الإمام الرضا بين الدور الاجتماعي والدور الفكري

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

قيل  لي أنت أوحد الناس iiطرا
فلماذا تركت مدح ابن موسى
قلت  لا  أهتدي  لمدح  إمام

 
في  فنون  من المقال البديه
والخصال  التي  تجمعن iiفيه
كان   جبريل   خادما  iiلأبيه
الدور الاجتماعي الذي تجسد في شخصية الإمام الرضا كان يرتكز على عنصرين:

العنصر الأول: عنصر الحب

هناك كثير من القادة والمسؤولين والوجهاء يتعاملون مع المجتمع بدافع الوظيفة، بالأخلاق الحسنة، بالتوجيه والإرشاد والتعليم لا لأنهم يحبون ذلك، بل لأن ذلك وظيفتهم، ولكن هناك من يتعامل مع الناس لا بدافع الوظيفة، بل بدافع المحبة، لأنه يحب الناس يتعامل معهم بالخلق الحسن، يخلص لهم ويتفانى في توجيههم وتعليمهم، لا لأن التوجيه والتعليم وظيفة، بل لأنه يحب ذلك.

هناك فرق بين من يتعامل مع الناس بدافع الوظيفة، ومن يتعامل معهم بدافع المحبة، من يتعامل مع الناس بدافع الوظيفة، فهو يقتصر على حدود الوظيفة، بمقدار ما يسقط عنه الأمر، أما من يتعامل مع الناس بدافع المحبة، فهو يتفانى ويتحول إلى روح غيرية تخدم المجتمع وتصر على توجيهه وإرشاده وتعليمه بمختلف الوسائل، وهذا ما كان عليه النبي محمد ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ لأنه يحبكم ولأنه من أنفسكم لذلك هو حريص عليكم، فهو لا يتعامل معكم بدافع الوظيفة، بل يتعامل معكم بدافع المحبة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

هكذا كان الإمام الرضا يقول إبراهيم الصولي: صاحبت الرضا من المدينة إلى خراسان، ثم صاحبته بقية حياته، فما رأيته جفا أحدا قط، ولا قطع على أحد حديثه قط، ولا مد رجليه بين يدي جليس قط، ولا شتم أحدا، ولا نال أحدا، ولا تفل في وجه أحد، وما رأيته رد أحدا في حاجة يقدر عليها أبدا، وما رأيته قهقه وإنما كان ضحكه التبسم، وكان إذا وضع المائدة دعا خدمه وغلمانه وأجلسهم إلى جانبه وأطعمهم بيديه، فقال له بعض من حضر: يا أبا الحسن، هلا عزلت لهؤلاء السود مائدة لوحدهم، ونحن لنا مائدة، قال: مه، إن الرب واحد، والأب واحد، والأم واحدة، والجزاء بالأعمال ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ يتعامل مع غلمانه بدافع المحبة، بدافع إنساني، لا بدافع وظيفي، فضلا عن الناس الآخرين.

العنصر الثاني: عنصر الحضور

كان الإمام الرضا يؤكد على عنصر الحضور، كتب رسالة إلى ابنه الإمام الجواد قال فيها: «بني بلغني أن الموالي إذا أخرجوك، خرجوا بك من الباب الصغير، بغيا منهم، كي لا ينال أحد منك شيئا، فبحقي عليك، أطلب منك إذا خرجت، أن يكون مخرجك ومدخلك من الباب الكبير، وإذا خرجت حملت معك من الذهب والفضة الكثير، ثم ما سألك أحد شيئا إلا وأعطيته» القائد ليس محتجبا في منزله، القائد ليس بينه وبين الأرضية الشعبية وسائط، القائد ليس الإنسان المنعزل عن المجتمع، والذي لا يدري عن هموم المجتمع وقضاياه، القائد هو الذي يعيش مع المجتمع، مع مأساتهم، مع معاناتهم، مع آلامهم، مع أفراحهم، مع أتراحهم، القائد المحنك سواء كان رجل دين، أو وجيها، أو غير ذلك، هو من كان حاضرا بين أمته، ومن كان حاضرا بين أبناء المجتمع حضور تفاعل، وحضور تعاطف، يعيش مأساتهم وآلامهم وهمومهم.

