الدرس 117

منجزية العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

ويلاحظ عليه: أنّ مفاد دليل الحجية: أن الحجية حكم انحلالي يتحصص على أفراده في عرض واحد، فإذا افترضنا أن في البين اصلين الا وهما: أصالة الطهارة في ماء باء، وأصالة الطهارة في ماء الف. فإن مقتضى دليل الحجية ان كل منهما حجة في عرض واحد ولا طولية بين الحجتين، فإذا افترضنا ان أصالة الطهارة في ماء ألف لا تجري لوجود أصل حاكم الا وهو استصحاب الطهارة فسقطت عن الحجية لأجله، والنتيجة هي: ان حجية أصالة الطهارة في طرف باء في عرض سقوط أصالة الطهارة في طرف ألف لا ان حجية أصالة الطهارة في طرف باء تتوقف على السقوط بل هي في عرضه، والإشكال كان مبنيا على ان حجية أصالة الطهارة في طرف باء تتوقف على سقوط أصالة الطهارة في طرف الف، فإذا توقف السقوط على جريان استصحاب الطهارة كانت أصالة الطهارة في طرف باء متوقفة على استصحاب الطهارة في طرف ألف وما يتوقف على الشيء لا يعقل ان يكون معارضا له.

ولكن الصحيح: أنّ حجية أصالة الطهارة في طرف باء في عرض سقوط أصالة الطهارة في طرف ألف لا انها متوقفة عليها، فلا توجد طولية في الحجية بين أصالة الطهارة في طرف باء واستصحاب الطهارة في طرف ألف فيقال ما يتوقف على الشيء فلا يعقل ان يكون معارضا له. هذا بلحاظ وجود الشرط.

وأما بلحاظ وجود المانع: فقد يدعى انه إذا تم المقتضي لجريان أصالة الطهارة في طرف باء وتوفر الشرط فيها، فإن هناك مانعا يمنع من المعارضة بينها وبين استصحاب الطهارة في طرف الف. والمانع هو: ان المعَارض لا يكون معارِض، إذ المفروض ان أصالة الطهارة في طرف باء هو معارض في نفسه بأصالة الطهارة في طرف ألف وما كان معارضا في نفسه فكيف يكون معارضا لاستصحاب الطهارة في طرف الف. والجواب عن ذلك واضح: لأنّ هذا الاشكال انما يتم لو كان بين المعارضتين طولية في الوجوب بأن يقال: تعارض أصالة الطهارة في طرف باء بأصالة الطهارة في طرف ألف متقدم وجودا على معارضة أصالة الطهارة في طرف باء واستصحاب الطهارة في طرف الف. اما إذا لم يكن بين المعارضتين ترتب وجودي فلا مانع ان تكون في ان واحد، فأصالة الطهارة في طرف باء معارضة لأصلين في طرف ألف وهما: استصحاب الطهارة واصالة الطهارة على ما مضى بيانه.

فتحصل من ذلك كله: ان ما أفاده السيد الشهيد: من انحلال العلم الاجمالي بالأصل الحاكم وهو استصحاب الطهارة في طرف ألف غير تام بل المعارضة بين الطرفين مستحكمة. هذا تمام الكلام فيما استثناه سيدنا ق في مصباح الأصول.

الاستثناء الثاني: ذكرنا عند دخولنا في هذا البحث: أن عنوان هذا البحث هو هل أن العلم الاجمالي ينحل بالأصل الطولي أم لا؟. وهذا المقسم يتصور فيه قسمان: قسم: يكون الأصل الطولي الزاميا، وقسم: يكون الأصل الطولي ترخيصيا، وخصوصا في باب الصلاة تتكرر هذه المسالة.

والقسم الثاني: وهو ما إذا كان الأصل الطولي ترخيصيا، فهذا ايضا يتنوع إلى نوعين: إذ تارة تكون الاصول الطولية والعرضية متسانخة، وتارة تكون متخالفة. والمتخالفة منها ايضا على نحوين: إذ تارة يكون الخطاب المختص هو الأصل الطولي، وتارة يكون الخطاب المختص هو الاصل العرضي. فنحن نمثل لجميع هذه الفروض حتى يتبين الفرق بينها. فنقول: إذا لم يكن الأصل الطولي الزاميا بل كان ترخيصيا. هذا القسم: قلنا: بأن له نوعين:

