الدرس 117

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق ان السيد الحكيم «قده» أفاد: بأنه إذا شككنا في أن ستر العورة بالطين، مثلاً: أو التراب هل يكفي في صحة الصلاة أم لا؟ فمرجع ذلك إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير، أي مرجع ذلك إلى أن المصحح للصلاة هل هو متعين به الثوب وما هو قابل للبس؟، أم ان المصحح للصلاة هو الجامع بين ما يصلح للبس وبين ما لا يصلح؟. وإذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فمقتضى قاعدة الاشتغال هو البناء على التعيين، فلا مصحح لصلاته الا إذا كان الساتر مما هو قابل للبس لا مطلقا. وقلنا: بأن الاشكال على كلام المستمسك في الكبرى والصغرى:

أمّا الكبرى: وهي أنّه: إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فهل مقتضى الأصل هو التعيين فمقتضى الأصل هو التخيير. ومحل البحث: ما إذا علم سقوط الحكم لعنوان معين، ولكن شك في أن هذا العنوان له موضوعية أم ان هذا العنوان مصداق من مصاديق موضوع الحكم؟ مثلا: إذا علمنا ان السجود على التراب مصحح للصلاة، لكن هل ان للتراب موضوعية أم ان التراب مصداق من مصاديق الموضوع، والموضوع لصحة الصلاة هو الجامع أي مطلق وجه الارض، وكما إذا علمنا بأن من افطر متعمدا فإن عليه ان يكفر بصوم شهرين متتابعين، ولكن تساءلنا هل ان للصوم موضوعية في الكفارة أم أنه مصداق لما هو الواجب الا وهو إحدى الخصال الثلاث، فمورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو: ما إذا علمنا ثبوت الحكم لعنوان معين، لكن شككنا في ان هذا العنوان المعين هو تمام الموضوع؟ أم انه مصداق لجامع بينه وبين غيره؟. فلو كان هذا العنوان هو تمام الموضوع لكان الحكم هو التعيين، ولو كان هذا العنوان مصداقا من مصاديق الموضوع لكان الحكم هو التخيير، فدوران الأمر بين التعيين والتخيير ينصب على هذه النكتة. وهنا تقريبان لجريان البراءة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير: أحد التقريبين يبتني على الانحلال الحقيقي، والآخر يبتني على الانحلال الحكمي.

اما الاول: فهو ما اصرَّ عليه سيّدنا في «مصباح الأصول من موسوعته، ج 47، صفحة 525»: ذكر أنه: لا فرق جوهري بين باب الأقل والاكثر الارتباطيين وباب التعيين والتخيير فإنّهما من واد واحد، فكما ان هناك انحلال حقيقي في العلم الاجمالي في دوران الأمر بين الأقل والاكثر فكذلك هناك انحلال حقيقي في العلم الاجمالي بين التعيين والتخيير. بيان ذلك: إذا دار الأمر في الصلاة بين ان يكون الصلاة لا بشرط أو الصلاة بشرط الاطمئنان، فهذا يسمى بدوران الأمر بين الأقل والاكثر، ويدعى فيه الانحلال الحقيقي، فيقال: ينحل العلم الاجمالي الدائر بين كون الصلاة الا بشرط أو الواجب الصلاة لا بشرط أو الواجب الصلاة بشرط شيء هذا العلم الإجمالي ينحل حقيقة بيقين وجداني بوجوب ذات الصلاة وشك بدوي في اعتبار الخصوصية الا وهي اشتراط الاطمئنان فتجري البراءة عن اشتراط الاطمئنان وتنتهي المشكلة. واذا دار الأمر بين التعيين والتخيير. السيد الخوئي يقول كذلك الأمر: إذ تارة يكون التخيير المحتمل عقليا وتارة يكون التخيير المحتمل شرعيا، والفرق بينهما ما هو؟: انه إذا وجد جامع عرفي بين المحتملات فالتخيير عقلي، واذا ما وجد جامع عرفي بين المحتملات وإنما الجامع جامع انتزاعي وهو عنوان الأحد، فالتخيير تخيير شرعي، وهذا بنظر السيد الخوئي مجرد اصطلاح واختلاف في الصياغة لا اكثر. والا ففي الواقع النكتة فيهما واحدة. بيان ذلك: مثلاً: إذا دار الأمر بين ان ما يصح السجود عليه هل هو خصوص التراب أو مطلق وجه الارض؟ فالتخيير المحتمل هنا تخيير عقلي، لأنّ الجامع بين التراب وغيره هو جامع عرفي إذ يصح للمولى ان يقول: الشرط في صحة الصلاة السجود على مطلق الأرض وهذا جامع عرفي، ويصبح التخيير بين مصاديقه تخييرا عقليا، إذن إذا شككنا هل ان المصحح للصلاة السجود على خصوص التراب أم ان المصحح هو الجامع فهنا التخيير المحتمل تخير عقلي لوجود جامع عرفين. فبناءً على ذلك يقول السيد الخوئي: إذن لدينا يقين بالجامع وهو ان المصحح للصلاة السجود على طبيعي الأرض لا مطلق وجه الارض، الطبيعي الاعم من المطلق والمقيد، حيث نعلم حينئذ ان المصحح للسجود أصل طبيعي الأرض ونشك هل اعتبر مع هذا الطبيعي خصوصية وهي خصوصية التراب فالاعتبار مجرى للبراءة ولا يعارض اصالة البراءة عن الاشتراط بأصالة البراءة عن اللا اشتراط الذي يعبر عنه بالإطلاق، لأننا لا ندري هل المصحح للسجود الأرض لا بشرط - نسميها الاطلاق - أو الأرض بشرط شيء وهو التراب المعبر عنه البشرط، جريان البراءة عن البشرط صناعي، اما جريان البراءة عن اللا بشرط ليس صناعيا، لان اللا بشرط مساوق لإرخاء العنان والتسهيل وليس تكليفا وضيقا كي تجري عنه البراءة، فبما ان اللا بشرط تسهيل وارخاء للعنان وليس مجرى للبراءة لكونه ليس ضيقا ولا تكليفا فتجري البراءة في البشرط فقط، الا وهو اعتبار التراب. هذا إذا كان التخيير المحتمل عقليا.