إذن الدور الاجتماعي الذي جسده الإمام الرضا يرتكز على عنصرين: عنصر الحب، وعنصر الحضور والتفاعل مع قضايا المجتمع وهمومه.

الدور الفكري:

هناك فكرة طرحتها مجموعة من الأقلام الإسلامية، هذه الفكرة تقرر أن التشيع حركة سلبية وليست حركة إيجابية، التشيع منذ أن ولد وهو حركة معارضة، ومواجهة وعنف، وليس حركة بناء ولا عطاء، التشيع ولد يوم الحسين ولد وهو ممزوج بالدم، ولد وهو يعيش حركة العنف، فأصبح التشيع في نظر التاريخ الإسلامي يعتمد على مظهرين:

مظهر المعارضة العنيفة:

إنك ترى التشيع منذ يوم الحسين، صار مسلسل من الدماء، والمواجهات العسكرية الدامية، الحسين والمختار وزيد ابن علي والحسين ابن علي صاحب معركة فخ، وهكذا تواصل التشيع حركة من الدماء والعنف، وحركة من المعارضة، ولم يكن حركة متصلة تراعي وحدة الأمة ومصلحتها، بل كان دأبها المعارضة والعنف ليس إلا.

مظهر العزلة:

أن التشيع كان يعيش عزلة، لأن الإمامية تعتقد أن السلطات الأموية والعباسية سلطات غير شرعية، ولأنها تعتقد أن السلطات غير شرعية فلذلك اعتزلت السلطات ولم تتصل بها، ونتيجة هذا الاعتزال أن التشيع لم يساهم في بناء الحضارة الإسلامية التي قامت على أكتاف الخلفاء الأمويين العباسيين الفاطميين وغيرهم لم يساهم الشيعة فيها بشيء، لأنهم رأوا أن السلطة غير شرعية فاعتزلوها، ونتيجة الاعتزال أنهم لم يساهموا في بناء الحضارة ولم يشاركوا في بناء التاريخ، ولا في العطاء العلمي والحضاري للتاريخ، لذلك لا تجد للشيعة بصمات في الحضارة الإسلامية، إذا تأملت الحضارة الإسلامية في الأندلس، في دمشق، في بغداد، لا تجد للشيعة أي بصمات وأي أثر على هذه الحضارة، لأنهم كانوا حركة معارضة عنيفة، وكانوا يعيشون عزلة عن المساهمة في بناء الحضارة، ولذلك هذا ما دعا أن يكتب ابن خلدون في مقدمته: وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به، اعتبرهم شذاذا لأنه لم يجد لهم أثرا في الحضارة الإسلامية آنذاك.

نسلط الضوء على هذه الفكرة من ثلاثة وجوه:

الوجه الأول:

أن هذا التصور الذي يقرر أن التشيع لم يساهم في بناء الحضارة الإسلامية، ولم يشارك في العطاء في الحضارة الإسلامية، وهذا تصور مخالف ومجانب للحقيقة التاريخية، الأئمة من أهل البيت ساهموا في بناء الدولة الإسلامية، وساهموا في بناء أسس الحضارة الإسلامية، الإمام علي خضع لنظره ومشورته كثير من الفتوحات الإسلامية، فتح العراق، وفلسطين، خضع لمشورة الإمام علي وكان الخليفة الثاني يقول: لولا علي لهلك عمر، ولا أبقاني الله لمعضلة لم يكن فيها أبو الحسن .

