الدمُ الثائر في الطفوف، كلمة بمناسبة ميلاد الإمام الحسين (ع)

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على الحسين الشهيد، وجده، وأبيه، وأمِّه، وأخيه، والتسعة المعصومين من بنيه، وبعد:

فقد عنيت روايات أهل البيت بدم الحسين، وآل الحسين ، بشكل لا نظير له، بالنسبة لأي عضو، أو مادة جسمانية أخرى، ولأي إمام آخر، وهذا ما نستوحيه من عدة مقاطع من النصوص الشريفة.

المقطع الاول:

ما دلَّ على أنَّ دمَ الحسين قد سكن الجنة، حيث ورد في الزيارة: «أشْهَدُ أنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الخُلْدِ» «1».

وهذا يحتمل ثلاثة معاني:

- الأول: العناية الربانية بجسمه الشريف.

وبيان ذلك؛ أنَّ لأجسام أهل البيت خصوصيةٌ ملكوتيةٌ، تستفاد مما ورد في الدعاء المبارك: «وَالسَّلامُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ» «2»، وماورد في زيارة الجامعة: «أجْسَادُكُمْ فِي الأجْسَادِ، وَأنْفُسُكُمْ فِي النُّفُوسِ» «3»، وتلك الخصوصية الملكوتية؛ أنَّ البُنية الكاملة لأجسادهم الشريفة لا تقبل الفناء والتلاشي في التراب، لما استودع فيها من اليمن والبركة، ويؤكد ذلك بقاء شعيرات من شعر الرسول إلى يومنا هذا في سوريا، ومصر، وما ذكره المؤرخون من بقاء رأس الحسين غضّاً طرياً لما بعد أربعين يوماً من شهادته، وكل ذلك يرشدنا إلى أنَّ الله - عزَّ وجلّ - حفَّ الحسين بعنايته؛ بأن جعل دمه، وجسمه، موضعاً للإعجاز، والآيات الباهرة، الدالة على صدق ثورته، وحقّانية إمامته، فكان من الآيات الدالة على ذلك في عالم الدنيا؛ أن أبقى رأسه غضّاً طرياً بعد موته، ومن الآيات الدالة على ذلك في الآخرة؛ أنَّه احتفظ بدمه غضّاً طرياً، ولم يجعله معرضاً للفناء والزوال، بل لم يحفظه في التراب؛ لأنَّ مكانه اللائق به موضع آخر، وإنما حفظه في جنة الخلد شعاراً لتقديس ثورته، ورمزاً لصدق دعوته.

- الثاني: بيان عظمة مدفن الحسين .

وبيان ذلك؛ أنَّ بعض البقاع مع كونها من الأرض بالمنظور المادي، إلا أنَّها - بالمنظور الأمري الغيبي - قطعةٌ من جنة الخلد، نظير ما ورد عن الرسول : «ما بين قبري ومنبري روضةٌ من رياض الجنة» «4»، فهذا الموضع - بنظرٍ حسيٍّ - هو من الأرض، ولكنه بنظر غيبي؛ هو جزءٌ من الجنة، لا ظاهراً، ولا مجازاً، بل واقعاً وحقيقةً، فمن دخله دخل الجنة، وإن كان في الدنيا، فكذلك أريد من هذه الفقرة؛ بيان أن البقعة التي احتضنت دم الحسين في كربلاء هي قطعةٌ من جنة الخلد، واقعاً وحقيقة، ولذلك ورد مرسلاً: «أن الله - سبحانه وتعالى - عوَّض الحسين من قتله بأربع خصال: «جعل الشفاء في تربته، وإجابة الدعاء تحت قبته، والأئمة من ذريته، وأن لا يعدّ أيام زائريه من أعمارهم» «5».

- الثالث: تجسم العمل.

وبيانه؛ أنه ذكر بعض علماء العرفان، أنَّ العمل الصادر من الإنسان في الدنيا يتجسم في الآخرة، بما يتناسب مع حقيقة العمل نفسه، استناداً لظاهر قوله - تعالى -: «إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «6»، وقوله - تعالى -: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» «7»، وقوله - تعالى - «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «8»، بناءً على حملها على رؤية العمل في الآخرة، فالصلاة - مثلاً - قد تتجسد نهراً في الجنة، والمعصية قد تتجسد لهيباً في النار، وحيث أنَّ من أعظم الأعمال وأجلّها ما يبذله الشهيد من دمٍ في سبيل الله؛ أوجب ذلك أن يتجسد الدم المبذول لمادة فردوسية، فكيف بأطهر دمٍ أُريق في أعظم ملحمة سماوية، فداءً للدين وإحياءً للشريعة، وهو دم الحسين ، فإنَّ ذلك منشأٌ لتحول الدم الطاهر إلى زينة يتزين بها الأنبياء، والأوصياء، والشهداء في الجنان. هذا ما يتعلق بالمقطع الأول من النصوص.

المقطع الثاني:

ما ورد في الزيارة في وصف حال الوجود، كما في قوله : «يا أبا عبد الله، أشهد لقد اقشعرت لدمائكم أظلة العرش، مع أظلة الخلائق، وبكتكم السماء والأرض، وسكان الجنان والبر والبحر» «9».

وهذا يظهر تفاعل الوجود بجميع عوالمه مع دم الحسين ، فهناك عوالم أربعة:

1 - عالم العرش: وهو عالم الحقيقة المحمدية؛ التي هي مجموعة الأنوار المعصومية، التي عبرت عنها الزيارة الجامعة: «خلقكم الله أنواراً، فجعلكم بعرشه محدقين» «10».

