تاريخية النص القرآني ونقدها

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة، نتحدث في ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: تفسير الآية المباركة.

الآية المباركة أشارت إلى أمرين يتعلقان بالقرآن الكريم:

الأمر الأول: القرآن بين الإجمال والتفصيل.

القرآن الكريم خضع إلى مرحلتين: مرحلة الإجمال، ومرحلة التفصيل. قول الآية المباركة: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، الكتاب المكنون هو لوح التشريع، أي أن هذا القرآن الكريم قبل أن ينزل إلى النبي بشكل تدريجي، كان مودعًا في لوح التشريع، ولوح التشريع هو المسمى بالكتاب المكنون، ولم يكن لوح التشريع مختصًا بالقرآن الكريم، لوح التشريع يشتمل على جميع الكتب السماوية، جميع الكتب السماوية مودعة في لوح التشريع، التوراة، الإنجيل، الزبور، صحف إبراهيم، جميع الكتب السماوية كانت مودعة في لوح التشريع.

وهذا - لوح التشريع - هو المعبر عنه في بعض الآيات القرآنية بالذكر، حيث قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، الزبور هو الصحف التي نزلت على النبي داوود «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»، الزبور مسبوق بالذكر، أي: لوح التشريع، كتبنا في الزبور بعد أن كتبنا في الذكر، والذكر هو التشريع الذي يشتمل على الكتب السماوية جميعها، من توراة وإنجيل وزبور وصحف وقرآن، الذكر هو عبارة عن ذلك اللوح الذي يشتمل على هذه الكتب كلها، ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ أي: زبور داوود ﴿مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ بعد أن كتبنا في الذكر ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، فلوح التشريع هو الكتاب المكنون، وهو المسمى بالذكر، وهو الذي أودع فيه القرآن الكريم بنحو إجمالي قبل أن ينزل تفصيلًا على النبي محمد .

الأمر الثاني: الإشارة إلى معرفة القرآن بالمعرفة الحقيقية.

هذه الفقرة ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لها تفسيران:

التفسير الأول: أن هذه الفقرة تتعرض لحكم شرعي، وهو أنه لا يجوز للمحدث أن يمس أحرف القرآن الكريم، فلا بد أن يتطهر أولًا، ثم يمس أحرف القرآن الكريم، من كان محدثًا فلا بد أن يتطهر كي يجوز له مس الأحرف، وهذا التفسير ورد في رواية أيضًا معتبرة عن الإمام الصادق .

التفسير الآخر: أن هذه الفقرة ليست ناظرة للحكم الشرعي - وهو عدم جواز المس إلا للمتطهر - وإنما هي ناظرةٌ إلى المعرفة الحقيقية للقرآن، ﴿لَا يَمَسُّهُ أي: لا يعرفه معرفة حقيقية ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، المس في اللغة بمعنى النيل، كما في الآية المباركة: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ أي: نالني، مس الشيء بمعنى ناله. الآية المباركة تقول: القرآن الكريم في الكتاب المكنون لا يناله أي شخص، لا يعرفه أي شخص، لا يصل إلى كنهه أي شخص، لا يناله إلا المطهرون، فالمس هنا بمعنى النيل.

والمطهرون هم الذين ينالون القرآن وهو في الكتاب المكنون، ينالونه قبل نزوله، المطهرون عرفوا القرآن ونالوه ووصلوا إليه وهو في الكتاب المكنون، قبل أن ينزل إلى الأرض، قبل أن ينزل على النبي ، نالوه وهو في الكتاب المكنون، لا يمسه وهو في الكتاب المكنون - أي: لا يناله ولا يعرفه - إلا المطهرون، فمن هم المطهرون الذين نالوا القرآن الكريم وهو في الكتاب المكنون؟

الآيات القرآنية تقول: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، الراسخون في العلم هم الذين نالوه وعرفوه، من هم الراسخون في العلم؟ هم المطهرون، من هم المطهرون؟ هم الذين حددتهم الآية المباركة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، ومن هم أهل البيت؟ صحيح مسلم يروي عن عائشة أنها قالت: خرج عليَّ رسول الله وعليه مرط مرجّل من شعر أسود، وقال: أين فاطمة وأين علي وأين الحسن وأين الحسين؟ إليَّ إليَّ، فاشتمل عليهم وقال: ”اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا“.