الإمام الباقر ساهم في تغيير العملة الإسلامية في زمان الوليد ابن عبد الملك، جاء أحد العلماء إلى الوليد ابن عبد الملك قال: أتدري ما هو مكتوب على هذه العملة؟ قال: لا، قال: مكتوب عليها الثالوث، الله والمسيح ومريم، وأنتم المسلمون تتعاملون بها من دون التفات ولا دراية، الوليد ابن عبد الملك جمع الفقهاء آنذاك وطلب منهم المشورة، فاختلفت آراؤهم، فقال له بعضهم: ما عليك غضاضة أن تطلب محمد ابن علي ابن الحسين، فطلب الإمام الباقر ، ومع أن الإمام الباقر يعتبر أن هذه السلطة غير شرعية - سلطة الوليد - لكنه يبادر لبناء الحضارة الإسلامية، جاء من المدينة إلى دمشق، دخل على الوليد ابن عبد الملك، وعرض عليه الوليد ابن عبد الملك الأمر، فأشار عليه الإمام الباقر قال له: اصنع عملة يكتب على وجه منها لا إله إلا الله، وعلى الوجه الآخر محمد رسول الله، واجهل لها كذا مقدار من الذهب، وكذا مقدارا من الفضة، كي لا تكون معرض للتلاعب ولا للتزوير، وأرسل في جميع الآفاق والأرجاء أن لا يتعامل إلا بهذه العملة، فمن خالف ذلك عوقب عقوبة شديدة، ومشى الوليد ابن عبد الملك على مقترح الإمام الباقر فتحولت العملة لدى المسلمين من العملة الرومانية إلى عملة إسلامية.

الإمام الصادق أشاد في المدينة جامعة علمية، يقول ابن عقدة الزيدي في كتابه: ضمت هذه الجامعة أربعة آلاف طالب، ما كانوا من الشيعة، بل كانوا من المذاهب الإسلامية الأخرى أيضا، فقد تتلمذ على يديه السكوني والنوفلي وغياث ابن كلوب، وغيرهم من علماء اخواننا أهل السنة، كما أنه تتلمذ على يديه الإمام أبو حنيفة، كما ذكر الجاحظ في كتابه وقال: لولا السنتان لهلك النعمان، وقال الإمام مالك، إمام المذهب المالكي: ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر ابن محمد الصادق علما وعبادة وورعا، وتحدث في علوم مختلفة، لم يقتصر على الفقه، ولا على الأصول، بل تحدث في علوم مختلفة، تحدث الإمام الصادق في علم الطب، فكتب عنه المفضل ابن عمر رسالة في علم الطب، وابنه الإمام الرضا به رسالة في علم الطب تعرف بالرسالة الذهبية، قام بطبعها وتحقيقها الدكتور محمد علي البار، الأستاذ في جامعة الملك عبد العزيز بجدة.

وتحدث الإمام الصادق في علم الكيمياء، فقد ذكر ابن النديم في الفهرس أنه تتلمذ على يديه جابر ابن حيان رائد علم الكيمياء، وكتب خمسمائة رسالة، افتتح أول رسالة منها بقوله: حدثني سيدي ومولاي جعفر ابن محمد الصادق.

والإمام الرضا ساهم أيضا في بناء الحضارة الإسلامية، فهو قبل ولاية العهد من قبل المأمون العباسي، وهناك تفسيران لقبول الإمام الرضا لولاية العهد:

التفسير الأول: أن الإمام الرضا قبل ولاية العهد لأنه أكره على قبولها، فدار الأمر بين أن يقضى على حياته، أو يقبل الولاية، فرجح الأهم على المهم، وقبل ولاية العهد.

التفسير الثاني: الإمام الرضا قبل ولاية العهد، لأن ولاية العهد مفتاح لبناء الحضارة الإسلامية آنذاك، ومفتاحا لنظرية حوار الأديان، ففي تلك الأزمنة السابقة علماء الأديان والمذاهب لا يجتمعون إلا في قصر الخليفة، الإمام الرضا رأى أن قبول ولاية العهد يعني إتاحة الفرصة له للقاء بعلماء الأديان، وعلماء المذاهب الأخرى، ولقاؤهم يعني فتح الفرصة لحوارهم وطرح المذهب الحق، والرأي الحق، وإثباته بالأدلة والبراهين الناصعة القاطعة، فقبل ولاية العهد، وفعلا فتح له المجال، فكان يجلس كل اثنين، وكل خميس يلتقي بعلماء الأديان، وعلماء المذاهب فيحاورهم ويناقشهم إلى أن يثبت لهم أن الفكر العلوي المحمدي هو الفكر الصائب، في كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي تجد أن أكثر إمام تصدى للمناقشات هو الإمام الرضا، أكثر إمام وردت عنه مناقشات وحوارات واحتجاجات ومناظرات مع علماء الأديان، وعلماء المذاهب الأخرى الإمام الرضا .