واما إذا كان التخيير المحتمل شرعيا: يعني: أن الجامع انتزاعي وليس عرفي، مثلاً: نعلم يقينا ان من افطر متعمدا في نهار شهر رمضان فعليه الكفارة ويجزيه ان يكفر بصوم شهرين متتابعين ولكن لا ندري هل ان للصوم موضوعية أم ان الموضوعية للجامع بين الصوم واطعام ستين مسكينا؟ فالجامع المحتمل جامع غير عرفي لان الجامع المحتمل جامع انتزاعي وهو عنوان الاحد، لأجل ذلك: فالتخيير المحتمل هو تخيير شرعي وليس تخييرا عقلياً.

فيقول السيد: أيضاً ينحل العلم الاجمالي حقيقة، ولا يكون ثمة فرق بين هذا المورد وبين دوران الأمر بين الأقل والاكثر الارتباطيين، والسر في ذلك: أن العلم الاجمالي اما بوجوب الصيام أو بوجوب احدى الخصال من الصوم أو الاطعام ينحل إلى علم وجداني تفسيري ان عنوان احدهما قطعا واجب فنحن نعلم وجدانا يقينا بأن عنوان أحدهما قطعاً محقق للكفارة، لكن لا ندري هل أخذ وراء عنوان احدهما خصوصية الا وهي خصوصية الصيام فتجري البراءة عن اعتبار هذه الخصوصية، ولا تعارض بالبراءة عن اللا خصوصية يعني اللا بشرطية لأنها ليست ضيقا ولا تكليفا. هذا تمام كلامه.

ولكن تلميذيه السيد الشهيد والسيد السيستاني: أشكل كل منهما على كلام الأستاذ بمدخل:

اما المدخل الاول الذي دخل به السيد الشهيد في بحوثه «الجزء5، صفحة357»: قال: ان ما ذكر السيد خلط بين احدهما المصداقي واحدهما العنواني، فالحكم أن كان في الواقع معين، يعني ان الواجب خصوص الصوم مثلا أو ان الواجب خصوص التراب فمتعلق الحكم الأحد المصداقي لأنّ متعلق الحكم خصوص الصوم، متعلق الحكم خصوص التراب، فمتعلق الحكم لو كان الحكم تعيينتا متعلقه الأحد المصداقي يعني واحد معين. بينما إذا كان الحكم في الواقع تخييرا بأن كان الحكم في الواقع انك مخير بين الاطعام وبين الصيام، فمتعلق الحكم الأحد العنواني وهو عنوان احدهما، فاذا لم ندري هل الحكم معين أو الحكم مخير؟ فنحن لم ندر هل أن متعلق الحكم الأحد المصداقي أم الأحد العنواني ولا جامع بينهما، فكيف يدعي السيد ان لدينا يقينا تفصيلا بالجامع وشكا بالخصوصية والحال انه ليس لدينا بأنه ليس لدينا جامع بين الأحد المصداقي والأحد العنواني؟ فكيف يدعى انحلال العلم الاجمالي انحلالا حقيقيا بيقين تفصيلي بالجامع؟. وذكرنا امس: ان هذه النكتة من الاشكال موجودة في كلام سيد المنتقى «الجزء5، صفحة 245».

وذكرنا الجواب عن هذا الاشكا ل امس وقلنا: بأن مدعى السيد الخوئي ان هناك جامعا بين الأحد المصداقي والأحد العنواني وهو الأحد اللا بشرط المقسمي، وهذا سبق الكلام فيه امس.

