منطق ثورة الحسين وعظمة تربته

تحرير المحاضرات

ورد عن النبي محمد أنه قال: ”حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا، وأبغض الله من أبغض حسينًا. حسين سبط من الأسباط“

حديثنا انطلاقًا من الحديث الشريف في محورين:

  • في منطلق الثورة الحسينية.
  • وفي عظمة التربة الحسينية.
المحور الأول: منطلق الثورة الحسينية.

تناولت الأقلام المختلفة ثورة الحسين بتحليل منطلقاتها وأهدافها، فطُرِحَت نظريات ثلاث:

النظرية الأولى: تلبية نداء أهل الكوفة.

أن منطلق الثورة، والهدف الذي من أجله تحركت شرارة الثورة الحسينية، هو الاستجابة لنداء أهل الكوفة، بمعنى أن الحسين لو لم يكتب له أهل العراق، بأن أقبل علينا، فلقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وإنما تقبل على جند لك مجندة، لو لم تصل إليه مئات الكتب، لما تحرك، ولما أطلق ثورته، فإطلاقه لثورته كان مبنيًا على أساس تلبية نداء المضطهدين والمظلومين من أهل العراق من قِبَل الحكم الأموي آنذاك.

النظرية الثانية: رفض الإذلال.

هذه النظرية ترى أن منطلق الثورة الحسينية هو رفض الإذلال، الذي عبّر عنه الحسين بن علي عندما عُرِضت عليه بيعة يزيد بن معاوية من قِبَل والي المدينة، حيث قال: ”يا أمير، إنا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ويزيد رجلٌ فاسقٌ، شاربٌ للخمر، قاتلٌ للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله“، وقال في رواية أخرى: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك“. إذن، منطلق الثورة هو رفض الإذلال، الحسين بن علي رأى أن في بيعة يزيد كرجل فاسق معلن بالفسوق إذلالًا للأمة الإسلامية، وإذلالًا لموقع القيادة والإمامة، فانطلاقًا من رفض الإذلال أصدر ثورته المباركة.

هذه النظرية تقول: افترض أن الحسين لم تُعْرَض عليه البيعة، لو فرضنا أن يزيد بن معاوية ترك الخيار للحسين يبايع أو لا يبايع، ترك الأمر له من دون أن يفرض عليه البيعة، لو لم تُفْرَض عليه البيعة ما أطلق ثورته؛ لأن ثورته كانت مبنية على أساس رفض البيعة، فلو فرضنا أن يزيد لم يعرض عليه البيعة، وتركه وشأنه، لكانت مسيرته هي مسيرة أخيه الحسن الزكي «صلوات الله عليهما وعلى آلهما».

النظرية الثالثة: حركة الإصلاح.

منطلق الثورة هو حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الحسين بن علي صمّم على حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صمّم على حركة الإصلاح على كل حال، سواء عُرِضَت عليه البيعة أو لم تُعْرَض، سيخوض حركة الأمر بالمعروف على كل حال، سواء كتب له أهل العراق أم لم يكتبوا له، افترض أنه لم يكتب له أحد من أهل العراق، ولم يستجر به أحد، ولم يطلب أحد منه النصرة، مع ذلك سيخوض حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مصممٌ على خوض هذه الحركة على كل حال؛ لقوله : ”إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر“.

موقفنا من هذه النظريات:

إذن، عندنا نظريات ثلاث في تحليل منطلق الثورة الحسينية، ولكننا نذهب إلى نظرية رابعة، فنقول: الثورة الحسينية لها مراحل، ولها فصول، لكل مرحلة من مراحلها هدف، ولكل فصل من فصولها هدف مرسوم، رسمه الحسين، وعيّنه الحسين بن علي .

المرحلة الأولى: حركة الإصلاح.

في عصر الإمام الحسن، ما كان الإمام الحسن يتمكن من حركة الإصلاح. الجيش العراقي الذي كان يعتمد عليه الإمام الحسن آنذاك، طبعًا هذا الجيش الشعبي، لم يكن هناك جيش نظامي مهيأ، يعني الأمة التي كان الإمام الحسن يعتمد على عدتها وعتادها، الأمة آنذاك ما كانت مهيَّأ لحركة الإصلاح أبدًا.