إذن الإمام الرضا رأى أن قبول ولاية العهد مفتاح للمساهمة في بناء الحضارة الإسلامية، مفتاح لإثراء الحوار بين الأديان والمذاهب، مفتاح وباب لإثبات صحة الفكر والمعتقد الذي يتبناه، وهذا ما حصل، بعضهم سأل الإمام الرضا قال له: ما المقصود بقوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ من هم الراسخون في العلم؟ فقال: الله بينهم في كتابه، فقال: كيف؟ قال: الله تعالى قال في آية أخرى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ المس يعني النيل، كما قال الله تبارك وتعالى في آية أخرى: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ مسني بمعنى نالني، وليس بمعنى لامسني، ليس المراد بالمس هو الملامسة، بل المراد هو النيل ﴿لَّا يَمَسُّهُ أي لا يفهمه ولا يدركه على حقيقته إلا المطهرون، بينت آية أخرى معنى المطهرون ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وجاءت آية ثالثة تبين لنا المطهرين ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا فعلمنا أن المطهرين هم أهل البيت ومن هم أهل البيت؟ تقول أم المؤمنين عائشة كما في صحيح مسلم: جمع رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وأسدل الكساء، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، وحامتي ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.

إذن بهذا الوجه تبين أن الأئمة ساهموا في بناء الحضارة، ولم تكن وظيفتهم مجرد معارضة، وعنف ومواجهة، من دون مواصلة وعطاء وإنتاج، بل ساهموا وشاركوا في بناء الحضارة الإسلامية.

الوجه الثاني:

ليس المقياس في الحضارة هو المظاهر المادية، مع الأسف أن الكثير من الأقلام تظن أن المقياس في الحضارة هو المظاهر المادية، أن الحضارة عبارة عن قصر وجسر وبنيان، بعضهم يتوهم أن الميزان والمقياس في الحضارة هو المظاهر المادية، لأن الشيعة ليس لهم بصمات في قصور الأندلس، ولا في جسور بغداد، ولا في قصور دمشق، إذن ليس لهم مساهمة في الحضارة الإسلامية، وكأن الحضارة الإسلامية جسر وقصر وجدار وأطلال، فمن ليس له بصمات على هذه المباني، فليس له مساهمة في الحضارة الإسلامية.

فليس المقياس هو المظاهر المادية، بل إنها نتاج للحضارة، وليست هي الحضارة، المظاهر المادية، العمارات، الجسور، والقصور، هذا نتاج ومظهر للحضارة، وليس هو الحضارة، بل الحضارة في الفكر وفي الثقافة، هذه القصور والجسور، نتاج الثقافة والفكر، فالحضارة هي الفكر، وليست الحضارة هي المظاهر المادية، إذا أردت أن تعرف هل أن للشيعة أثرا في الحضارة الإسلامية، فاقرأ الفكر الإسلامي، فإذا لم تجد لهم أثرا في الفكر الإسلامي، وفي الثقافة الإسلامية، فعندئذ يصح أن تقول: كان التشيع حركة معارضة، ولم يكن حركة بناء، لأنه لا أثر لهم في الفكر الإسلامي، أم إذا كانت آثارهم ناصعة، واضحة، على الفكر الإسلامي، فلا مجال لأن يعزلوا عن التاريخ الإسلامي لمجرد أنهم لم يساهموا في البناء.