أهل البيت الذين فسّرهم النبي بهؤلاء الخمسة، أهل البيت هم المطهرون بمقتضى الآية، والمطهرون هم الذين نالوا كتاب الله وهو في الكتاب المكنون، فأهل البيت عرفوا هذا القرآن ونالوه وهو في الكتاب المكنون، وهذا ليس بعيدًا، القرآن نفسه يقول: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ أي أن عليين هو كتاب من الكتب المكنونة عند الله «تبارك وتعالى»، ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي أن المقربين يعيشون في الدنيا وهم يرون الكتاب المرقوم، هم يعيشون في الدنيا بين أظهر الناس، ومع ذلك هم مطلعون على الكتاب المرقوم الذي هو عبارة عن العليين.

النقطة الثانية: عرض أطروحة تاريخية النص القرآني.

هناك أطروحة طرحها جمعٌ من الحداثيين، وهي تاريخية النص القرآني، تاريخية النص القرآنية معناها أن النصوص القرآنية إنما جاءت تخاطب مرحلةً من المراحل البشرية، الآيات القرآنية ليس مدلولها شموليًا عامًا لجميع الأزمنة ولجميع الحضارات، إنما مدلولها ومفادها ناظر لحقبة زمنية معينة، لمرحلة زمنية معينة عاشتها البشرية، جاء القرآن لينقل البشرية في تلك الحقبة المعينة من حضيض الجهالة إلى قمة العلم، فكانت آياته تنظيمًا لمرحلة زمنية معينة. هذا ما يعبّر عنه بتاريخية النص القرآني، وقد استدلوا على هذه التاريخية بعاملين:

العامل الأول: بعض الآيات تعبّر عن ثقافة انقرضت.

نلاحظ أن كثيرًا من الآيات القرآنية تعبّر عن ثقافة انتهت، تعبّر عن ثقافة انقرضت، تعبّر عن ثقافة خاصة بتلك الحقبة التي نزل فيها القرآن، فمثلًا: عندما يتحدث القرآن عن الرق يقول: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، الرق ظاهرة انقرضت، الرق كان ظاهرة في زمن معين، وانقرضت هذه الظاهرة، هذه آيات تاريخية مرحلية لا تشتمل على قوانين ممتدة بامتداد الزمن.

كذلك عندما نأتي للأمثال التي يضربها القرآن، فإنها منسجمة مع الثقافة العربية في زمن معين، مثلًا: عندما يقول القرآن الكريم: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، العربي قبل 1400 سنة كان يعيش مع الإبل، بما أن العربي يعيش مع الإبل في أغلب أوقاتها نزل هذا المثل ينبهه على عظمة هذا المخلوق، لكن ألم يكن بإمكان القرآن الكريم أن يقول: أفلا ينظرون إلى الأسود كيف خلقت؟! أفلا ينظرون إلى الغوريلا كيف خلقت؟! النمور.. وأشباه ذلك من المخلوقات العجيبة الغريبة، لماذا لم يذكر الحيوانات الأخرى، مع أنها لا تقل عظمة وإتقانًا عن الإبل؟! لماذا ذكر الإبل؟! إنما ذكر الإبل لأنه خطابٌ مرحليٌ ناظرٌ لثقافة مرحلية معينة، وهي ثقافة العربي في تلك الحقبة.

كذلك قوله تعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، بما أن الكلب يعيش مع البادية العربية، لذلك مثّل به القرآن الكريم، ولم يمثّل بالثعلب، ولم يمثّل مثلًا بحيوانات أخرى، وغير ذلك من الأمثال التي ضربها القرآن، يستفاد منها أنها ناظرة لثقافة مرحلية معينة.

العامل الثاني: العامل اللغوي.

