في رحاب زيارة الأربعين

تحرير المحاضرات

من أفضل زيارات الإمام الحسين : زيارة الحسين يوم الأربعين من مقتله. زيارة الحسين يوم الأربعين الواردة عن الإمام الصادق نقف في هذه الزيارة على خمس فقرات.

الفقرة الأولى: السلام عليكم يا آل الله.

هنا قد يلتفت الذهن ليتساءل: كيف يكون الإنسان آلًا لله؟ الله «عز وجل» ليس جسمًا حتى يولِد وحتى ينجب، وهو القائل في كتابه: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، فإذا لم يكن جسمًا ينجب وينسل، فما معنى كلمة ”السلام عليكم يا آل الله“؟ هذه العبارة تحتمل معنيين:

المعنى الأول: تمظهر الصفات الإلهية.

آل الشخص هم الذين يمثلونه، آل فلان، أهل فلان، آله هم الذين يمثلونه. الإنسان يتمثل في آله، يتمثل في أهل بيته، آله هم الذين يرثون صفاته، هم الذي يرثون شمائله، هم الذي يرثون كفاءاته، الوراثة تفعل مفعولها، فآل الشخص هم الذين يمثلون صفاته وشمائله ومظاهره وأسماءه. أهل البيت هم المخلوقات التي تمثّل صفاتِ الله «عز وجل»، الله تجلى فيهم بما لم يتجل بغيرهم، الله «تبارك وتعالى» تجلت أسماؤه وصفاته في أهل بيت النبوة، وأهم صفتين تجلتا في أهل البيت صفة العلم وصفة الرحمة.

علمه «تبارك وتعالى» تجلى فيهم، وانحدر على ألسنتهم، ورحمته «تبارك وتعالى» تجلت في أفعالهم ومعاملاتهم مع الخلق، حيث كانوا يتعاملون مع الخلق معاملة الرحمة، معاملة الحنان، معاملة اللطف، معاملة الجذب، معاملة الاحتواء، معاملة الاستيعاب، إذن أهل البيت مظهرٌ لعلم الله، ومظهرٌ لرحمة الله، فبما أنهم مظهرٌ له، إذن فهم آله، ”السلام عليكم يا آل الله“ أي: مظهر صفات الله ومظهر أسمائه «تبارك وتعالى».

المعنى الثاني: ارتفاع الواسطة.

جميع البشرية عندما تريد أن تبتهل إلى الله، وعندما تريد أن تدعو الله «عز وجل» من أجل أن يغفر ذنوبها، ويفرّج غمومها، ويكشف همومها، البشرية عندما تريد أن تدعو الله، توسّط بينها وبين الله واسطةً، والواسطة هم أهل بيت النبوة ، أما أهل بيت النبوة فلا يحتاجون إلى واسطة، غيرهم من البشر يجعلهم واسطة بينه وبين الله من أجل غفران ذنوبه وستر عيوبه وكشف كروبه، ولكن أهل البيت لأن الله تجلى في قلوبهم، ولأن الله ظهر بنوره في أرواحهم، فإنهم لا يحتاجون إلى واسطة بينه وبينهم.

ولذلك، تقرأ في الأدعية الواردة عنهم: ”بك عرفتك وأنت دللتني عليك“، الإمام أمير المؤمنين يقول: ليس بيني وبينك واسطة، الخلق يتخذونني واسطة، أما أنا فلا أتخذ واسطة. الإمام الحسين في دعائه يقول: ”متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى كانت الآثار هي التي توصل إليك؟!“. إذن، نحن لبعدنا عن الله نتيجة ذنوبنا ومعاصينا نحتاج إلى الواسطة، أما هم فلأنهم أنواره، فلأنهم تجلياته، فلأنه تجلى وظهر في قلوبهم وأرواحهم، لا يحتاجون إلى واسطة بينهم وبينه.