هل للشيعة أثرا في بناء الفكر الإسلامي أم لا؟

على مستوى علم الكلام الشيعة بارزون، أبو حسن النوبختي في كتاب الإنصاف في الإمامة، نصير الدين الطوسي صاحب كتاب تجريد الاعتقاد، وعلى مستوى الفلسفة، رواد الفلسفة من الشيعة، وما زالوا هم رواد الفلسفة الإسلامية، ابن سينا صاحب كتاب الشفاء، القطب الراوندي صاحب كتاب شرح المطالع، صدر المتألهين الشيرازي صاحب كتاب الأسفار الأربعة، السيد صاحب الميزان، صاحب كتاب أسس الفلسفة، صاحب كتاب بداية الحكمة، ونهاية الحكمة، الشهيد المطهري، السيد الشهيد الصدر قدس سره صاحب كتاب فلسفتنا، على مستوى علم الفلك، نصير الدين الطوسي كان فلكيا مشهورا، وهو الذي بنى أكبر مرصد للحضارة الإسلامية، وهو مرصد مراغة، في علم الكيمياء، رائد علم الكيمياء من الشيعة جابر ابن حيان، يقول البروفيسور محجوب الحسين عميد الجامعة العالمية بجنوب افريقيا: أول من فتح علم التجربة، هو جابر ابن حيان، قبل بيكون ب 800 سنة، جابر ابن حيان كان رائدا في علم التجربة، وفي علم الجغرافيا أحمد اليعقوبي، وفي علم التاريخ المسعودي صاحب كتاب مروج الذهب، وفي علم النحو الخليل ابن أحمد الفراهيدي رائد علم النحو وعلم العروض، مؤسس علم النحو وهو أبو الأسود الدؤلي، أخذ علم النحو عن الإمام أمير المؤمنين حيث قال له: الكلمة اسم وفعل وحرف فالإسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما دل على معنى في غيره أو أوجد معنى في غيره، على اختلاف الروايات، وفي مجال الأدب عمالقة الشعر هم من الشيعة، الفرزدق الذي يقول في مدح الإمام زين العابدين :

من   معشر  حبهم  دين  iiوبغضهم
إن   عد  أهل  التقى  كانوا  أئمتهم
  كفر    وقربهم    منجى   iiومعتصم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

الكميت ابن زياد الأسدي، دعبل الخزاعي، المتنبي شاعر العرب كان من شيعة الكوفى، وهو الذي كان يقول:

وتركت   مدحي  للوصي  iiتعمدا
وإذا  استقل  الشيء  قام  iiبذاته
  إذ  كان  نورا  مستطيلا  iiشاملا
وكذا ضياء الشمس يذهب باطلا

الشريف الرضي وهو من فحول الشعراء، أبو نواس الذي كان معروفا بشعره وبغزله، كان من شيعة أهل البيت، رأى الإمام الرضا على بغلته، فقال:

مطهرون   نقيات  ثيابهم  iiتجري
والله   لما   برى   خلقا   iiفأتقنه
فأنتم    الملأ   الأعلى   وعندكم
من  لم  يكن  علويا حين iiتنسبه


 
الصلاة    عليهم   أينما   iiذكروا
صفاكم   واصطفاكم  أيها  iiالبشر
علم الكتاب وما جاءت به السور
فماله   في  قديم  الدهر  مفتخر

إذن بصمات التشيع على الفكر الإسلامي، والحضارة الإسلامية واضحة وبارزة، وبالتالي فالتشيع حركة عطاء وبناء، لا حركة مقاطعة ومواجهة فقط، بل حركة تبني وتدعم الأسس للحضارة الفكرية الثقافية الإسلامية.

الوجه الثالث:

التشيع كان حركة معارضة، وكل أمة لا يمكن أن تتطور بدون حركة معارضة، كل مجتمع لا يمكن أن يقفز إلى عالم التطور إذا لم يكن فيه حركة معارضة، لأن حركة المعارضة دورها الرقابة والإشراف على مسيرة الأمة، وتنبيهها على ثغراتها ومواطن الخلل والخطأ في مسيرتها.