النوع الاول: ان تكون الاصول الطولية والعرضية متسانخة، يعني كلها من دليل واحد، مثلا: إذا علمنا اجمالاً بنجاسة أحد الماءين وقد غسلنا بأحد المائين ثوبا، اي قبل العلم الاجمالي غسلنا الثوب بالماء أو حين العلم الاجمالي غلسنا الثوب بالماء، المهم أن الغسل ليس متأخراً عن العمل الاجمالي فإذا غسلنا الثوب بماء باء وفي طول ذلك حصل لنا علم اجمالي بنجاسة ماء ألف أو نجاسة ماء باء، فإن هذا العلم الاجمالي يتولد منه علم اجمالي آخر وهو اما نجاسة ألف أو نجاسة الثوب الذي غسل بماء باء لا محالة، وحينئذ: فالأصول الجارية إذا لم نحرز الحالة السابقة لا في الماءين ولا في الثوب فالأصول الجارية في الجميع كلها من دليل واحد الا وهو دليل أصالة الطهارة. فنقول: هل ان أصالة الطهارة في ماء ألف تتعارض مع أصالة الطهارة في ماء باء وتصل النوبة لأصالة الطهارة في الثوب الذي غسل بماء باء بلا معارض فينحل العلم الاجمالي في الثوب، فنبني على طهارته وإن كنا نجتنب الماءين ولكن في الثوب نبني على انحلال العلم الاجمالي لجريان أصالة الطهارة فيه بلا معارض. أم ان المعارضة ثلاثية؟ اي ان أصالة الطهارة في ماء ألف تعارض اصلين في ذلك الطرف وفي ذلك الطرف، اي تعارض أصالة الطهارة في ماء باء وفي الثوب الذي غسل بهذا الماء. لا إشكال ان بين أصالة الطهارة في ماء باء وأصالة الطهارة في الثوب الذي غسل به طولية، لأنّ بينهما سببية ومسببية، حيث ان الشك مسبب عن الشك في طهارة الماء فأصالة الطهارة في الماء حاكمة على اصالة الطهارة في الثوب فبينهما سببية ومسببية، فلأجل ذلك: أصالة الطهارة في الثوب أصل طولي، فإذا قلنا بأن الطولية شافع مشفع اي ان الطولية أحد الاصلين سبب لانحلال العلم الاجمالي وجريان الأصل الطولي يكون بلا معارض ينحل العلم الإجمالي كما ذهب اليه المحقق العراقي نقضا على القائلين بالاقتضاء، واذا لم نقل كما لم نقل فالمعارضة تكون ثلاثية ويكون العلم الاجمالي منجزا. واما ما توهمه بعض المقررين لأبحاث السيد الشهيد: بأن هذا مبني على الطولية بين الاصول المتوافقة ولكن مبنى السيد الشهيد ان لا طولية متوافقة فأصالة الطهارة في طرف الثوب هي أصالة الطهارة في الماء وبما انهما متوافقان فلا طولية بينهما، هذا غير صحيح ومخالف لمبنى السيد الشهيد نفسه، فإن السيد الشهيد انما يرى الطولية إذا كانا في مورد واحد، فيقول: إذا جرى الاصلان في مورد واحد فإن كانا متوافقين فلا طولية وان كانا مختلفين فلا طولية، اما إذا جريا في موردين أحدهما في الماء والآخر في الثوب الذي غسل به فإن بينهما طولية لا محالة وان كانا متوافقين لكونهما من أصل واحد. اذن فيبتني حل المسألة على ما ذكر هل ان الطولية موجبة للانحلال أو غير موجبة ولا دخل لتوافق الاصول أو عدم توافقها.

واما إذا افترضنا النوع الثاني: وهو: ان الاصول في مورد العلم الاجمالي وان كانت ترخيصية لكنها ليست من دليل واحد، بل بينها اختلاف في الدليل. فقد قلنا: ان هذا النوع له فرضان:

الفرض الاول: ان يكون الخطاب المختص هو الأصل الطولي، كما إذا علمنا اجمالا اما بنجاسة الماء أو نجاسة التراب، فهنا تتعارض أصالة الطهارة في الماء مع أصالة الطهارة في التراب وفي الماء يوجد أصل طولي مخالف يعني مختص بالماء الا وهو أصالة الحل، إذ لا معنى لجريان أصالة الحل في التراب، اذن فحينئذ بين أصالة الحل في الماء وبين أصالة الطهارة في نفس الماء طولية لان الشك في حلية الماء مسبب عن الشك في طهارته إذ لولا الشك في طهارته ما حصل الشك في حليته، فأصالة الحل في الماء في طول أصالة الطهارة فيه فبينهما طولية الا ان هذا الأصل الطولي خطاب مختص يعني لا يتصور جريانه بالتراب وإنما يختص بالماء. فإذا قلنا بالنكتة التي بنى عليها السيد الشهيد: من ان دليل أصالة الطهارة منصرف عن مورد العلم الاجمالي، والسر في ذلك: هو التعارض الداخلي بأن أصالة الطهارة في طرف التراب معارضة بأصالة الطهارة في طرف الماء فنتيجة هذا التعارض الداخلي أصلاً أصالة الطهارة منصرف عن مورد العلم الاجمال. فتبقى أصالة الحل في طرف الماء بلا معارض وينحل بها العلم الاجمالي.

