قراءة تحليلية في منطلقات الحركة الحسينية

تحرير المحاضرات

ورد عن الرسول محمد أنه قال: ”حسينٌ مني وأنا من حسين، أحب الله من أحبَّ حسينًا، وأبغض الله من أبغض حسينًا. حسينٌ سبطٌ من الأسباط

حديثنا هذه الليلة عن حركة الحسين ، والحديث عن الحركة الحسينية في محاور ثلاثة:

  • في قراءة الحركة.
  • وفي منطلقات الحركة.
  • وفي المؤهلات القيادية لرائد هذه الحركة.
المحور الأول: قراءة الحركة الحسينية.

حركة الحسين عام 61 للهجرة شغلت أقلام المفكّرين والباحثين إلى يومنا هذا، تعددت القراءات لحركة الحسين، كيف تُقْرَأ ومن أي زاوية تُقْرَأ حركة الحسين ؟ هناك قراءات ثلاث لحركة الحسين: القراءة السلبية، والقراءة المادية، والقراءة التحليلية.

القراءة الأولى: القراءة السلبية.

كتبت في هذه القراءة بعض الأقلام، وإلى يومنا هذا. هذه القراءة تؤكد على أن حركة الحسين حركةٌ مدانةٌ، حركةٌ غير مشروعة، حركةٌ لا تلتقي مع الثوابت القرآنية، لماذا كانت حركة الحسين حركةً مدانةً، وحركةً غير مشروعة؟ أصحاب هذه القراءة يقولون: إن من الثوابت القرآنية التي أكّد عليها القرآن الكريم هي وحدة الأمة الإسلامية، القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، القرآن الكريم يركّز على وحدة الأمة الإسلامية، وحدة الكلمة، ووحدة الصف، يقول القرآن الكريم: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، القرآن الكريم يعتبر من الثوابت والدعائم الأساسية هي مسألة وحدة الكلمة، وحدة الصف الإسلامي.

إذن، من يخالف منطق الوحدة، ومن يشق عصا المسلمين، ومن يحدث الفرقة والاختلاف بين أبناء الأمة الإسلامية، فهو مخالفٌ للثوابت القرآنية. أصحاب هذه القراءة يقولون: الحسين كان كذلك، الحسين أحدث بحركته الفرقة بين أبناء الأمة الإسلامية، الحسين بحركته أحدث شقًا بين صفوف الأمة الإسلامية، وزرع بذرة الخلاف بين مؤيدٍ لحركته ومعارضٍ لها وطرفٍ محايدٍ إلى يومنا هذا، ففي زماننا هذا وفي كل سنة يتجدد الخلاف مرة أخرى، إذ يصر المؤيدون لحركته على الاحتفال بذكراه، ويصر المعارضون لحركته على التنديد بها ونبذها.

إذن، الحسين فتح باب الخلاف من عام 61 إلى يومنا هذا، فخالف الثوابت القرآنية، فكانت حركته مدانة وغير مشروعة، ولذلك قال ابن حزم: الحسين قُتِل بسيف جده، أي أن الحسين كان مستحقًا للقتل، وفعلًا قُتِل من قِبَل جماعة امتثلوا أوامر القرآن، وساروا على الثوابت القرآنية، فقتلوا الحسين لأجل سد باب الفرقة والخلاف.

القراءة الثانية: القراءة المادية.

هذه القراءة تقول: نحن لا علاقة لنا بأن حركة الحسين مشروعة أو ليست بمشروعة، نحن لا نركز على المشروعية أو عدمها، نحن نؤكد على أن حركة الحسين حركةٌ انتحاريةٌ فاشلةٌ عقيمةٌ، لم يترتب عليها أهداف، ولم يترتب عليها نتائج إيجابية في المجتمع الإنساني، لماذا؟ لسببين:

السبب الأول: الحركة لم تحقق أهدافها.

أننا إذا أردنا أن نحاكم حركة معينة، إذا أردنا أن نقرأ حركة معينة، فلا بد من أن نقرأها من خلال أهدافها، كل حركة لها أهداف مرسومة معينة، فإن حققت أهدافها فهي حركة ناجحة، وإن لم تحقق أهدافها فهي حركة فاشلة، فهل حركة الحسين حققت أهدافها لتكون حركة ناجحة؟ يقول أصحاب هذه القراءة: لا، الحسين بنفسه عيّن الهدف من حركته، قال: ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي“، هدفه هو الإصلاح، فهل تحقق الإصلاح؟! لم يتحقق، الحسين أراد الإصلاح، أي: أراد القضاء على الظلم والطغيان الأموي، لكنه لم يقضِ عليه، بقي الحكم الأموي بعد مقتل الحسين أكثر من ستين سنة، بقي الحكم والظلم والطغيان الأموي، لم يتغير ولم يتبدل بعد مقتل الحسين إلى مدة ستين سنة وأكثر من ذلك، إذن فالحسين لم يحقق هدفه، ألا وهو هدف الإصلاح، وبما أنه لم يحقق هدفه فحركته كانت حركة عقيمة فاشلة، لم تؤتِ أكلها، ولم تحقق وتنتج أهدافها.