أولًا: لعامل الملل. دبَّ فيهم الملل والسأم من الحروب والقتال والمواجهات، ولذلك بمجرد أن الإمام الحسن قال لهم: صالحت معاوية، قالوا: البُقيا البقيا يا بن رسول الله! أي: أبقِ علينا وعلى دمائنا وأموالنا. إذن، روح الملل والسأم قد دبت في المجتمع آنذاك، فلم تكن الفرصة، ولم تكن الأرض مهيأة لأي حركة إصلاحية.

ثانيًا: التشكيك في النوايا. الإشاعات والأراجيف دبت بالمجتمع العراقي آنذاك، بحيث ظهرت فئة تقول: الحكم لله لا لعلي ولا لمعاوية، شكّكت في أهداف الإمام علي، فضلًا عن أهداف غيره، ورأت أن القتال والمواجهة كان لطلب العرش والمركز، ولم تكن مواجهة إلهية، ولم تكن مواجهة مبدئية. إذن، الأمة التي كان الحسن يعتمد عليها، كانت تشكك في أهدافه، وتشكك في صدقه، وتشكك في نواياه، لذلك لم تكن الفرصة والأرض مهيأة لحركة الإصلاح.

من هنا، كانت حكمة الإمام الحسن أن يعطي الفرصة للأمة الإسلامية. أنتم لا تريدون حكم أهل البيت؟! نحن نعطيكم الفرصة، خذوا فرصتكم، الحكم لمعاوية، ولتأخذ الأمة فرصتها لتجرب حكم معاوية بنفسها لمدة عشرين سنة، ثم تقرّر بعد ذلك الخيار الصالح لها، لأنها جربت كل الخيارات، جربت حكم الإمام علي ، وجربت حكم معاوية، لما جربت كل الخيارات كانت الفرصة مهيأة ومعدّة لأن تقرّر الأمة بنفسها الخيار الصالح لها، فالإمام الحسن ترك الأمة وخيارها. لذلك، نحن اعتبرنا صلح الحسن تمهيدًا لثورة الحسين، لأن صلح الحسن عبّد الأرضية لثورة الحسين ولحركة الحسين ، الأمة بعد أن جربت الحكم الأموي أيام معاوية، اكتشفت مواطن الظلم والغدر والويلات، فأصبحت مهيأة لقبول هذا الصوت، صوت الإصلاح، وصوت التغيير.

إذن، المرحلة الأولى هي مرحلة حركة الإصلاح، وليست حركة قتالية، الحسين يقول: الآن بعد موت معاوية لا بد من إصلاح، إصلاح سياسي، إصلاح اجتماعي، إصلاح اقتصادي، حكم معاوية دمّر البنى كلها، ودمّر الأسس كلها، فلا بد من إصلاح للأوضاع، بما تنطوي تحته كلمة الإصلاح. هذا النداء - النداء التغييري - لا يعني القتال، لو أن الأمة استجابت بدون قتال لتمت حركة الإصلاح بدون أي قتال، لو أن يزيد استجاب لتمت الحركة بدون أي قتال. إذن، حركة الإصلاح كانت حركة جذرية ضرورية صمّم عليها الحسين بن علي مهما كانت الأمور.

المرحلة الثانية: رفض البيعة.

في الخطوة الثانية من الثورة، عُرِضَت عليه البيعة، فرفضها. الحسين هو الإمام الوحيد الذي عُرِضَت عليه البيعة المفضية للشرعية، لا يوجد إمام عُرِضَت عليه البيعة أبدًا. الإمام الحسن ما طلب منه معاوية أن يبايعه، إنما عرض عليه أن يترك الأمر له، فترك الأمر له بشروط اثني عشر معروفة في وثيقة الصلح. الإمام الرضا عُرِضَت عليه ولاية العهد، قبلها بشرط ألا يضفي أي شرعية على الدولة العباسية آنذاك، بشرط ألا ينصب ولا يعزل ولا يقر ولا يبرم، وقبل المأمون منه ذلك. إذن، الإمام الوحيد الذي حُصِر في الزاوية، وعُرِضَت عليه البيعة القسرية لحاكم زمانه على أن يبايع بيعةً تضفي المشروعية على الدولة آنذاك هو الإمام الحسين .