ولذلك، تقرأ في زيارة الإمام الكاظم : ”لا فرق بينك وبينهم إلا أنهم عبادك“، أي: لا فرق بمعنى: لا فاصل، لا واسطة، لا توجد واسطة، لا يوجد فارق يحجبهم عنه، لا يوجد فاصل يفصلهم عنك، هم مقبلون ومنفتحون ومظهرون عليك من دون فاصل ولا واسطة، أما نحن فنحتاج إلى واسطتهم، ونحتاج إلى وسيلتهم، ولأجل أنهم لا يحتاجون إلى الواسطة فهم آل الله.

الفقرة الثانية: وراثة الأنبياء.

نلاحظ أن زيارة الأربعين تؤكّد على ما تؤكّد عليه سائر الزيارات، سائر الزيارات متضمنة لهذه الفقرة، وهي: ”السلام عليك آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث إسماعيل ذبيح الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمدٍ حبيب الله، السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين ولي الله“. كل الزيارات تتضمن فقرة الوراثة، أنت الوارث من آدم إلى الإمام أمير المؤمنين ، فلماذا التأكيد على هذه الوراثة؟ لا نجد هذا في زيارة الإمام الحسن، لا نجد هذا في زيارة الأئمة في البقيع، لا نجد هذا في زيارة الإمام الرضا. هذا تأكيدٌ على الحسين، أنت وارث آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والمرسلين، أنت الوارث، التأكيد على الوراثة لماذا؟

لأن الحسين اشترك مع الأنبياء أولي العزم وغيرهم في صفة التحدي، في صفة الإرادة، هذه الصفة التي ظهرت في الحسين واضح وبارز هي الصفة البارزة والواضحة على الأنبياء، نوح تحدى قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، آدم تحدى نمرود زمانه، موسى تحدى فرعون زمانه، عيسى تحدى يهود زمانه، النبي محمد تحدى صناديد زمانه، إذن صفة التحدي وقوة الإرادة، وعدم التنازل، وعدم الخنوع، وعدم التراجع، صفة برزت في الحسين بأروع صورها، بأجلى مظاهرها، ولذلك الزائر يؤكّد على هذه الصفة المشتركة، التي انحدرت من آدم، واتصلت بالحسين بن علي .

جده رسول الله يقول: ”لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله“، وأبوه أمير المؤمنين يقول: ”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت“، والحسين نفسه نفس التحدي، نسمه نسم التحدي، روحه روح الإرادة والتحدي، ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد“، ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة؛ يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون“.

الفقرة الثالثة: التأكيد على سلوك الحسين.

”أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وبررت والديك، وجاهدت عدوك“، لماذا التأكيد على هذه الصفات؟ هذا لا يختص بالحسين، أخوه الحسن أقام الصلاة وآتى الزكاة، وأبوه علي، وأبناؤه المعصومون، كلهم قاموا بذلك، فلماذا التأكيد على هذا الأمر؟ هذه الصفات لا تختص بالحسين ، بل هي موجودة حتى في غير المعصومين من أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، فلماذا هذا التأكيد؟

هذا يجرّنا إلى الإعلام والإعلام المضاد. الإعلام الأموي منذ أول يوم، بنو أمية التفتت كيف تطوّق ثورة الحسين، كيف تقضي على حركة الحسين، التشويه الإعلامي أفضل وسيلة للقضاء على حركة الحسين، بنو أمية رأوا أن أفضل وسيلة للقضاء على صوت الحسين هو التشويه الإعلامي، قالوا: الحسين شقَّ عصا الأمة، الحسين هو الذي فرّق الأمة، قبل الحسين لم يكن هناك طريقان: طريق يتعصب لأهل البيت، وطريق يتعصب لبني أمية، طريق يرفع لواء أهل البيت، وطريق يرفع لواءً آخر، الحسين شقَّ عصا المسلمين، الحسين فرّق كلمة المسلمين، الحسين أحدث فتنةً بين المسلمين... إلخ، فأرادوا أن يقضوا على حركته من خلال هذا الإعلام.