وجود حركة المعارضة هدف قرآني نطق به القرآن الكريم: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وقال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ إذن فحركة المعارضة هدف قرآني، وهدف إنساني، لأن وجودها ينبه الأمة على أخطائها كي تتلافاها، ويكون ذلك بابا لتقدم الأمة ولتطور المجتمع الإسلامي.

لم يكن التشيع حركة عنف أبدا، كان حركة معارضة سلمية، ولم يكن حركة معارضة عنيفة، الإمام علي أمير المؤمنين يقول: ”لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا علي خاصة“ الإمام علي ما خاض حربا مع معاوية لولا أن معاوية فرض منطق الحرب، لو أن معاوية من أول يوم سلم بما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار، ما واجهه الإمام علي، ولولا أن معاوية هو الذي بدأ بالقتال يوم صفين، ما بدأه الإمام علي بالقتال، حروب الإمام علي فرضت عليه لا أنه خطط لها، ولا أنه بدأها، حركة علي كانت حركة سلمية، ولم تكن حركة عنف.

ولو أن يزيد ابن معاوية لم يحصر الحسين في هذه الزاوية، إما البيعة أو القتل لما اتخذ الحسين المسار العسكري أبدا، لو أن يزيد ابن معاوية ترك الحسين وشأنه، ولم يفرض عليه البيعة، لكانت حركة الحسين حركة إصلاحية، سلمية، حتى يوم عاشوراء ما بدأ الحسين بالقتال، وإنما فرض عليه القتال، لأنه يريد أن يشعر الأمة أن حركته حركة إصلاحية سلمية، وليست حركة عنف، وليست حركة تجر الأمة إلى مسلسل الدماء، وهذا ما جرى عليه الأئمة من بعده، حتى قال الإمام الصادق : ”التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له“ ومن أوضح مصاديق التقية هي المعارضة السلمية، كانت معارضة أهل البيت معارضة سلمية.

كتب معاوية ابن أبي سفيان للإمام الحسن : أنا خير منك، لأن الناس أجمعت علي، ولم تجمع عليك، فكتب الإمام الحسن إليه: «إن الذين أجمعوا عليك بين مكره ومطيع، فأما المكره فمعذور في كتاب الله، وأما المطيع فهو عاص لله، وأنا لا أقول أنا خير منك، لأنه لا خير فيك، فلقد برأني الله من الرذائل، كما برأك من الفضائل».

المنصور العباسي كتب إلى الإمام الصادق : لما لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ فكتب إليه الإمام الصادق: «ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، وليس لك من الآخرة ما نرجوه منك» فكتب إليه المنصور: تصحبنا لتنصحنا، فرد عليه الإمام الصادق : «إن من يريد الدنيا لا ينصحك، ومن يريد الآخرة لا يصحبك».

المأمون العباسي كتب إلى الإمام الرضا : إني تأملت في أمر هذه الأمة، فرأيت أن الخير في أن أعرض الخلافة عليك فتأخذ بها، فكتب إليه الإمام الرضا: «إن كانت الخلافة لك، فلا يجوز لك أن تنزع ثوبا ألبسك الله إياه وتعطيه لغيرك، وإن لم تكن الخلافة لك فلا يجوز لك أن تعطي غيرك ما ليس لك» فالمأمون حينئذ لجأ إلى لغة التهديد والقوة.

إذن لا قدح في أن يكون مذهب التشيع حركة معارضة، لأن حركة المعارضة السلمية حركة تصحيحية تطويرية، وهذا ما ركز عليه أئمة أهل البيت عندما أكدوا على حركة الحسين الأئمة من الإمام زين العابدين إلى الإمام العسكري يركزون دائما على مأتم الحسين، زيارته، البكاء عليه، التفاعل مع قضيته، يريدون أن يشبعوا فكر الأمة بأن الحسين منار للمعارضة، ومنار للإصلاح والتوجيه «ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».