هنا، انتقلت الحركة من حركة إصلاح إلى حركة مواجهة، لو لم تُعْرَض عليه البيعة لكانت حركة الإصلاح حركة سلمية، يخوضها الحسين بن علي ، لكن بعد أن عُرِضَت عليه البيعة، الأمويون هم الذين قلبوا الطاولة، هم الذين غيّروا الظرف والمرحلة من مرحلة سلمية إلى مرحلة مواجهة، لما عُرِضَت عليه البيعة، أصبحت القضية تتطلب موقفًا حازمًا من بيعة يزيد، لأن في بيعة يزيد إذلالًا للأمة الإسلامية، ولموقع الإمامة والقيادة، فالإمام الحسين انتقل إلى الهدف الثاني، من حركة الإصلاح إلى حركة رفض الإذلال للأمة الإسلامية، ولموقع الإمامة والقيادة.

المرحلة الثالثة: تبلية نداء أهل الكوفة.

بعد ذلك، كتب إليه أهل الكوفة، مسألة كتابة أهل الكوفة ما شكّلت أي أساس للثورة، هو الحسين أرسل إليهم مسلمًا لا أكثر، لو لم يكتبوا إليه لما أرسل إليهم مسلمًا فقط، الحسين تعامل مع هذه الكتب معاملة ظاهرية، صحيح أن الإمام الحسين يعلم بأن هذه الحركة لن تتم، وبأن مسلمًا ستُطَوَّق حركته وسيُجْهَز عليه، يعلم الحسين بذلك، لكنه كإمام وكقائد وظيفته أن يتعامل مع الأمور بظواهرها، لا أن يتعامل مع الأمور بعلمه الغيبي، تعامل مع الأمور بظواهرها، استجاب فأرسل مسلم بن عقيل ، وهذا ما ورد عن أبيه الإمام علي: ”لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما فرض الله على العلماء، ألا يقاروا على سغب مظلوم، ولا على كظة ظالم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من ورقة في فم جرادة تقضمها“.

إذن، كتابة أهل الكوفة ليست له أي علاقة في الثورة. كتابة أهل الكوفة استدعت من الحسين أن يرسل مسلمًا، لو لم يُكْتَب إليه لما أرسل مسلمًا، لا أكثر ولا أقل، وإلا حركة الإصلاح ستبقى على ما هي عليه كُتِب إليه أم لم يُكْتَب. إذن، كتابة أهل الكوفة تدخلت في فصل معين من فصول الثورة، ألا وهو فصل إرسال مسلم بن عقيل إلى العراق آنذاك.

المرحلة الرابعة: الدفاع عن النفس.

الحسين هو اختار مكان قتله، وهو اختار زمان قتله. قتله كان حتميًا، لم يكن له خيار حتى يختار يُقْتَل أو لا يُقْتَل، هو يُقْتَل على كل حال، الأمر صدر من قِبَل الحكومة الأموية: أينما وجدتم الحسين فاقتلوه ولو كان متعلقًا بأستار الكعبة. مسألة قتل الحسين حتمية، ما كان بيده أنه يخيّر يُقْتَل أو لا يُقْتَل أبدًا. إنما مكان قتله كان بيده، زمان قتله كان بيده، لم يكن مخيّرًا في القتل، القتل حتمي، ”إن لك لدرجةً في الجنة لا تنالها إلا بالشهادة“، المسألة مسألة الزمان والمكان، الحسين اختار الزمان واختار المكان.