وإلى يومنا هذا، أنت عندما تقرأ بعض الأقلام الإسلامية تجدهم إلى الآن يكتبون عن الحسين أنه أحدث فتنةً، تلك الدماء الطاهرة، وتلك البطولة، وتلك الإرادة، وذلك التحدي الذي أظهره الحسين في مواجهة الظلم والطغيان، تصفه بعض الأقلام الإسلامية إلى الآن بأن الحسين أحدث فتنة في المجتمع الإسلامي، وفرّق كلمة المجتمع الإسلامي! هذا هو الإعلام الأموي الذي يمتد إلى الآن.

في مقابل هذا الإعلام، كان هناك إعلام مضاد لأهل البيت، أهل البيت لم تكن عندهم وسيلة إعلامية للتأكيد على أنَّ الحسين هو الذي حفظ أهداف محمد ، من الذي حفظ أهداف النبي؟! من الذي أبقى رسالة النبي رسالةً حيةً لا رسالةً ميتةً؟! لو لم يقم الحسين لبقيت الرسالة، ولكن رسالة ميتة، رسالة مقتصرة على الصلاة وعلى الصوم وعلى الحج وعلى الزكاة، الحسين أراد أن تبقى الرسالة حيةً لا أن تبقى ميتةً، أراد الحسين أن تكون رسالة النبي رسالةً حيةً، رسالة فيها عنفوان، فيها نبض، فيها حركة، فيها إرادة، فيها تحدٍ، فيها مواجهة، أراد أن تبقى رسالة جده مع عنفوان، مع حياة، مع النبض، لا أن تبقى ميتة، لا أن تبقى متخاذلة، لا أن تبقى متراجعة، أراد الحسين أن يبعث فيها الحياة.

إذن، كما ورد عن الرسول محمد : ”حسينٌ مني وأنا من حسين“، أنا ببركة الحسين بقيت رسالتي، لولا الحسين لما بقيت رسالتي، ولولا صوت الحسين لما استمر صوتي، ولولا دم الحسين لما ارتفع لوائي، كل ذلك بفضل الحسين. إذن، الأئمة ما كانت عندهم وسيلة إعلامية لثورة الحسين غير هذه الزيارات، لماذا يحث الأئمة على الزيارة؟ لماذا يقولون: ”زر الحسين ولو عن خوف“، ”زر الحسين ولو قيل فيك ما قيل“، ”من زار الحسين كان كمن زار الله في عرشه“، ”من زار الحسين أظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله“، ”زر الحسين فإن لك بكل خطوة حجةً مبرورة“؟! لماذا هذه الزيارات الكثيرة التي هي ليست موجودة في زيارة الإمام علي ولا في زيارة أحد من أهل البيت؟!

لأنها كانت وسيلة إعلامية، زيارة الحسين كانت وسيلة إعلامية، أهل البيت علموا بأنهم إذا حثوا الناس على زيارة الحسين، وقالوا لهم: زوروا الحسين ولو قُتِلتُم، ولو قُطِعَت كفوفكم، ولو نُكِّل بكم، ولو أُخِذت أموالكم، زوروا الحسين وارفعوا الشعارات التي نعلّمكم إياها، الشعارات التي نعلّمكم إياها، الشعارات هي أن تقفوا متحدين الأعداءَ وأن تقولوا: ”أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وبررت والديك، وجاهدت عدوك“، أي أنك بثورتك تحققت هذه الأمور، لا أن بثورتك حصلت فتنة بين المسلمين.

هذا إعلام مضاد، بثورتك أقيمت الصلاة، بثورتك أعطيت الزكاة، بثورتك أُمِر بالمعروف، بثورتك نُهِي عن المنكر، بثورتك قام الجهاد، ثورتك هي التي حقّقت هذه الأهداف كلها، هي التي حقّقت هذه الرسالات كلها، ”أشهد أنك قد أقمت الصلاة“ ليس بمعنى أنه كان يصلي! بل أشهد أنك أقمت الصلاة بثورتك، بهذه الثورة أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، بهذه الثورة المباركة تحققت هذه الأهداف حيةً فاعلةً رغم أنوف بني أمية، هذا هو الإعلام المضاد للإعلام الأموي الذي نصبه أهل البيت من خلال الزيارات المتتالية التي ذكرها الإمام الصادق .