السبب الثاني: ارتجالية الحركة.

كل حركة تحتاج إلى إعداد عسكري، تحتاج إلى إعداد ميداني، تحتاج إلى إعداد اجتماعي، ونحن نرى أن الحسين لم يقم بأي إعداد، لا عسكري، ولا ميداني، ولا اجتماعي، ارتجل الحركة ارتجالًا سريعًا، خرج من المدينة إلى مكة إلى الكوفة، يرتجل الحركة بسرعة، لم يعد لها إعدادًا جيدًا، ولم يخطط لها تخطيطًا وافيًا، ولم يستوعب أطرافها استيعابًا كاملًا، ونتيجة عدم الإعداد العسكري والميداني والتخطيط الوافي قابل الحسين جيشًا لا يقابَل، لم يكن هناك تكافؤ بين الحسين وبين الجيش المقابل، الجيش المقابل أقله ثلاثون ألفًا على بعض الروايات، وحينئذ كيف يقاس ثلاثون ألفًا بعدتهم وعتادهم مع مئة وعشرين شخصًا - على أكثر الروايات - لا يملكون العدة والعتاد الكافي لخوض المحركة؟! إذن، حركة الحسين كانت حركة انتحارية فاشلة.

ولذلك لامه المقرّبون منه، حيث قال له عمرو بن [...]: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ، يشير إلى أهل الكوفة، يعني: لا يستخفنك أهل الكوفة. والحسين كان يعلم بأن أهل الكوفة ليس لهم ولاء حقيقي، وإنما ولاؤهم ولاء صوري، ولاؤهم ولاء ظاهري، عندما خرج من مكة المكرمة قابل الفرزدق، وقال: أيها الفرزدق، كيف خلّفت الناس من بعدك في الكوفة؟ قال: ”خلفتهم قلوبهم معك وسيوفهم عليك“، كما قال أحمد شوقي في منظومته «قيس وليلى»:

وذا ابن ذريح رضيع الحسين
أحب     الحسين     iiولكنما
حبست  لساني  عن  iiمدحه

 
فديت  الرضيعين  iiوالمرضعه
لساني   عليه  وقلبي  iiمعه
أحاف    أمية   أن   iiتقطعه

والحسين بنفسه أكّد على هذه الصفة، عندما خاطب الجيش المواجه والمستعد لقتاله، قال: ”ويحكم! أهؤلاء تعبدون - أي: تعبدون بني أمية - وعنا تتخاذلون؟! أجل والله، غدرٌ فيكم قديمٌ، وجشت عليه أصولكم، وتآزرت عليه فروعكم، فكنتم بذلك أخبث ثمر شجًا للناظر وأكلةً للغاصب“، فإذن الحركة كانت حركة فاشلة.

القراءة الثالثة: القراءة التحليلية.

عندما نريد أن نقرأ أي حركة، لا بد أن نقرأها من خلال شخصية قائد الحركة، لا بد أن تُقْرَأ الحركة من خلال التأمل في شخصية قائد الحركة ورائدها، تارة يكون رائد الحركة إنسانًا ماديًا، فلا بد أن نقرأ حركته كحركة مادية، لأن قائد الحركة إنسان مادي، إذن رسم أهدافًا ماديةً معينة، فلا بد أن تقاس وتُقْرَأ حركته قراءةً ماديةً. تارة يكون قائد الحركة إنسانًا إلهيًا، إنسانًا يؤمن بالغيب، إنسانًا متعلقًا بالغيب، إنسانًا مرتبطًا بالغيب، فحينئذ لا يصح لنا أن نقرأ حركته قراءة مادية، والمفروض أنه إنسان غيبي إلهي، فلا بد أن نقرأ حركته من خلال العنصر الغيبي، لا من خلال العنصر المادي.

التركيز على العنصر المادي في قراءة الحركة، مع أن صاحب الإنسان ليس إنسانًا ماديًا، ولا يعترف بالأهداف المادية، من الخطأ. من الظلم أن نقرأ حركته قراءة مادية وهو إنسان ليس ماديًا، بل هو إنسان إلهي، له أهداف غيبية معينة، متصل بالغيب، فلا بد من أن نقرأ حركته من خلال شخصيته، من خلال أهدافه التي رسمها لحركته. وحتى يتضح ذلك جيدًا نضربا مثالين من حياة النبي إبراهيم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»، حيث خاض حركتين غيبيتين:

الحركة الأولى: بناء الكعبة.