اختار الزمان يوم عاشوراء، أنت إذا راجعت فصول القصة تجد أن المعركة كادت أن تحدث يوم تاسع، كل الجيش استعد للمواجهة يوم التاسع من المحرم، الحسين أجّلها ليوم العاشر، طلب من عمر بن سعد تأجيل المواجهة ليوم العاشر، وبعد محادثات وأخذ ورد استجاب عمر بن سعد، أجّل المعركة إلى يوم العاشر، وإلا الظروف اقتضت أن تقع المعركة يوم التاسع من المحرم. الحسين هو الذي اختار زمان قتله؛ لأنه يعرف أن يوم العاشر يومٌ مباركٌ، يومٌ نُجِّي فيه موسى بن عمران، ووقفت فيه سفينة نوح، واستجاب الله فيه توبة آدم، ونجّى الله فيه إبراهيم الخليل، فكان يومًا قدسيًا مباركًا، أراد الحسين أن يكون عروج روحه إلى بارئها في هذا اليوم، في يوم حفل بتاريخ الأنبياء، وحفل بقدسية الأنبياء، فأخّر المعركة والمواجهة إلى يوم العاشر من المحرم، هو اختار الزمان.

وهو اختار المكان أيضًا. الحسين كان بإمكانه أن يواجه في المدينة، في مكة، في اليمن، في البصرة، في أي مكان آخر، هو اختار هذا الموقع، ألا وهو كربلاء المشرفة، كربلاء كانت معابد، من زمن اليونان كانت معابد لله، أرض كربلاء كانت معبدًا لله من زمن اليونانيين، وبها مقامات للأنبياء والمرسلين قبل حركة الحسين، وقبل مجيء الحسين ، بل إن في الروايات أن إبراهيم الخليل «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام» أقام بكربلاء مدةً من عمره. إذن، كربلاء موطن مقدس من قبل حركة الحسين ، فأراد الحسين هذا المكان المقدّس ليضفي إليه قدسيةً أخرى، وعظمةً أخرى، بدمه الشريف المبارك.

الحسين يوم عاشوراء ما بدأ الحرب، ولا اختار القتال، ولو فرضنا أن المعادلة تغيرت يوم عاشوراء، لو فرضنا أن يزيد مات يوم عاشوراء، أو عبيد الله بن زياد قُتِل، يعني صار تغير في المعادلة، لما حصل قتالٌ البتة، ولكانت حركة الإصلاح التي أرادها الحسين تسير على نظام سلمي بحت، لكن القتال فُرِض عليه يوم عاشوراء، فاختار القتال دفاعًا عن النفس، ”ألا وإني زاحف بهذه الأسرة، مع قلة العدد، وخذلان الناصر“.

إذن، الثورة مرت بخطوات: الخطوة الأولى: تغيير الوضع وإصلاح الأوضاع، الخطوة الثانية: أنه عُرِضَت عليه البيعة فاختيار رفضها حفاظًا للأمة الإسلامية عن الإذلال، والمرحلة الثالثة: أن أهل الكوفة كتبوا إليه، فأرسل إليهم مسلم بن عقيل تلبيةً لندائهم، والمرحلة الرابعة أنه فُرِض عليه القتال يوم عاشوراء، فقاتل دفاعًا عن النفس. إذن، هناك أهداف اجتمعت، لكل مرحلة هدف، ولكل خطوة هدف.

المحور الثاني: عظمة التربة الحسينية.

تربة كربلاء، هذه التربة التي اختارها الحسين موطنًا لجسمه المبارك الشريف، هذه التربة العجيبة الغريبة، الروايات الكثيرة وردت في أهمية هذه التربة المباركة، نذكر بعض الروايات وبعض الآثار المتعلقة بهذه التربة المباركة.

الأثر الأول: أنها حرزٌ وأمانٌ من الخوف.