القرآن نزل بلغةٍ عربيةٍ حجازيةٍ ترتبط بصنفٍ من البشر وبمرحلةٍ معينةٍ من البشر. أنت عندما تستقرئ اللغات، أي لغة تضع يدك عليها، تجد أن هذه اللغة تتغير بمرور الأيام، ويكتنفها الغموض، اللغة الفرنسية مثلًا قبل سبع مئة سنة تختلف عن اللغة الفرنسية الآن، اللغة الفارسية قبل ألف سنة تختلف عن اللغة الفارسية الآن، اللغة بطبيعتها تتغير، يكتنفها الغموض، يكتنفها الإجمال. إذن، نزول القرآن بلغة معينة معناه أنه ناظر لثقافة معينة، لأنه نزل مع لغة إنما تنسجم مع العرب في ذلك الوقت، أما العرب في هذا الزمان فهم لا يفهمون لغة القرآن، العرب لا يعرفون المداليل الواضحة للغة القرآن الكريم، الكثير من ألفاظ القرآن الكريم تعد بالنسبة للعرب في هذا الزمان ألفاظ مبهمة، ألفاظ غير واضحة، لأن طبيعة اللغة يكتنفها الغموض والإجمال بمرور الزمن.

لأجل ذلك، نزول القرآن بهذه اللغة، وهذه اللغة تنسجم مع مرحلة معينة، وهم العرب المعاصرون لتلك المرحلة، يعني أن القرآن ناظر إلى ثقافة تلك المرحلة، وناظر لحضارة تلك المرحلة، وليس ناظرًا لجميع الأزمنة والحضارات، لأجل ذلك نزل بلغة خاصة تنسجم مع تلك المرحلة.

النقطة الثالثة: نقد أطروحة تاريخية النص القرآني.

نحن في التعليق على هذه الأطروحة التي يطرحها بعض الحداثيين نقول: نعم، نحن لا ننكر أن بعض الآيات القرآنية تاريخية، بعض الآيات القرآنية ناظرة لثقافة معينة، ناظرة لمرحلة معينة، نعم هذا صحيح، ولكن هذا لا يعني تاريخية القرآن، بحيث يكون القرآن بتمامه معبِّرًا عن ثقافة مرحلية، وعن ثقافة تاريخية محدّدة، وذلك لوجهين:

الوجه الأول: الفرق بين التاريخية المقصودة والتاريخية القهرية.

من الطبيعي أن القرآن عندما يتحدث عن ظاهرة معينة، كظاهرة الرق، ثم تنقرض هذه الظاهرة، هذه تسمى تاريخية قهرية، لا لأن القرآن ناظر لثقافة مرحلية، بل لأن الظاهرة التي علّق عليها القرآن وقنّنها كانت ظاهرة مرحلية، لا أن ثقافة القرآن ثقافة مرحلية، هذا يسمى بتاريخية قهرية، نتيجة انقراض الظاهرة انتهى مدلول هذه الآيات قهرًا؛ لأنها كانت تعلق على ظاهرة معينة، والظاهرة قد انقرضت، ولو عادت عاد مدلول هذه الآيات مرة أخرى، فهذه تسمى بالتاريخية القهرية.

بما أن القرآن جاء دستورًا لكل البشر في كل زمان، فمقتضى كونه دستورًا لكل البشر في كل زمان أن يتناول كل الظواهر الإنسانية بالتعليق والتقنين، سواء كانت ظواهر مؤقتة أو ظواهر دائمة، فإذا تناول القرآن بعض الظواهر المؤقتة وعلّق عليها ثم انقرضت هذه الظاهرة، فهذا لا يعني أن القرآن كتاب تاريخي، هذه تاريخية قهرية نتيجة قصر عمر الظاهرة التي علَّق عليها القرآن، لا نتيجة أن القرآن صُبَّ وأنزل لأجل ثقافة تاريخية معينة، هذا نظير أن يقول القرآن: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا، هذه الحادثة لا تحدث كل يوم، وإنما حدثت في وقت معين وانتهى. كذلك قول القرآن مثلًا: ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، هذا يعبر عن حادثة معينة، والحادثة قد انقرضت، هذا لا يعني تاريخية القرآن.