واما على النكتة التي اخترناها: وهي: أن غاية ما يفيده احتفاف دليل الأصل في المرتكز العقلائي القائم على انه لا يضحى بغرض لزومي لأجل غرض ترخيصي غاية ما يترتب عليه سقوط الاطلاق الاحوالي لدليل أصالة الطهارة فيبقى الاطلاق الافرادي لها ومقتضى بقاء الاطلاق الافرادي هو جريان أصالة الطهارة في طرف التراب غايته انه لا تجري فيها عند جريانها في الماء، واما جريانها في التراب على نحو القضية المهمة التي هي في قوة الجزئية فلا يمنع منه الارتكاز العقلائي، وبما ان دليل أصالة الحل في طرف الماء له اطلاق احوالي فتقع المعارضة بين الاطلاق الاحوالي لأصالة الحل في طرف الماء مع الاطلاق الافرادي مع أصالة الطهارة في طرف التراب وتبقى المعارضة فيبقى العلم الإجمالي منجزاً.

النحو الثاني: ان يكون الخطاب المختص هو العرضي وليس الطولي، ما إذا علمنا اجمالا بنجاسة أحد الماءين وكان في طرف ماء ألف استصحاب الطهارة، فإن الخطاب المختص وهو استصحاب الطهارة هو الأصل العرضي يعني هو الأصل الحاكم، فبحثنا هناك هل ينحل العلم الاجمالي أم لا؟.

المحقق العراقي قال: ينحل العلم الاجمالي في هذا المثال بناء على مسلك الاقتضاء بالمسلك الطولي الذي هو أصل مسانخ، أي يتعارض استصحاب الطهارة في ألف مع أصالة الطهارة في باء، تصل النوبة لاصالة الطهارة في ألف بلا معارض. وسبق البحث فيه.

وذهب السيد الشهيد للانحلال ايضا، ولكن بالعكس، لا بالأصل الطولي ولكن بالأصل العرضي وهو الأصل الحاكم، اي ان أصالة الطهارة في طرف باء واصالة الطهارة في طرف ألف أساساً لا يجريان لأجل الانصراف فيجري استصحاب الطهارة في طرف ألف بلا معارض وينحل به العلم الاجمالي، وسبقت المناقشة فيه.

فعلى المختار: لا فرق بين النوعين في منجزية العلم الاجمالي وعدم انحلاله اي سواء كان الخطاب المختص هو الحاكم أو هو المحكوم هو الحاكم أو هو المحكوم هو العرضي أو هو الطولي. هذا كله في القسم الأول، الا وهو ما إذا كان الأصل الطولي ترخيصيا.

القسم الثاني: الذي تعرض له سيدنا في «مصباح الاصول»: ما إذا كان الأصل الطولي إلزامياً: فإذا علمنا اجمالا إما بنقيصة ركوع في الصلاة التي بيده أو زيادة ركوع في الصلاة السابقة، مثلا: شخص يصلي صلاة العصر وبعد ان قام إلى الركعة الثانية علم اجمالا اما نقص ركوع من صلاة العصر اي من الركعة السابقة أو زاد ركوع في صلاة الظهر، فهنا أفاد سيدنا: ان الاصلين العرضيين يتعارضان، وهما: قاعدة الفراغ في صلاة الظهر لإثبات عدم زيادة فيها، وقاعدة التجاوز في صلاة العصر لأنّه شك في نقيصة الركوع بعد تجاوز محله ودخوله في الركعة الثاني، فيقع التعارض بين قاعدة الفراغ في صلاة الظهر وقاعدة التجاوز في صلاة العصر وتصل النوبة للأصول الطولية، وهي الاستصحاب، والاستصحابان الطوليان متعاكسان، لأنّه في صلاة الظهر يجري استصحاب عدم الزيادة لأنّه يشك في الزيادة فيجري استصحاب عدم الزيادة وهو أصل ترخيصي، بينما الاستصحاب الجاري في صلاة العصر استصحاب عدم الإتيان بالركوع لأنّه يشك أنه ركع أم لا، وقاعدة التجاوز سقطت بالمعارضة فوصلت النوبة إلى استصحاب عدم الإتيان بالركوع واستصحاب عدم الإتيان بالركوع أصل الزامي، فصار الأصل الطولي في أحد الطرفين أصلاً الزاميا. فهنا أفاد سيدنا انه: بعد ان تساقط الاصلان العرضيان ووصلت النوبة للأصلين الطوليين وفرضنا ان الأصل الطولي في الصلاة الثانية أصل الزامي، فإذا كان الزاميا جرى الأصل الطولي الترخيصي في صلاة الظهر بلا معارض، لأنّه إنما يعارضه أصل ترخيصي والمفروض أنّ الأصل الموجود أصل الزامي، ولا معارضة بين الأصل الإلزامي والأصل الترخيصي.

فالنتيجة: انه يجري استصحاب عدم الزيادة في صلاة الظهر بلا معارض فلا يجب عليه الا اعادة صلاة العصر.

فهل ان ما ذكره سيدنا «قده» تام أم لا؟. يأتي البحث عنه ان شاء الله. وبه نختم الكلام في مسألة منجزية العلم الإجمالي وندخل في الطولية بين العلوم الإجمالية.

والحمدُ لله ربِّ العالمين