في موثقة بشير الدهان عن الإمام الصادق : ”إن طين قبر الحسين شفاءٌ من كل داء، وأمانٌ من كل خوف“، وفي معتبرة الحارث النضري يسأل الإمام الصادق : إن بي داءً وقد تداويتُ عنه بكل دواء فلم ينفع معي دواء. قال: ”أين أنت عن طين قبر الحسين؟! فإنه شفاءٌ من كل داء، وأمانٌ من كل خوف. يا حارث، من خاف سلطانًا أو شيئًا من ذلك فلا يخرج من منزله إلا ومعه بعضٌ من طين قبر الحسين؛ فإنه أمانٌ وحرزٌ مما يخاف ومما لا يخاف“.

ولذلك، فقهاؤنا استفادوا من هذه الرواية أنه يستحب وضع التربة مع الميت؛ فإن التربة مع الميت أمانٌ من كل خوف، هذا الميت يأمن من المخاوف التي تعترضه في مسيرته البرزخية المرعبة الرهيبة، إذا وُضِعَ شيءٌ من التراب معه كانت أمانًا لهذا الميت من هذه المخاوف البرزخية التي تمر على الميت في قبره.

الأثر الثاني: الاستشفاء بطين قبر الحسين بمقدار الحمصة.

المريض - لا المعافى - بمقدار الحمصة لا أكثر يأخذ فيضعها في ماء ويقرأ عليه دعاء - كدعاء التوسل بأهل البيت - فيشرب فيكون شفاءً له. ورد في موثقة سماعة بن مهران عن الإمام الصادق : ”أكل الطين كله حرام، إلا طين قبر جدي الحسين؛ فإن فيه شفاءً من كل داء“، وفي رواية أخرى: ”فإنه ما أكله من به وجعٌ إلا شفاه الله“.

الأثر الثالث: التسبيح.

عندنا رواية معتبرة في عدة مصادر عن الصادق : ”من كانت له سبحةٌ من طين قبر الحسين فسبّح بها كُتِب له ثوابُ ألف حاج“، وفي رواية أخرى: ”من كانت له تربةٌ من طين قبر الحسين كُتِب مسبِّحًا وإن لم يسبِّح بها“.

الأثر الرابع: السجود على التربة الحسينية.

عندنا روايات متواترة في استحباب السجود على تربة الحسين ، أهمها هذه الرواية: معتبرة معاوية بن وهب: كان للإمام الصادق ديباجةٌ - أي: خرقة - صفراء فيها تربة الحسين ، فكان إذا حضر وقت الصلاة صبّها على موضع سجوده، فسجد عليها، وكان يقول: ”السجود على تربة الحسين يخرق الحجب السبع“. من هنا، رأى العلماء استحباب السجود على تربة الحسين .

الأثر الخامس: التخيير بين القصر والتمام.

من الاثار المهمة لهذه التربة الشريفة أن المسافر مخيّر بين القصر والتمام. أنتم تعلمون أن المسافر الذي يقطع أربعة وأربعين كيلوًا - ولو ذهابًا وإيابًا - ولم يقصد الإقامة عشرة أيام في موطن سفره، هذا المسافر حكمه القصر، إلا في مواطن أربعة: مكة والمدينة.. على خلاف بين الفقهاء، السيد الخوئي يقول: خصوص مكة القديمة، خصوص المدينة القديمة، الفقهاء الآخرون - كالسيد السيستاني - يقولون: كل مكة وكل المدينة، ولو المناطق الحديثة منها، هذا خلافٌ بينهم في سعة عنوان مكة وعنوان المدينة.

والموضع الثالث هو مسجد الكوفة، وهو مسجد الإمام أمير المؤمنين ، بعض الفقهاء يتعدى لكل مسجد صلى فيه المعصوم، كالإمام علي ، كالمسجد الموجود في البصرة الذي صلى فيه الإمام علي ، أو المسجد الموجود في بغداد المسمى بمسجد براثا، بعض الفقهاء يتعدى لكل موطن صلى فيه الإمام المعصوم، هذا الحكم يسري إليه. على أي حال، الموطن الرابع هو الحائر الشريف، حائر قبر الحسين، وسمّي الحائر لأن المتوكل العباسي لما أمر بحرث القبر الشريف، وإرسال الماء عليه لأجل إزالته وطمس آثاره، أُجْرِي الماء على القبر، فلما وصل الماء إلى منطقة، صار يحار، ولم ينفذ الماء منها، الماء وقف، ولم ينفذ إلى تلك المنطقة، تلك المنطقة المحيطة بالقبر التي لم ينفذ الماء منها سمّيت بمنطقة الحائر، أو بمنطقة الحَيْر كما في بعض الروايات.