بما أن القرآن دستور للجميع، فهو يتناول جميع القوانين بالتعليق والتقنين، وبعض الظواهر قد تنقرض، أو هي حوادث مؤقتة، وهذا لا يعني قصرًا وضيقًا في الثقافة القرآنية، وإنما الظاهرة التي علَّق عليها القرآن هي التي انقرضت. إذن، نزول بعض الأمثلة التي تنسجم مع الثقافة العربية في ذلك الوقت، أو تعليق القرآن على بعض الظواهر المنقرضة، هذا يعبَّر عنه بالتاريخية القهرية.

وأما التاريخية المقصودة، بمعنى أن مقاصد القرآن، مضامين القرآن، قُصِد منها أن تعبّر عن ثقافة مرحلية معينة، فهذا يتنافى ويتناقض مع هدف القرآن الكريم. القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا الإنس في كل زمان لا في خصوص زمان نزول القرآن، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، بما أن القرآن جاء رسالة للعالمين، كما تفصح آياته، فلو كان ناظرًا لثقافة مرحلية، ولثقافة تاريخية معينة، لعُدَّ ذلك نقضًا للهدف من نزوله، فإذا آمنا بأن القرآن نزل، ونزل لهذا الهدف، وهو كونه رسالة للعالمين جميعًا، فتأطيره وجعله منصبًا على ثقافة مرحلية نقضٌ لأهدافه، ونقض الهدف قبيح، والقبيح لا يصدر من الإنسان العاقل، فضلًا عن الحكيم «تبارك وتعالى».

لذلك، مسألة تاريخية النص القرآني مسألة قاصرة النظر. أنت - أيها الباحث - نظرت إلى بعض الآيات القرآنية، ولكن إذا نظرنا للآيات الأخرى نجد أنها آيات تخترق الأزمنة، تخترق الحضارات، تعبِّر عن قضايا ومبادئ ومفاهيم شمولية، لا تختص بزمن، ولا تختص بحضارة، كقول القرآن الكريم: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، هل هذا يختص بثقافة عربية معينة؟! أصلًا العرب في ذلك الوقت ما كانوا يعرفون مدلول هذه الآية، ما كان العرب المعاصرون للقرآن ملتفتين لمعنى هذه الآية إطلاقًا، أن الأرض تتحرك، والجبال تمر مر السحاب، ما كان هذا معروفًا لدى العرب المعاصرين للقرآن.

إذن، القرآن هنا في الآية يتحدث عن مفهوم شمولي، لا عن ثقافة مرحلية. القرآن الكريم مثلًا عندما يقول: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، يأتي العلماء بعد ألف سنة ويقولون بأن الفضاء - الذي يضم المجموعات الشمسية والأجرام السماوية - في حال توسع دائم، دائمًا هو في حالة اتساع وتمدد، القرآن أشار إلى نظرية التمدد من قبل.

القرآن الكريم قبل ألف سنة يقول: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، أي أن الفضاء مقسّم إلى مجموعات شمسية، كل نجم يصب في مجموعة شمسية، كل كوكب يصب في مجموعة شمسية، لا أنه وحده، لا أنه يسير وحده، بل هو ضمن مجموعة شمسية، ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.

القرآن الكريم يقول: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا، ذلولاً بمعنى أن تربة الأرض تربة طيّعة للإنسان، الناقة الذلول هي الناقة الطيعة، الأرض ذلول بمعنى أنها طيعة، تربة الأرض تربة بيد الإنسان، يزرعها، يبنيها، يستخرج منها الطين، يستخرج منها المعادن، يستخرج منها الكنوز، تربة طيّعة في متناول يد الإنسان، وهكذا مفاهيم كثيرة تعرض إليها القرآن الكريم، لا يعرفها العربي في ذلك الوقت، ولم يلتفت إليها الإنسان إلا بعد مئات السنين، مما يكشف عن نظر القرآن لثقافة شمولية عامة، وليس نظره متقوقعًا في ثقافة مرحلية معينة، كما اُقْتُصِر النظر على بعض الآيات القرآنية.

الوجه الثاني: أصالة الثبات في اللغة.