2 - ويليه؛ عالم الجبروت: وهو عالم العقول الكلية؛ وهو ظل لعالم العرش، ويمكن التعبير عنه ب ”أظلة العرش“.

3 - ويليه؛ عالم المثال: وهو متضمن لأمثلة نورية، تمثل جميع أنواع المخلوقات، وقد عبرت عنه الزيارة ب ”أظلة الخلائق“.

4 - ويليه؛ عالم المادة: وقد عبرت عنه الزيارة: «وبكتكم السماء والأرض»، والمستفاد من هذه الفقرة: أن جميع الكون - بكل عوالمه - تصدع، واقشعرَّ، لإراقة أشرف دمٍ على الأرض، من عالم العرش، إلى عالم الأظلة، إلى عالم المثال، وعالم المادة، لعظم الفاجعة من جهة، ولكون الحسين حجة الله في الكون، للكون كله، وإماما لكل عوالم الوجود من جهة أخرى، وهناك ارتباطٌ وجوديٌّ، بين الحجة والإمام، وبين كل مأموم به، وهي كل ذرة من ذرات الوجود، بحيث لو أُصيب بشيءٍ لأصاب الوجود اضطراب، وهو مضمون ما ورد عن أبي جعفر ، قال: سمعته يقول: «لو بقيت الأرض يوماً واحداً بلا إمام منا؛ لساخت الأرض بأهلها» «11»، وهذا يتطابق مع ما ورد من الروايات، حتى في كتب أهل السنة، كما في الصواعق المحرقة: ”عن أبي نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة، عن نصرة الأزدية، أنها قالت: لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دماً، فأصبحنا وجبابنا وجرارنا مملوءةً دماً، وكذا روي في أحاديث غير هذه، ومما ظهر يوم قتله من الآيات أيضاً؛ أنَّ السماء اسودت اسوداداً عظيماً، حتى رؤيت النجوم نهاراً، ولم يرفع حجرٌ إلا وجد تحته دمٌ عبيطٌ“ «12».

المقطع الثالث:

ما ورد في اتصال المادي بالمجرد، وهو ما رواه الرواة، لما قتل الطفل الرضيع، أخذ الحسين بدمه فرمى به إلى السماء، فما رجعت منه قطرة!!

وهنا يأتي السؤال: أنَّ الدم شيءٌ ماديٌّ، وعالمَ السماء الغيبي عالمٌ مجردٌ، فكيف يتصل المادي بالمجرد؟

والجواب: أنَّ كل موجود له بعدان: بُعْدٌ ماديٌّ، وبُعْدٌ تجريديٌّ، كالنطفة التي تملك البعدين، فمن خلال البعد المادي تتطور، وتصبح جسداً، ومن خلال البعد التجريدي تصبح عقلاً وفكراً، وإذا سار الإنسان في الحياة فإن اتخذ البعد المادي وسيلةً يُخْضِعُها للبعد المجرد؛ كان نوراً، وإن اتخذ البعد المجرد وسيلة لأهداف البعد المادي؛ كان ظلمةً، قال - تعالى -: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا» «13»، وقال - تعالى -: «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا» «14»، وإذا ركز الإنسان على البعد المجرد، وتمحض في تصفية النفس وتهذيبها، واعتبر المادة والبدن وسيلةً، للتخلية، والتحلية، والتجلية؛ سوف يصبح كلمة من كلمات الله، ومن معالم كلمات الله الصعود والاتصال بعالم المجردات، قال - تعالى -: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» «15»، وحيث أنَّ عيسى بن مريم كلمة الله، كما قال - تعالى -: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ» «16»؛ لذلك ارتفع للسماء بجسمه المادي، وحيث أنَّ النبي محمداً كان أبرز الكلمات التامات؛ عرج بجسمه للعرش، وصلى بالأنبياء عند سدرة المنتهى، وإذا ركز الإنسان على البعد المادي، وعلى إشباع بطنه، وجيبه، وشهوته، كان ممن يهوي إلى الأرض، دون أن يصعد للسماء، كما في قوله - تعالى -: «وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى» «17»، وبما أنَّ دم الطفل الرضيع دمٌ يتضمن الطهارة والتجرد من كل الشوائب الدنيوية؛ كان مصداقاً للنور، والكلمة الصاعدة إلى السماء، والتي تلقفتها الملائكة بلهفة وشوق.

نسال الله - تعالى - أن يجعلنا من خدمة الحسين ، دنياً وآخرة، وأن يرزقنا شفاعته، إنه سميعٌ مجيبٌ.

(1) جامع الزيارات، ص364 .
(2) مصباح المتهجد، تعقيبات صلاة الصبح، ص207 .
(3) المزار، ص 533.
(4) من لا يحضره الفقيه، ج2، ص568.
(5) عدة الداعي، ص48.
(6) سورة الطور، آية16 .
(7) سورة الزلزلة، آية 7- 8.
(8) سورة التوبة، آية 105.
(9) إقبال الأعمال، ج3، ص342.
(10) المزار، ص529.
(11) دلائل الإمامة، ص436.
(12) الصواعق المحرقة، ص294.
(13) سورة الإنعام، الآية 122.
(14) سورة الملك، الآية 22.
(15) سورة فاطر، الآية 10.
(16) سورة النساء، الآية 171.
(17) سورة طه، الآية 81.