ولهذا، من الغريب أن تجد بعض الأقلام - حتى بعض الأقلام الشيعية - تقول: الإمام الصادق كان بعيدًا عن السياسة، ولا علاقة له بالسياسة، وإنما كان متفرغًا للعلم ومتفرغًا لتدريس الطلاب! هذه أليست سياسة؟! هذه الزيارات التي صدرت عن الإمام الصادق، يتحدى فيها الإعلام الأموي، يتحدى فيها الإعلام العباسي، يحث الزوّار وإن قُتِلوا! نحن إذا قرأنا الروايات الواردة عن الإمام الصادق في زيارة الحسين لا نجدها قد نُقِلت عن إمام آخر، الإمام الصادق يحث الزوّار على زيارة الحسين وإن قُتِلُوا، وإن قُطِعَت كفوفهم، وإن نُكِّل بهم، وإن حدث بهم ما حدث، فأي سياسة أعظم من هذه؟! كان مواجهًا مواجهةً مبطّنةً، مواجهةً يعرفها من يتأمل فيها. الإمام الصادق بهذه الزيارات، وبهذه الكلمات، هو الذي أبقى ثورة جده الحسين حيةً خالدةً متحركةً متجددةً.

الفقرة الرابعة: أشهد أنك تسمع الكلام وترد الجواب.

أنت لست ميتًا كما تقول بعض الأقلام الإسلامية، أنت تراب! أنت رفات! أنت ميت! لا تسمع! لا تتكلم! لا تحكي! لا، ”أشهد أنك تسمع الكلام، وترد الجواب“. ذكرنا في محاضرات في سنين سابقة أنَّ الشهداء «صلوات الله عليهم أجمعين» يتمتّعون بحياة برزخية لا يتمتّع بها غيرهم، كل إنسان إذا مات يحصل على حياة برزخية، الإنسان يموت جسده، أما نفسه فهي تفارق هذا الجسد، وتتصل بجسد آخر، بجسد مثالي، تفارق الجسد المادي، وتتصل بعالم المثال، تصحب معها جسدًا مثاليًا، وتعيش في عالم البرزخ، إما في رضوان الله، وإما في الشقاء، حسب أعمالها.

إذن، كل نفس تحيا، ولكن هناك درجةً من الحياة في عالم البرزخ ليست إلا للشهداء، ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ، حياة الشهداء في عالم البرزخ حياةٌ اتصاليةٌ وليست حياةً انفصاليةً، الميت العادي إذا مات يحيا في عالم البرزخ، لكن حياة انفصالية، أي: يعيش في عالم منفصل عن عالم الأرض، منفصل عن عالم الناس، هو يعيش ويحيا، ولكن حياة انفصالية، منفصلة عن عالم الأرض، منفصلة عن عالم الناس، الإنسان بعد موته إذا أراد أن يعلم ماذا يجري على الأرض يحتاج إلى واسطة الملائكة، يحتاج إلى واسطة الصدّيقين والشهداء، لكي يعلم ما يجري على الأرض، لكي يعلم ما يجري على عشيرته.

أما الشهداء، فإنهم يحيون حياةً متصلةً بالأرض، كأنهم يمشون على الأرض ونحن لا نشعر بهم، كأنهم يخالطوننا ونحن لا نحس بهم، القرآن يقول: ﴿وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ أي: هم معكم لكنكم لا تحسون بهم، حياتهم البرزخية حياة اتصالية، يتصلون بالأرض، يعرفون قضايا الأرض، يعرفون هموم الأرض، ولكن لا تشعرون. لذلك، الشهيد يسمع الكلام ويرد الجواب أيضًا، الشهيد لا يحتاج إلى أن يتوسط ملكٌ بينه وبين الإنسان، يسمع الكلام بنفسه ويرد الجواب بنفسه، فهو وإن مات جسده، لكنه حيٌ بحياة برزخية اتصالية. ”أشهد أنك تسمع الكلام وترد الجواب“، تجيب من يسلِّم عليك، وتجيب من يزورك.