نزول القرآن بلغة عربية فصحى، وهذه اللغة العربية قد اكتنفها الغموض بعد مرور مئات السنين، كأي لغة أخرى يكتنفها الغموض، هذا لا يقدح في شمولية القرآن، ولا يقدح في عموميته؛ لأن أي كتاب ينزل بأي لغة سوف يكتنفها الغموض، كيف يصبح القرآن كتابًا شموليًا؟! في كل مئة سنة ينزل مرة أخرى بلغة جديدة حتى يصبح كتابًا شموليًا؟! كيف يكون القرآن كتابًا سماويًا؟! أي كتاب تفرضه سوف يكتنف لغته الغموض بعد مئات السنين، أي كتاب كان، لأن طبيعة اللغات سيكتنفها الغموض، فكيف يمكن أن يكون القرآن كتابًا شموليًا؟! هل لا بد أن يتجدد نزوله؟! في كل مئة سنة ينزل من جديد بلغة أخرى حتى يصبح كتابًا شموليًا؟! مسألة نزول القرآن بلغة معينة يكتنفها الغموض ليس قادحًا أبدًا في شموليته.

مثلًا: أنت تأتي إلى ما يذكره علماء الأدب وعلماء اللغة، علماء الأدب واللغة يقولون: كيف نتعرف على مداليل الألفاظ؟ نتعرف على مداليل الألفاظ بالرجوع إلى العرف العربي المعاصر لصدور هذه الألفاظ، فمثلًا: العرب في هذا الزمان هل يستطيعون أن يتعاملوا مع شعر المتنبي؟ طبعًا يستطيعون ذلك، مع أن لغة المتنبي لغة اكتنفها الغموض بمرور الزمن، اكتنافها الغموض هل يعني أن شعر المتنبي مؤطّر بإطار مرحلي معين، مؤطر بحقنة زمنية معينة؟! كلا، هذا الطرح مرفوض لدى علماء الأدب، شعر المتنبي - خصوصًا في حكمه، خصوصًا في أبياته الحكمية - يعبّر عن مفاهيم إنسانية عامة، لا تختص بزمن، ولا تختص بحضارة، المتنبي مثلًا عندما يقول:

فدعوات  كل  يدعي  صحة  iiالعقلِ   وليس الذي يدري بما فيه من جهلِ

هذا لا يعبّر عن ثقافة مرحلية معينة، هذا يعبّر عن مفاهيم إنسانية عامة. إذن، كيف يتعامل العرب في زماننا هذا مع شعر المتنبي ويستفيدون منه؟ طبعًا يُعْرَض هذا البيت على العرف العربي المعاصر لهذا الزمان، فما يفهمه العرف العربي المعاصر في هذا الزمان يكشف عما يفهمه العرف العربي المعاصر لزمان صدور هذا الشعر من المتنبي.

وهذا ما يسمّى لدى علماء الأدب بأصالة الثبات، الأصل في المداليل اللغوية هو الثبات، الأصل أن المداليل اللغوية لا تتغير، تغير المداليل اللغوية خلاف الأصل، يحتاج إلى شواهد. لا تستطيع أن تقول: والله هذه اللفظة قد تغير مدلولها! قبل ألف سنة كان له مدلول والآن لها مدلول آخر! يقول علماء الأدب: هذا خلاف الأصل، الأصل في المداليل اللغوية هو الثبات، تغير المدلول يحتاج إلى شاهد، يحتاج إلى قرينة، إذا لم يوجد شاهد ولا قرينة فالأصل ثبات المداليل اللغوية، وإلا لم نستطع التعامل مع شعر المتنبي ولا مع شعر أبي العلاء المعري ولا مع أي وثيقة سبقتنا بألف سنة أو بعدة قرون.

إذا كانت اللغة يكتنفها الغموض فلا يمكن التعامل معها، إذن نغلق كل تراثنا العربي، وكل تراثنا الحضاري، لأن لغته قد اكتنفها الغموض، وهذا مرفوض لدى علماء الأدب تمامًا، علماء الأدب عندهم أصل يقرّرونه ويسيرون عليه، وهو المسمى بأصالة الثبات، الأصل ثبات المداليل اللغوية وعدم تغيرها، إلا أن يقوم شاهد على ذلك، وهكذا يتعاملون مع شعر المتنبي.

