا في المعاملات التي ورد تغليظ شديد من الشارع كما في بيع الخمر حيث يستفاد ان أخذ مبلغ بإزاء رفع اليد عنه ولو من باب الاستحلال امر مبغوض.

وقد يعبر بقاعدة الالزام أي انه يصح أخذ هذا المبلغ من تحت يد الآخر ولو كان من العامة من باب الالزام إذا كان الطرف الآخر ممن يرى صحّة بيع الميتة أو جواز أخذ الثمن فحينئذ يقال يؤخذ الثمن منه بمقتضى قاعدة الالزام المستفاد من صحيحة بن مصم يوز على اهل كل ذي دين بما يستحلون نعم ليس كل العامة مستحلين لبيع الميتة. وانما هو راي الشافعي وابو حنفية ولذا ورد: «عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَلَوِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ عَيْثَمِ بْنِ أَسْلَمَ النَّجَاشِيِّ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْفِرَاءِ قَالَ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ص رَجُلًا صَرِداً لَا تُدْفِئُهُ فِرَاءُ الْحِجَازِ لِأَنَّ دِبَاغَتَهَا بِالْقَرَظِ فَكَانَ يَبْعَثُ إلى الْعِرَاقِ فَيُؤْتَى مِمَّا قِبَلَهُمْ بِالْفَرْوِ فَيَلْبَسُهُ فإذا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ أَلْقَاهُ وأَلْقَى الْقَمِيصَ الَّذِي تَحْتَهُ الَّذِي يَلِيهِ فَكَانَ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يَسْتَحِلُّونَ لِبَاسَ الْجُلُودِ الْمَيْتَةِ ويَزْعُمُونَ أَنَّ دِبَاغَهُ ذَكَاتُهُ».

فبناءً على هذا النظر يكون استحلال للثمن.

ولكن هذا الحمل خلاف الظاهر، فإنّه الظاهر انه بيع حقيقي حيث عبر واكل ثمنه.

الوجه الثالث: مبني على مسالة عدم تكليف الكفار بالفروع، فيكون المقصود ممن باعه ممن يستحل أي باعه من الكافر أي انه غير مكلف بالفروع وعليه سيكون بالنسبة للكافر منفعة مقصودة كما ذكر انه يكفي في صحّة البيع المالة النسبية ولا يشترط المالية الحقيقية، فالمالية بالنسبة إلى المشتري كافية في صحة المعاملة.

والحمدُ لله ربِّ العالمين