الفقرة الخامسة: زرتُك مشتاقًا.

لا بد من أن تقولها وأنت على إحساس، حتى يكون الكلام صادقًا، وإلا يكون الكلام كاذبًا، أنا أقول: ”زرتُك مشتاقًا“ وأنا أصلًا غير متفاعل مع الزيارة، وغير ملتفت إلى الزيارة، وغير ملتفت إلى مضامين الزيارة! يكون الكلام كذبًا، لا بد من أن تلتفت إلى ما تقول، هل هناك شوق في قلبي لزيارة الحسين؟! هل هناك حب في قلبي لزيارة الحسين؟! هل هناك انفعال في قلبي لزيارة الحسين؟! لا بد أن أؤكد، لا بد أن أسأل نفسي، حتى أحرك الشوق، وأحرك الوجدان، وأحرك الرغبة، نحو الحسين، نحو قبر الحسين، نحو ضريح الحسين.

”زرتك مشتاقًا“، مشتاق إلى ماذا؟ أولًا: أنا مشتاق للثواب الذي وهبه الله لزوّارك، وثانيًا: أنا مشتاقٌ إلى أن أتصل بك، كيف أتصل بك؟ أنا هنا بعيد عنك، فأنا أتصل بمأتمك، أتصل بأنفاسك المباركة التي نفثتها في جميع المآتم، وفي جميع المجالس، ولكن إذا وصلت إلى قبرك فأنا أتصل بك، لأني في الأجواء التي أنت فيها، لأني في الظلال الذي أنت فيها، لأني في المكان الذي أنت فيه.

تصوّر أنك قد تزور الحسين في الدنيا أكثر مما تحصل عليه من زيارته في الآخرة، فقد يجد الإنسان بينه وبين الحسين درجات كبيرة، قد يدخل الإنسان الجنة، ولكن قد لا يصل إلى الحسين؛ لأن بينه وبين الحسين درجات كبيرة، ومراتب كثيرة، لا يستطيع أن يصل، ليس عنده رصيد يوصله إلى الحسين، ليس عنده رصيد يوصله إلى مرتبة الحسين، فهو يدخل الجنة، لكن بينه وبين الحسين درجات ومقامات كثيرة.

وأما في الدنيا فيستطيع أن يصل إلى مكانٍ فيه جسد الحسين، وفيه روح الحسين، وفيه نفس الحسين، وفيه الحسين كله، وذلك إذا وصل إلى تراب كربلاء، فإنه إذا أمسك الضريح بيده فقد أمسك بظل الحسين، وأمسك بأجواء الحسين، وأمسك بأنفاس الحسين، إذا وصل هناك وصل مقامًا قد لا يستطيع الوصول إليه حتى في الآخرة، ولذلك ورد في الزيارة: ”من زار الحسين فكأنما زار الله في عرشه“، هذا هو عرشه، هذا هو ظله، هذا هو مظهر صفاته، هذا هو مرآة أسمائه، أنت وصلت إلى ما وصل إليه الملائكة المسبّحون.

الاتصال بالحسين، زرتك مشتاقًا إلى النفس الحسيني، مشتاقًا إلى الروح الحسينية، مشتاقًا إلى أن أكون مع زوارك هذا اليوم، أصرخ وأبكي وأنحب وألطم وأندب وأتفجع وأتأسف وأتحسر، زرتك مشتاقًا إلى هذه الصرخات، مشتاقًا إلى هذه الدموع، مشتاقًا إلى هذا الندبة، مشتاقًا إلى هذا الحنين، مشتاقًا إلى أن أكون مع جابر، مع أهل البيت، مع كل شخص حول قبرك.