الدرس 99

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تقدم: أنّ القائلين بمسلك العلية اشكلوا على القائلين بمسلك الاقتضاء بأنّه على مبناهم من أنّ منجزية العلم الإجمالي معلقة على عدم الترخيص في أطراف العلم الاجمالي.

بناءً على هذا المبنى لا تتحقق المنجزية للموافقة القطعية، وذلك: لأنّ أدلة الترخيص تشمل أطراف العلم الاجمالي، أما بنحو الترخيص في الجامع، وأما بنحو الترخيص المشروط وقد ذكرنا فيما سبق تمامية هذا الإشكال والإيراد على القائلين بالاقتضاء، وإنما الكلام في أنّ أدلة الترخيص هل هي قائمة بلا معارض أم لا، حيث ادعي كما في كلمات الشيخ وحرر ذلك السيد الشهيد أنه لا يمكن التعويل على أدلة الترخيص كدليل أصالة الحل والبراءة والاستصحاب لإثبات الترخيص في الجامع أو الترخيص المشروط وذلك لوجود نصوص خاصة تدل على منجزية العلم الاجمالي، وقد سبق عرض هذه النصوص مفصلا، ولكن ذكرنا أنّ هذه النصوص لم يتم منها الا ما دلّ على اجتناب المائين المشتبهين والثوبين المشتبهين، وحينئذٍ إمّا أن يقال أن ظاهر هذه النصوص الإرشاد المحض إلى منجزية العلم الاجمالي، وبناءً على ذلك: فلا مانع من الترخيص في الجامع، أو المشروط، لأنّه إذا كان مفاد هذه النصوص مجرد الإرشاد فلا يزيد مفادها على المرشد إليه وهو حكم العقل وبما ان حكم العقل لا يمنع دلالة أدلة الأصول الترخيصية على الترخيص في الجامع أو الترخيص المشروط فكذلك هذه النصوص.

وأمّا إذا قلنا بأنّ ظاهر هذه النصوص المنجزية الشرعية بمعنى انها ليست في مقام الإرشاد فقط بل في مقام جعل وجوب الاحتياط في موارد العلم الاجمالي، فحينئذٍ يقتصر على مفادها وهو منجزية العلم الاجمالي في موارد الشك في الامتثال وفي الشبهة المحصورة الدفعية الأطراف الداخلة اطرافها في محل الابتلاء مع احتمال أن لقلة الأطراف دخلا في المنجزية فلا يكون فيها معارضة لأدلة الأصول العملية الترخيصية من حيث دلالتها على الترخيص المشروط أو الترخيص في الجامع في غير هذه الموارد.

فإن قيل: أنّ هذه النصوص التي دلت على منجزية العلم الاجمالي معارضة بنصوص دالة على الترخيص في مورد العلم الاجمالي، ومنها صحيحة عبدالله بن سنان السابقة: «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه».

قلنا: أنّ النسبة بين صحيحة بن سنان وهذه النصوص نسبة العموم والخصوص فهذه النصوص حيث إنّها وردت في الشبهة المحصورة دفعية الأطراف الداخلة في محل الابتلاء من موارد الشك في الامتثال، تكون أخص مفاداً من صحيحة بن سنان، وبالنتيجة: سيكون مفاد صحيحة بن سنان متطابقا مع مفاد الأدلة العامة كدليل أصالة الحل... ألخ.

ولكن، أشار الشيخ إلى نصوص أخرى تعاضد صحيحة بن سنان في الدلالة على الترخيص في العلم الاجمالي.

منها: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادٍ عَنِ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ أَبِي فَقَالَ إِنِّي وَرِثْتُ مَالًا وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ صَاحِبَهُ الَّذِي وَرِثْتُهُ مِنْهُ قَدْ كَانَ يَرْبُو وقَدْ أَعْرِفُ أَنَّ فِيهِ رِبًا وأَسْتَيْقِنُ ذَلِكَ ولَيْسَ يَطِيبُ لِي حَلَالُهُ لِحَالِ عِلْمِي فِيهِ وقَدْ سَأَلْتُ فُقَهَاءَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وأَهْلِ الْحِجَازِ فَقَالُوا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ بأن فِيهِ مَالًا مَعْرُوفاً رِبًا وتَعْرِفُ أَهْلَهُ فَخُذْ رَأْسَ مَالِكَ ورُدَّ مَا سِوَى ذَلِكَ وإِنْ كَانَ مُخْتَلِطاً فَكُلْهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فإن الْمَالَ مَالُكَ واجْتَنِبْ مَا كَانَ يَصْنَعُ صَاحِبُهُ فإن رَسُولَ اللَّهِ ص قَدْ وَضَعَ مَا مَضَى مِنَ الرِّبَا وحَرَّمَ عَلَيْهِمْ مَا بَقِيَ فَمَنْ جَهِلَهُ وَسِعَ لَهُ جَهْلُهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ فإذا عَرَفَ تَحْرِيمَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ ووَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِ الْعُقُوبَةُ إذا رَكِبَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا».

فيقال: أنّ مدلولها جواز اكل المال المختلط بالربا وهو واضح الدلالة على جواز اقتحام أطراف العلم الاجمالي ولكن اشكل على الاستدلال بهذه الرواية بوجوه:

الوجه الاول: اعراض الاصحاب كما ذكر في انوار الفقاهة، فقد أفتى الشيخ في المبسوط: «أنّ من ورث مالا مشتملا على الحرام فتارة يميز مقدار واخرى لا، فإن عرف مالكه رده إليه وإلّا تصدق به عنه، وإن لم يتميز مقداره اخرج الخمس تطهيرا له وإن عرف أن المقدار أكثر من الخمس احتاط في الزائد على الخمس»، وهذا من الشيخ نوع اعراض عن العمل بهذه الرواية.