النبي إبراهيم خرج من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، قطع هذه المسافة الصحراوية المضنية، إلى أن وصل مكة المكرمة، حيث كانت صحراء مدقعة، عبّر عنها النبي إبراهيم: ﴿إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، جاء إبراهيم وبنى دارًا، وهي الكعبة الشريفة، ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، بنى إبراهيم الكعبة، هذه الكعبة التي تعب من أجلها إبراهيم، خرج من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، وبنى الكعبة، ثم جلس بعض الوقت، ثم خرج وترك هذا البيت، هذه الحركة في حد ذاتها لو قرأناها قراءة مادية ماذا سنقول؟

سنقول: حركة فاشلة! لأن إبراهيم أتعب نفسه في بناء بيته، ولم يزر هذا البيت في زمانه إلا أعداد قلائل من البدو، وهم آل زرة، البيت بقي مطمورًا في حياة إبراهيم، إلى ما بعد عدة قرون، كان البيت مطمورًا ومغمورًا، لا يزوره إلا عدد قليل من البدو. نحن لو قرأنا الحركة قراءة مادية، لقلنا بأن هذه الحركة فاشلة؛ لأنها حركة بذل فيها إبراهيم جهودًا مضنيةً، ولم يترتب عليها في زمانه وفي حياته إلا نتيجة ضئيلة، وهو أنه زار بعض هذا البيت بعض البدو، وبعض القبائل.

أما إذا قرأنا الحركة قراءة غيبية لا قراءة مادية، فماذا تعني القراءة؟ تعني أن إبراهيم ليس إنسانًا ماديًا، بل هو إنسان متصل بالغيب، ونتيجة اتصاله بالغيب استكشف أنه مأمورٌ بأن يبني هذا البيت، لا لأجل نتائج مرحلية، بل لأجل نتائج مستقبلية. حركة إبراهيم لا تُقْرَأ في زمانه وفي مرحلته وظروفه، إبراهيم خاض حركةً، ولكن لو قرأنا هذه الحركة قراءة مادية - أي: قراءة لهذه الحركة في زمنها وفي ظروفها وفي مرحلتها - لرأيناها حركة قليلة الجدوى، ولكن إذا قرأناها قراءة غيبية سنقول: إبراهيم أُمِرَ ببناء البيت لا لأجل نتائج وقتية، ولا لأجل نتائج مرحلية، بل لأجل نتائج مستقبلية، حينئذ يتضح لنا أن الحركة كانت صحيحة وفي محلها، لأن حركة أمر بها الغيب لأجل نتائج مستقبلية.

الحركة الثانية: ذبح إسماعيل.

إبراهيم قال لولده إسماعيل: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، الإنسان عندما يقرأ الحركة قراءة مادية يقول: لا بد أن إبراهيم كان مجنونًا وليس عاقلًا، إذ لا يوجد عاقل يذبح ولده! ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، وقاد إسماعيل - طفله الذي يحبه ويتعلق به - إلى موطن الذبح، وسلَّ السكين ليقطع نحره، ونودي من قِبَل السماء: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا. نحن لو فصلنا هذه الحركة عن السماء، لو فصلنا هذه الحركة عن الغيب، لقلنا عنها: حركة جنونية، حركة تهورية، حركة فاشلة عميقة؛ لأننا قرأناها قراءة مادية، لأننا قرأناها في زمنها وفي ظرفها وفي مرحلتها.

أما لو قرأناها قراءة غيبية لقلنا: إبراهيم أُمِر بأن يذبح ولده لأجل نتائج مستقبلية، لا لأجل نتائج مرحلية، أُمِر بأن يذبح ولده لكي يرى مدى تسليم ولده لأمر الله، ومدى اتصال ولده بعالم الغيب، وبعالم السماء، وفعلًا لما اكتشف إبراهيم أن ولده بلغ درجة التسليم لله «عز وجل»، رأى أن ولده مستحقٌ للنبوة، ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا.