وهذا ليس غريبًا، بل إلى اليوم الموجود، إلى الآن موجود في سرداب حرم أبي الفضل العباس ، القبر الشريف - قبر أبي الفضل العباس - في السرداب، وإنما الضريح الموجود بالأعلى مثالٌ للقبر، وإلا فالقبر الشريف في السرداب، سرداب حرم أبي الفضل العباس في أغلب الشهور مملوء بالماء، هناك مياه جوفية تنبع بين كل آونة وأخرى تملأ السرداب، هذه المياه الجوفية أحيانًا تصل إلى متر في ارتفاعها، هذه المياه ترتفع في السرداب إلا منطقة القبر، فإنها لا تصل إليها أبدًا، وهذا موجود إلى يومنا هذا، ليس شيئًا حدث في عهد الأئمة، بل موجود إلى زماننا هذا.

إذن، هذه منطقة الحائر، وقد اختلف العلماء في تحديدها، فمثلًا: السيد الخوئي «قدس سره» كان يقول: كل المنطقة المسقوفة ما سوى الرواق والصحن الشريف، هذه المنطقة المسقوفة هي منطقة الحائر، والمسافر فيها مخيّر بين القصر والتمام. بعض الفقهاء الآخرين - كالسيد السيستاني «دام ظله» - يبني على رواية معتبرة تحدّد المنطقة بخمسة وعشرين ذراعًا، موثقة عمار الساباطي، سأل الإمام الصادق عن تربة الحسين، فأجاب الإمام: ”إن لموضع قبر جدي الحسين حرمةً معلومةً، من استجار بها أجير، قلتُ: إني لا أعرف موضعها، فقال: امسح من قبره خمسةً وعشرين ذراعًا من رأسه أو رجله أو عن يمينه أو عن شماله“، خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب تتحدد بها موضع الحرمة المباركة. بعض الفقهاء يقول: هذا التحديد ناظرٌ لاستجابة الدعاء، لا لمطلق الآثار، لكن بعض الفقهاء الآخرين - كالسيد السيستاني - يقول: هذه تحدّد المنطقة القدسية من المكان بما يشمل التخيير، وبما يشمل الاستشفاء.

الروايات التي عبّرت بالاستشفاء قالت: ”طين قبر جدي الحسين“، فربما يتصور إنسان أن هذا الأثر - وهو أثر الاستشفاء - خاصٌ بطين القبر، بتربة نفس القبر، ولكن هذه الرواية أوضحت لنا أنه لا خصوصية للقبر، هذه المنطقة كلها منطقة مقدسة، جميع الاثار التي تترتب على طين القبر تترتب على هذه المنطقة المقدسة، الاستشفاء، التسبيح، السجود، التخيير بين القصر والتمام، جميع الآثار تترتب على هذه المنطقة المقدسة المباركة، خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب.

هذه التربة العظيمة التي ذكرنا اليوم في القراءة في الروايات المعتبرة عن الأئمة الطاهرين «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، الإمام يقول لسدير: ”إن لله أربعة آلاف ملك شعثًا غبرًا عند قبر الحسين يبكونه ويرثونه إلى يوم القيامة، فلا يفد زائرٌ إلا استقبلوه، ولا يرجع أحدٌ إلا شيّوعه، ولا يمرض أحدٌ إلا عادوه، ولا يموت أحدٌ إلا شهدوا جنازته“. تصوّر منطقة مملوءة بالملائكة المسبّحين والمهلّلين، هي منطقة قدسية، حقيقة باستجابة الدعاء، جُعِل الشفاء في ترتبه، والإجابة تحت قبته.