الوجه الثاني: ما ذكره في روضة المتقين أنّ الاصحاب حملوا الرواية على فرض عدم العلم بوجود الربا في أموال المورث وإن علم أنه مرابي ولكن كما ترى أنّ هذا الحمل خلاف ظاهر الروايات حيث قال «وقد اعرف ان فيه ربا...».

الوجه الثالث: حمل الرواية على فرض جهل المورث بحرمة الربا، أي أنّ المورث وإن كان مرابيا لكنه ما كان يعلم بحرمة الربا بقرينة الذيل حيث قال: «فإن رسول الله قد وضع ما مضى... فمن جهل وسع له جهله حتّى يعرفه...».

فإنّ ظاهر تطبيق هذا الذيل على مورد السؤال أنّ المورث كان جاهلا بل بضميمة النصوص الأخرى يستفاد منها أنّ حرمة المال الربوي تكليفا ووضعا منوطة بالعلم بحيث يكون المال الروبي في حال الجهل بالحرمة لكان واقعا للمرابي.

فمنها: ما رواه عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ وأَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعاً عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الشَّامِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - ع - عَنْ رَجُلٍ أَرْبَى بِجَهَالَةٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَقَالَ أَمَّا مَا مَضَى فَلَهُ ولْيَتْرُكْهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَجُلًا أَتَى أَبَا جَعْفَرٍ فَقَالَ إِنِّي قَدْ وَرِثْتُ مَالًا وقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ يَرْبُو وقَدْ سَأَلْتُ فُقَهَاءَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وفُقَهَاءَ أَهْلِ الْحِجَازِ فَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ إِنْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِنْهُ شَيْئاً مَعْزُولًا تَعْرِفُ أَهْلَهُ وتَعْرِفُ أَنَّهُ رِبًا فَخُذْ رَأْسَ مَالِكَ ودَعْ مَا سِوَاهُ وإِنْ كَانَ الْمَالُ مُخْتَلِطاً فَكُلْهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فإن الْمَالَ مَالُكَ واجْتَنِبْ مَا كَانَ يَصْنَعُ صَاحِبُكَ فإن رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَضَعَ مَا مَضَى مِنَ الرِّبَا فَمَنْ جَهِلَهُ وَسِعَهُ أَكْلُهُ فإذا عَرَفَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ فإن أَكَلَهُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا وَجَبَ عَلَى آكِلِ الرِّبَا». فيقال: بأنّ مقتضى ذلك حمل الرواية على أنّ المورث كان جاهلا بحرمة الربا، وبالتالي فالمال الربوي ملكا له.

ولكن، هذا الوجه وإن كان له ورود ولو بمقتضى الجمع بين الرواية وبين رواية ابي الربيع الشامي التي يظهر منها أنّ المورد هو مورد الجهل، إلّا أنه مخالف لما هو المرتكز، بمعنى: أنّه لا يحتمل في زمن الباقر جهل مسلم لحرمة الربا مع التغليظ في الآیات منذ زمن النبي حتّى صار من الواضحات في زمن الباقرين ، فمقتضى ذلك الإرتكاز: ظهور الرواية إن لم يدعي نصيتها في أنّ المورث كان عالما.

الوجه الرابع: في الإشكال على الاستدلال بالرواية، ما ذكره سيدنا والسيد الأستاذ والشيخ الأستاذ من أنّ نظر هذه الرواية للحلية الواقعية إذا لم يعلم المورث الربا تفصيلا، أي أنّهم علموا بها في موردها، فقالوا إنّ هذه الرواية حجة في موردها، ومحصلها أنّ المورث وإن كان عالما بحرمة الربا وأنّ الاموال الربوية بمقتضى علمه لم تدخل في ملكه ولكن إذا وقلت هذه الاموال للوارث فإن كان الوارث عالما تفصيلاً بمورد الربا حرمت عليه ولزمه تسليمها وان كان عالما تفصيلا فهي حلال، حيث قال فكله هنيئا وظاهر ذلك الحلية الواقعية لا الظاهرية بحيث لو انكشف بعد ذلك ان ما اكله كان من المال الروبي لم يكن عليه ضمان اصلا.

والمنبه على ذلك الاطلاق المقامي لهذه الرواية، فإن من اوضح الآثار المترتبة على حيازة هذا الميراث المشتمل على الربا انه لو اشترى بالإرث كله داراً أو سلعة فإن مقتضى كون الحرمة أو الحلية ظاهرية انه وقع الشراء فضوليا في المقدار الربوي فلا يجوز له التصرف فيما قابل المقدار الربوي من الدار إذا كانت المعاملة بثمن شخصي كما ان من الآثار الواضحة لذلك انه لو اتلف الميراث لكان ضامنا لمالكه الواقعي الذي هو من تعامل بالربا مع المورث مع ان الرواية لم تنبه على هذه الآثار مع وضوحها فمقتضى الاطلاق المقامي للراوية ثبوت الحلية الواقعية وإذا كان مفاداها ان للمورد خصوصية بلحاظ جهل الوارث لمورد الربا تفصيلا لم يصح الاستدلال بها على منجزية العلم الإجمالي في مورده فلا تصلح للمعارضة مع النصوص السابقة كموثقة سماعة.

والحمدُ لله ربِّ العالمين