إذن، إبراهيم قام بحركتين، لو نظرنا إليهما نظرة مادية وفصلناهما عن الغيب وعن السماء، لرأينا أن الحركتين لاغيتان فاشلتان، ولكن إذا قرأناهما من خلال القراءة الغيبية سنجد أن الحركتين عظيمتان، ترتبت عليهما نتائج مستقبلية عظيمة. والأمر هو الأمر بالنسبة إلى الحسين سبط رسول الله محمد ، كيف؟

الإعداد النبوي للحركة الحسينية:

لاحظوا تاريخ الحسين، وستجدون أن هذه الحركة ليس الحسين هو الذي أعدّ لها، بل الذي أعدّ لها هو رسول الله نفسه، نفس الرسول هو الذي أعدّ ولده لهذه الحركة، نفس الرسول هو الذي جمع الظروف المحيطة لكي يؤهّل ولده لهذه الحركة. يذكر ابن أحمد بن حنبل في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير: نزل جبرئيل بتربة حمراء على النبي ، قال الرسول: ما هي التربة؟ قال: هذه التربة يُقْتَل عليها ولدك الحسين. الرسول أخذ التربة وشمها، صار يشمها ودموعه تذرف على خديه، صار يشمها ويبكي، ثم ضمَّ الحسين إلى صدره وقال: ”تقتلك فئةٌ من أمتي، لا أنالهم الله شفاعتي“، هذا جزءٌ من الإعجاز في الحركة.

لو كانت حركة الحسين حركة مدانة - كما يقول أصحاب القراءة الأولى - لما بكى الرسول على سبطه، لو كانت حركة الحسين حركة غير شرعية - كما يقول أصحاب القراءة الأولى - لما تفاعل الحسين معها، ولما بكى لأجلها، ولما شمَّ التربة التي يُقْتَل عليها ولده الحسين ، فالبكاء وشم التربة والتفاعل وقوله: ”تقتلك فئةٌ من أمتي، لا أنالهم الله شفاعتي“، كل هذه قرائن على أن الرسول هو الذي يريد أن يعدَّ ولده للقيام بهذه الحركة، إرهاصات يقوم بها الرسول ليخلق في نفس ولده أنه سيقوم بحركة تستحق التفاعل، وتستحق التعاطف، وتستحق التجاوب معها.

أحمد بن حنبل في مسنده، وابن حجر في صواعقه، يرويان أنَّ الرسول كانت بيده تربةٌ حمراء، دفعها إلى زوجته أم سلمة، قال: ”خذيها واحتفظي بها، فإذا رأيتيها انقبلت دمًا، فاعلمي أنه قُتِل ولدي الحسين“، وهذا إرهاص آخر. ما هو الداعي لأن يتكلم الرسول بهذا الكلام إذا كانت الحركة حركة فاشلة وحركة انتحارية؟! ما هو الداعي لأن يقوم الرسول بهذه التصرفات؟! الاحتفاظ بالتربة، وتأجيل وقت معين لها، ”إذا انقلبت دمًا عبيطصا فاعلمي أنه قُتِل ولدي الحسين“، هذا إرهاصٌ آخر من قبل النبي، وإعجازٌ آخر من قِبَل النبي، لهذه الحركة، ولصاحب هذه الحركة.

البخاري في صحيحه يروي عن الرسول محمد أنه قال: ”حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا. حسين سبط من الأسباط“، فلنتوقف عند هذه الكلمة: ما معنى سبط من الأسباط؟ يعني حفيد من الأحفاد؟! هذا لا يحتاج إلى بيان، جميع الأمة الإسلامية تعرف أن الحسين سبط رسول الله، فلماذا يبيّن الرسول أمرًا واضحًا وبديهيًا؟! توضيح الواضحات أمرٌ مستهجنٌ، أن يتكلم الإنسان عن أمر واضح وبديهي، يقول للناس: أيها الناس، الرسول سبطي! الناس تعلم بأن الحسين سبطه وحفيده، فما معنى سبط من الأسباط؟

اقرأ قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى، من هم الأسباط؟ الأسباط مجموعة من الأنبياء قادوا حركة تغييرية عظيمة، الأسباط مجموعة من الأنبياء قادوا حركة اجتماعية كبيرة، الحسين يريد أن يربط الحسين بتلك الصفوة، وبتلك النخبة، الذين هم الأسباط. الرسول يريد أن يقول للأمة: ولدي الحسين وإن لم يكن نبيًا يوحى إليه، ولكن منزلته كمنزلة الأسباط الذين هم مجموعة من الأنبياء، لماذا منزلته منزلتهم؟ لأنهم قادوا حركة كما قادوا حركة، وقادوا تغييرًا كما قادوا تغييرًا، ولذلك أنت تقرأ في زيارة الحسين: ”السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله.. وارث نوح نبي الله.. وارث إبراهيم خليل الله.. وارث موسى كليم الله.. وارث عيسى روح الله“، ما ورث الحسين منهم مالًا ولا درهمًا، وإنما ورث منهم حركة التغيير، ورث منهم مشروع التغيير، ”الحسين سبط من الأسباط“، هذا إرهاصٌ وإعدادٌ آخر.