الاشكال الثاني على سيدنا: ما دخل به السيد الأستاذ «دام ظله»: حيث قال: وجود جامع بين الفرضين وهو عنوان الأحد أمر معقول، لكن هذا الجامع لا يقبل الدخول في العهدة، والسر في ذلك: ان انحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي فرع وجود يقيني بامر يدخل في عهدة المكلف فاذا وجد يقين تفصيلي بعنوان يدخل في عهدة المكلف صح لنا ان نقول: القدر المتيقن مما دخل في العهدة هو كذا ونشك في الزائد عليه، كما قلنا بذلك في دوران الأمر بين الأقل والاكثر الارتباطيين، حيث قلنا: إذا دار الأمر هل ان الواجب الصلاة؟ أم ان الواجب الصلاة بشرط الاطمئنان؟ فيصح لنا ان نقول: بأن هذا العلم الإجمالي انحل إلى علم تفصيلي وهو اليقين بوجوب ذات الصلاة، لأن عنوان ذات الصلاة مما يقبل الدخول في العهدة، فيقال القدر الميقن مما دخل في عهدة المكلف هو وجوب ذات الصلاة، وأما ما زاد فهو مشكوك ومجرى للبراءة. اما عنوان احدهما اللا بشرط المسقمي الجامع بين الأحد المصداقي والاحد العنواني هذا لا يقبل الدخول في العهدة، إذ لا معنى ان يلزم المكلف بعنوان احدهما ولا معنى لاشغال ذمة المكلف بعنوان احدهما إذ عنوان احدهما متمحض في الرمزية والمشيرية ولا موضوعية له ولا نفسية له كي يقبل انشغال العهدة به، فهو مجرد عنوان مشير ورمز محض وما يقبل الدخول في العهدة فرع أن يكون موضوع ذا نفسية وموضوعية كي تنشغل العهدة به، فاليقين بعنوان احدهما كاليقين بوجود حجر في الاحساء مثلا، لا يترتب عليه أي شيء، ولا يكون موجبا لانحلال العلم الاجمالي انحلالا حقيقيا.

ولكن، حتى لو كان عنوان احدهما عنوانا مشيرا ومتمحضا في الرمزية فإن ما يدخل في العهدة منشأ الانتزاع والمرمز اليه وليس ما يدخل في العهدة العنوان بما هو عنوان فيقول السيد الخوئي: إذا شككتم هل ان الواجب خصوص الصوم أو ان الواجب الجامع بين الصوم والإطعام إذن فالمشار اليه بعنوان احدهما الذي هو منشأ لانتزاع عنوان احدهما اشتغلت الذمة به، وذلك المشار اليه جامع متحصل اما في ضمن الأحد المصداقي أو ضمن الأحد العنواني، فهناك جامع يتحصل بأي منهما فإذا تيقنا باشتغال العهدة بالمشار اليه صار الشك في اعتبار الخصوصية شكا بدويا مجرى للبراءة. هذا هو التقريب الاول لجريان البراءة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وهو مبني على الانحلال الحقيقي.

التقريب الثاني: وهو ان سيد المنتقى والسيد الشهيد والسيد الاستاذ: الذين ذهبوا لعدم الانحلال الحقيقي بين التعيين والتخيير هل يقولون بمنجزية العلم الاجمالي؟ يقولون لا، ولكننا نذهب للانحلال الحكمي. بمعنى: ان البراءة تجري في أحد الطرفين بلا معارض، فلأجل عدم العارض نقول بالانحلال لا لأجل وجود يقين تفصيلي بالجامع.

وبيان ذلك بحسب ما ذكره السيد الشهيد في «الجزء 5 صفحة354»، قال: إذا لم ندري هل يجب خصوص التراب أم الجامع بينه وبين مطلق الارض؟ نقول: تجري البراءة عن اعتبار الخصوصية، ولا تجري البراءة عن تعلق الحكم بمطلق وجه الأرض، لأنّه لابّد لنا من غرض لجريان البراءة عن تعلق الحكم لمطلق وجه الارض، فإن كان الغرض من جريان البراءة عن تعلق الحكم بمطلق الأرض هو الترخيص في الاخص - يعني الترخيص في ترك السجود على الأرض من اساسها - فهذا ترخيص في المخالفة القطعية، وان كان الغرض من جريان البراءة انك إذا سجدت على التراب فلا يجب عليك السجود على الارض، فمن الواضح ان من سجد على التراب فقد سجد على الأرض قطعا، فجريان البراءة لغو، اذن فجريان البراءة عن تعلق الحكم بمطلق الأرض إما ترخيص في المخالفة القطعية أو لغو، إذ لابّد به من أثر، فإمّا أثره أنك عندما يقول هل يختص السجود بمطلق الأرض أم لا؟ تجري البراءة عن ذلك، فهل المقصود بالبراءة أن لا تسجد على الأرض أصلاً ترخيص بالمخالفة القطعية؟، أم المقصود بالبراءة أنّك إذا سجدت على التراب فلا يجب عليه السجود على الأرض؟، هذا لغو، لأنّه بالسجود على التراب حصل السجود على الأرض، فإذا لم تجر البراءة عن تعلق الحكم بالجامع فقد جرت البراءة عن تعلق الحكم الخصوصية بلا معارض.

والنتيجة: أنّ الحق مع القائلين: بأنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير مجرى للبراءة وليس مجرى للاشتغال، خلافاً للسيد الحكيم الذي تبع أستاذه في أنّ القاعدة هي الاشتغال في المستمسك: «الجزء5، صفحة276»، تبعاً لما ذكره أستاذه العراقي في «نهاية الافكار، ج3، ص397». فتأمل.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.