مثال آخر: أنت عندما تنظر إلى علماء الجيولوجيا أو علماء الآثار، علماء الجيولوجيا يفتشون في مكان معين مثلًا فيكتشفون صخرة، يرون على الصخرة كلام معين، هل يستطيعون أن يفسروا هذا الكلام ويقولون: لا علاقة لنا فقد اكتنف اللغةَ الغموضُ؟! بلا إشكال، السيرة العقلائية قائمة على أن من حق علماء الآثار أنهم إذا رأوا صخرةً أو كتابًا تحت الأرض، عمره ألفا سنة أو ثلاثة آلاف سنة، أن يفسروا الكلام المذكور فيه، ومن خلال ذلك يكتشفون عمر هذا الأثر، والحضارة التي كان فيها هذا الأثر المهم، من حقهم ذلك.

إذا كانت اللغات تتغير، ويكتنفها الغموض، فكيف يكون من حق علماء الآثار أن يفسروا هذه الآثار التاريخية، مع أنها جاءت بلغة قديمة؟! لأصالة الثبات، لأن هناك أصلًا لغويًا اسمه أصالة الثبات، وهذا الأصل لا يخصنا نحن العرب، بل جميع المجتمعات. مثلًا: المجتمع الفرنسي، جيولوجي فرنسي اكتشف صخرة في مدينة من مدن فرنسا، وهذه الصخرة تحمل نصًا باللغة الفرنسية، هذا النص يرجع إلى ألفي سنة أو ثلاثة آلاف سنة، أليس من حقه أن يفسره على طبق ما يفهمه هو؟! طبعًا من حقه، طبقًا لأصالة الثبات.

إذن، هناك أصلٌ يسمّى أصالة الثبات، يقرّره علماء اللغة والأدب، وعلى هذا الأصل ترتفع المشكلة. افترض أن اللغة القرآنية اكتنفها الغموض، لكننا نعرض ألفاظه على ما يفهمه العرف العربي المعاصر لزماننا، وما يفهمه العرف العربي المعاصر لزماننا يكشف عن العرف العربي المعاصر لزمان النص، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة الثبات.

مثلًا: القرآن يقول: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، «طيبًا» بمعنى طاهر غير نجس، لكن ما معنى «صعيدًا»؟ نعرضها للعرف العربي المعاصر لزماننا، ماذا تفهم من كلمة الصعيد؟ هل تفهم منها خصوص التراب، فيختص التيمم بالتراب، أو تفهم منها كل الأرض، فيشمل التيمم كل ما هو أرض، ويصح التيمم بالرخام الطبيعي، وبالحجر الطبيعي، وبأي شيء يرجع إلى الأرض، وليس بالضرورة أن يكون ترابًا، لأن الصعيد يشمل مطلق وجه الأرض؟ بالعرف العربي المعاصر لزماننا نستطيع أن نحدّد العرف العربي المعاصر لزمان النص.

طبعًا الغرض والهدف الذي طرحه هؤلاء الباحثون لتاريخية النص.. هم لماذا يقولون بتاريخية النص؟ حتى يقولوا لك: الأحكام الشرعية انتهى وقتها، فمثلًا: قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، انتهى وقت زمان تحريم الربا، لأن هذا نص تاريخي، كذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، هذا الحكم حكم تاريخي لا ينطبق على زماننا، الغرض من هذه الأطروحة هو تحديد القوانين الشرعية، وأنها لا تشمل أزمنتنا لأنها أحكام تاريخية، مع أننا نتمسك بالإطلاق، هذه الآيات لم تقيَّد، لم يقل: أحل الله البيع وحرم الربا في زمان كذا، أو في مرحلة كذا، بل هذه الآيات مطلقة، ومقتضى التمسك بإطلاقها شمولها لسائر الأزمنة، ولسائر المجتمعات، فهي قوانين سماوية عامة، لا تختص بفترة معينة، ولا بحقبة معينة.