من الإعداد أيضًا أن يرى الرسول محمد الحسينَ يمشي، فيأخذه ويضمه ويقول: ”حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة“. إذا قرأنا هذه النصوص نستكشف منها أن هناك إعدادًا غيبيًا لحركة الحسين، إعدادًا محمديًا لحركة الحسين، إعدادًا لهذه الحركة منذ طفولة الحسين، ومنذ نعومة أظفاره. الرسول بهذه الأحاديث كلها أراد أن يقول للحسين: سوف تستقبلك حركة عظيمة، تحتاج إلى الصبر والتضحية، وأنا أول من يتعاطف مع هذه الحركة، وأول من يتجاوب مع هذه الحركة، أنا أبكي عليكَ وأشم تربتكَ تعاطفًا مع حركتك ومع مشروعك، الذي ستخوضه في المستقبل.

إذن، اقرؤوا حركة الحسين قراءةً غيبيةً لا قراءةً ماديةً، إذا قرأتم حركة الحسين قراءةً غيبيةً ستجدوا أن الحسين اكتشف بأنه مأمورٌ بأمر غيبي بأن يخوض هذه الحركة، لا لأجل نتائج مرحلية، ولا لأجل أهداف وقتية، بل لأجل نتائج مستقبلية، كحركة إبراهيم الخليل ، ولذلك لما قال عمرو بن [...]: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، قال له: ”إن رسول الله أمرني بأمر، وأنا ماضٍ فيه“، وقال له أخوه محمد بن الحنفية: أما عرفت غدر أهل العراق؟! قال: ”يا أخي، شاء الله أن يراني قتيلًا“، مشيئة بمعنى المشيئة التشريعية لا بمعنى المشيئة التكوينية، يعني أنا مأمور من قِبَل الله وعلى فم رسوله بأن أخوض هذه الحركة.

المحور الثاني: منطلقات الحركة الحسينية.

بعد أن عرفنا أن حركة الحسين حركةٌ غيبيةٌ بالقراءة التحليلية، نسأل الآن: ما هي منطلقات هذه الحركة؟ المنطلقات ثلاثة:

المنطلق الأول: منطلق الإصلاح.

الذي عبّر عنه الحسين بقوله: ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي“، والإصلاح الذي يقصده الحسين هو مشروع الرقابة، مشروع الشهادة. كل مجتمع لا يمكنه - كما يقول علماء الاجتماع - أن يحقّق أهدافه إلا إذا كانت هناك مؤسسة تراقب مسيرة المجتمع، وتراقب خطوات المجتمع، هذا المجتمع أمامه أهداف، وأمامه مشاريع، من أجل أن يخوض المجتمع المشاريع كي يصل إلى الأهداف، لا بد من وجود مؤسسة تراقبه، مؤسسة تشرف عليه، هذه المؤسسة - مؤسسة الرقابة - هي التي كانت تسمى في عهد الدولة الأموية والدولة العباسية بنظام الحزبة، تراقب حركة المجتمع، تراقب مسيرة المجتمع.

هذه المؤسسة عبّر عنها القرآن الكريم بالشهادة، حيث قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ أي: تقومون بمؤسسة الرقابة على الأمم. القرآن الكريم يعبّر عن ذلك على لسان نبي الله عيسى: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، مرتبة الشهادة على عمل الأمة، الشهادة على حركة الأمة، يعبّر عنها القرآن الكريم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ بأي شيء؟ بأموالكم؟! بقصوركم؟! بسياراتكم الفارهة؟! بوسائل العيش الرغيد؟! لا، بل بالشهادة والرقابة ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. القرآن الكريم يقول: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.

إذن، المسألة هي مسألة مشروع الرقابة، المسألة هي مسألة مشروع الشهادة، المسألة هي مسألة مشروع حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو المقصود بالإصلاح، ”إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف“ أي: أريد أن أبذر بذرة الشهادة، بذرة الرقابة، بذرة حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الأمويون طمسوا هذه الحركة، كانت الأمة الإسلامية بحاجة ماسة لوجود فئة وظيفتها ودورها الرقابة على الأمة، وظيفتها ودورها الشهادة على الأمة، وظيفتها ودورها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحسين رأى أن هذه الفئة لا [...] إلا بها، فتح هو الباب، فتحه بدمه، فتحه بالنفس والنفيس، إذا فتح الحسين الباب ستُصْنَع فئةٌ سيكون دورها دور الرقابة، دورها دور الشهادة، دورها دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولذلك، يتبيّن لنا خطأ القراءتين السابقتين، القراءة الأولى التي قالت: حركة الحسين حركة غير مشروعة، عجيب هذا! الشخص الذي ينطلق من القرآن تعدّ حركته حركة غير مشروعة؟! الشخص الذي انطلق من منطلقات قرآنية، منطلق الشهادة على الأمة، منطلق حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تكون حركته حركة غير مشروعة؟! أنسينا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ؟! أنسينا قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ؟! إذن، منطلق الحسين منطلقٌ قرآنيٌ، ومشروع الحسين مشروعٌ قرآنيٌ، وكيف يقال للمشروع القرآني أنه غير مشروع، وأنه مدان، وأنه خالف الثوابت القرآنية؟!

ويتبيّن لنا خطأ القراءة الثانية، أصحاب القراءة الثانية كانوا يظنون أن معنى الإصلاح هو سقوط الدولة الأموية، فلما لم تسقط الدولة الأموية بعد قتل الحسين، قالوا بأن الحسين لم يحقق هدفه! ليس المراد بالإصلاح سقوط الدولة، بل المراد به وجود حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعلًا أطلق الحسين الشرارة، فانطلق المشروع - مشروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - في صفوف الأمة الإسلامية، من بعد دم الحسين، ومن بعد مصرع الحسين ، وبالتالي فالحسين حقّق هدفه، لا أن حركته كانت حركةً عقيمةً فاشلةً.

المنطلق الثاني: صيانة الأمة الإسلامية عن الإذلال.

القرآن الكريم يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، أي أن من الثوابت القرآنية أن تكون الأمة الإسلامية أمةً عزيزةً، من الثوابت القرآنية أن تكون الأمة الإسلامية أمةً مهابةً، أمةً شامخةً، أمةً عزيزةً بين الأمم، ولكي نحافظ على عزة الأمة، وكرامة الأمة، وشموخ الأمة الإسلامية بين الأمم، يجب أن تكبر الأمة فوق كل المنكرات، وفوق كل التجاوزات، وفوق كل الانحرافات.

من هنا، أدرك الحسين أنَّ بيعة يزيد بن معاوية إذلالٌ للأمة الإسلامية، أمة تملك عباقرة، تملك إرادة، تملك علماء، تملك أئمة، تملك فكرًا، يحكمها يزيد بن معاوية!! أليس هذا إذلالًا للأمة الإسلامية؟! أليس هذا ضربًا من الذل والمهانة للأمة الإسلامية؟! الحسين من هذا المنطلق - منطلق صيانة الأمة، منطلق المحافظة على عزة الأمة، منطلق المحافظة على كرامة الأمة، منطلق المحافظة على شموخ الأمة - قال: ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل“، أنا إذا بايعت أصبحت ذليلًا. وقال: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة، وبين الذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وجذور طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن تؤثر طاعة اللئام، على مصارع الكرام“.

وعندما قال له أمير المدينة: بايع يزيد بن معاوية ولن ترى إلا ما تحب، قال: ”يا أمير المؤمنين، نحن أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله“، إذا الحسين بايع وهو أعظم رأس للأمة الإسلامية في ذلك الوقت، إذا الحسين بايع وهو سيد شباب أهل الجنة، إذا الحسين بايع وهو سبط رسول الله، إذا الحسين بايع وهو رمز للأمة الإسلامية، ستكون بيعته إذلالًا للأمة الإسلامية، فصيانةً لها عن الإذلال خاض هذه الحركة التي قام بها، وتحمّل في سبيلها كل المصاعب والمتاعب.

المنطلق الثالث: منطلق الشهادة.

الشهادة في حد ذاتها هدف، الشهادة في حد ذاتها أمر عظيم. هؤلاء الذين يقرؤون حركة الحسين قراءة مادية يقولون: الحسين ما كان عنده سيف لحشد الجيش الأموي، الحسين ما أعدّ للمعركة إعدادًا ميدانيًا، الحسين ما كان مقابلًا بكفاءة للجيش المواجه له... كل ذلك صحيح، لكن الحسين ما كان هدفه انتصارًا عسكريًا حتى يعد المعركة، ما كان هدف الحسين أن يأخذ الحسين من يزيد حتى يعد للمعركة إعدادًا جيدًا، إذن ماذا كان هدفه؟

كان هدفه عملية استشهادية، خاضها الحسين بن علي؛ لأجل أن يسنَّ للأمة الإسلامية ما يوقظ ضميرها، ويحرّك إرادتها. إرادة الأمة الإسلامية تجمدت، ضمير الأمة الإسلامية تلبّد، وجدان الأمة الإسلامية تخدّر، فأراد الحسين أن يبعث في الوجدان - وجدان الأمة - الضمير الحي، والإرادة الفاعلة، والحركة الرائدة، ولذلك رأى الحسين أن لا سبيل لإنقاذ الأمة، ولا سبيل لتحريكها، ولا سبيل لإيقاظ ضمائرها، إلا بأن يراق أغلى دمٌ في الأمة الإسلامية، وأغلى دم هو دم الحسين ، فخاض عملية استشهادية، يعرف أنه سيُقْتَل، يعرف أنه سيموت، خاض العملية الاستشهادية من أجل إيقاظ ضمير الأمة، وتحريك إرادة الأمة.

وفعلًا الحسين حقّق أهدافه، قُتِل الحسين وظهرت الثورات والانتفاضات مقابل الظلم الأموي، ظهرت حركة التوابين في الكوفة، وحركة أهل المدينة في واقعة الحرة، وحركة المختار الثقفي في الكوفة، وحركة زيد بن علي في العراق، وهكذا امتدت الحركات، إلى أن أطاحت بالدولة الأموية، وكل ذلك امتدادٌ لصوت الحسين، كل ذلك استمرارٌ لصرخة الحسين. إذن، الحسين حقّق أهدافه، لا أنه لم يحقق أهدافه، خاض عملية استشهادية من أجل إيقاظ ضمير الأمة، فحقّق ما أراد.

ولذلك، هو قال في خطابه يوم عاشوراء: ”ألا وإني زاحفٌ بهذه الأسرة، مع قلة العدد، وخذلان الناصر“، أنا أعلم بكل ذلك، لا أحتاج إلى أن يعلمني أحد، ولا أن يأتي شخص ويكتب بعد ألف سنة: والله الحسين لم يكن عنده تخطيط! أنا أدري منذ أول يوم، أعرف ماذا أفعل، ”مع قلة العدد، وخذلان الناصر“، ولكن [...] ليست النتيجة مرحلية، بل النتيجة مستقبلية، ”وأيم الله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يُرْكَب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليَّ أبي عن جدي رسول الله ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم“.

المحور الثالث: المؤهلات القيادية لرائد هذه الحركة.

قاد الحسين حركته بالمؤهلات التي تُكْسِبُه ثقة القيادة، ما هي المؤهلات التي تمتع بها الحسين، وجعلته قائدًا لهذا المشروع العظيم: مشروع العملية الاستشهادية، حتى صار الحسين قِبْلةً للشهداء والثائرين؟

العنصر الأول: عنصر الاصطفاء.

هو عبّر عن هذا المؤهّل، حيث قال: ”أيها الناس، انسبوني من أنا“ لتروا هل المؤهلات عندي أم لا؟ ”ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله، والمصدّق برسوله بما جاء به من عند ربه؟! أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟! أو ليس جعفر الطيار عمي؟! أو لم يبلغكم قول رسول الله فيَّ وفي أخي الحسن: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟!“. يريد الحسين أن يقول لهم: أنا لم آتِ من فراغ، أنا لم آتِ من شجرة غير معروفة، إن كنتُ شهيدًا فالشهادة إرثٌ لنا، عمي حمزة سيد الشهداء، وعمي جعفر سيد الشهداء، إن أصبحت شهيدًا فالشهادة إرثٌ لنا نحن هذه العائلة، وإن أصبحت قائدًا فالقيادة إرثٌ لنا، أبي أمير المؤمنين، وجدي رسول الله .

يريد أن يقول لذلك الجيش الذي واجهه: إنني أمتلك العنصر الأول من عناصر القيادة، ألا وهو أنني من المصطفين الأخيار، أنني من هذه الشجرة الزكية، التي كلها شهادة، كلها مروءة، كلها علم، كلها عصمة، أنا من هذه الشجرة المباركة، فأنا مؤهَّل لهذه القيادة، أي شجرة؟! شجرة مدحها القرآن، حيث قال: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، من هم آل إبراهيم؟ هم النبي محمد وآله «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، هذه كلها شجرة واحدة، لا تظن أن هذه قبائل مختلفة، بل هي قبيلة واحدة ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، شجرة واحدة امتدت من إبراهيم إلى الحسين بن علي ، كلها قيادات، كلها حركات، كلها تضحيات، كلها بطولات، الحسين من هذه الشجرة، هذه الشجرة قال عنها القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.

ويروي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة: خرج عليَّ رسول الله ، قال: أين علي؟ أين فاطمة؟ أين حسن؟ أين حسين؟ فجيء بهم، فأسدل عليهم الكساء وقال: ”اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي، لحمهم لحمي، دمهم دمي، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا“.

ولذلك، نرى أن الرسول حدّد أهل بيته لا في نسائه، ولا في بني العباس، ولا في بني عقيل، ولا في غيرهم، بل حدّد أهل بيته في فاطمة وحسن وحسين وعلي، ”هؤلاء أهل بيتي وحامتي“. ولذلك، لما نزل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ، أما كان بإمكان الرسول أن يُخْرِج معه عبد الله بن عباس باعتباره من بني هاشم؟! أما كان بإمكان الرسول أن يُخْرِج معه مثلًا محمد بن أبي بكر لأنه من العائلة القرشية؟! لماذا اقتصر الرسول على حسن وحسين؟! يريد أن يقول للأمة: هذان هما الصفوة، هذان هما الشجرة، هذان هما الامتداد الطبيعي للشجرة الإبراهيمية الخليلية المحمّدية المتفرّعة عن النبي محمد .

ولماذا الرسول لم يُخْرِج الرسول زوجاته؟! لماذا اقتصر على فاطمة الزهراء ولم يخرج أي زوجة أخرى من زوجاته؟! يريد أن يقول: هذا المقام لا يناله أحدٌ إلا سيدة نساء العالمين، ”فاطمة بضعة مني“، ”فاطمة شجنةٌ مني“، ”أنتِ سيدة النساء، قالت: يا رسول الله، ومريم؟ قال: هي سيدة نساء عالمها، وأنتِ سيدة النساء في الأولين والآخرين“.

وأخرج الرسول معه نفسه، روحه الذي بين جنبيه، من هو نفسه الذي يعتبره الرسول روحه وامتداده؟! أخرج معه علي بن أبي طالب، الذي قال عنه رسول الله: ”يا علي، حربك حربي، وسلمك سلمي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي“. كيف يعبّر الإمام علي عن العلاقة الحميمة بينه وبين النبي؟ ”كان يضمني إلى صدره، ويمضغ الطعام ويلقمني إياه، وكان يرفع لي كل يوم علمًا من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به، وما رأى لي كذبةً في قول، ولا خطلةً في فعل“.

وصليتُ الصلاة وكنتُ طفلًا
وأوجب  لي  ولايته  iiعليكم
  صغيرًا ما بلغت أوان iiحلمي
رسول  الله  يوم غدير iiخمِّ

العنصر الثاني: عنصر العصمة.

يقول الحسين في خطابه: أنا أمتاز عن غيري، ولذلك أنا أهلٌ للقيادة، أمتاز عن غيري بماذا؟ ”فوالله ما تعمدت الكذب، منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضر به من اختلقه“، أي: ما تعمدت الذنب؛ لأن الكذب هو عبارة عن الذنب، كل ذنب فهو كذب، الطاعة عهدٌ بين العبد وربه، لذلك القرآن يقول: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ، الطاعة عهد، فإذا ارتكب الإنسان المعصية والذنب فقد خالف العهد، وإذا خالف العهد صار كاذبًا، فإذن المعصية كذب، كل ذنب فهو كذب، كل معصية فهي كذب؛ لأنها مخالفة للعهد بين الإنسان وربه. الحسين يقول: أنا ما تعمدت الكذب، أي: ما ارتكبت ذنبًا ولا معصية؛ لأن الذنب والمعصية كذب، وهذا يعني أنني معطّرٌ بعطر العصمة، ومنوّر بنور العصمة.

العنصر الثالث: عنصر السيادة.

قال: ”أما سمعتم قول رسول الله: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة“، من كان سيدًا في الآخرة ألا يكون سيدًا في الدنيا؟! إذا كنتُ أنا سيد شباب أهل الجنة، فكيف لا أكون سيدًا في هذه الدنيا؟! من كان سيدًا في الآخرة، فمن باب أولى يكون سيدًا في الدنيا، أنا سيد شباب أهل الجنة، فأنا سيدٌ في هذه الدنيا. الحسين يريد أن يقول: عنصر السيادة يؤهلني لأن أقود هذا المشروع، ولأن أقود هذه الحركة.

وفعلًا، كان سيدًا أعطي السيادة في الدنيا والآخرة، سيد شباب أهل الجنة، وسيد الشهداء، سيد الرموز، الرمز الحسيني رمزٌ هو سيد الرموز. أنت ترى في فلسطين وفي لبنان وفي مناطق كثيرة، صوت الحسين يدوّي، رمز الحسين يدوّي، جرح الحسين يدوّي، كلمة الحسين تدوّي، الحسين رمزٌ لكل شهيد، ورمزٌ لكل ثائر، ورمزٌ لكل بطل، فالحسين حاز على السيادة، صار سيدًا للشهداء، وسيدًا للثائرين، وصار قبره قِبْلةً للزائرين، ومقصدًا للوافدين.