مظاهر الرحمة في شخصية الإمام الحسن

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ

انطلاقا من الآية المباركة، نتحدث في محاور ثلاثة:

المحور الأول: خصائص الرحمة

هناك سؤال يتبادر إلى ذهن كل إنسان، لماذا افتتحت كل سورة من سور القرآن بصفة الرحمة، «بسم الله الرحمن الرحيم» لماذا لم تفتتح بصفة أخرى من صفات الله عز وجل، كالعالم، القادر، الحي، القيوم، أو غير ذلك من الصفات، ما هي الخصوصية في صفة الرحمة بحيث أصبحت مفتاحا لكل سورة من سور القرآن الكريم؟

علماء العرفان يقولون: صفة الرحمة تتميز بخصائص متعددة جعلتها مفتاحا لكل سورة من سور القرآن:

الخصوصية الأولى:

أن صفة الرحمة تتضمن عدة صفات من صفات الله عز وجل، الرحمة هي: إفاضة الوجود، فكل صفة تتضمن إفاضة الوجود، فهي مصداق للرحمة، العفو مصداق للرحمة، وكذلك المغفرة، والخلق، والرزق، هذه الصفات الإلهية: خالق، رازق، غافر، قابل للتوب، كل هذه الصفات تدخل ضمن صفة واحدة ألا وهي صفة الرحمة، لأن كل هذه الصفات من قبيل إفاضة الوجود، وإفاضة الوجود هي الرحمة، فجميع هذه الصفات تندرج تحت صفة الرحمة.

الخصوصية الثانية:

الرحمة وجه الله، لكل إنسان وجه، الوجه هو الذي يقابل به الإنسان الآخرين، وهناك صفة يقابل بها الله جميع المخلوقات، هناك صفة هي وجه لله بإزاء جميع المخلوقات، ألا وهي صفة الرحمة، الرحمة هي وجه الله، هي الصفة التي يتعامل بها الله مع جميع مخلوقاته، ومع جميع الموجودات في هذا الكون، لذلك فالرحمة وجه الله، وقد ورد في تفسير الآية المباركة ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يعني الرحمة، وقد ورد في تفسير الآية المباركة ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ وجه الله هي صفة الرحمة التي يقابل بها الله، وبتعامل بها الله مع جميع مخلوقاته، ومع جميع الموجودات في هذا الكون.

الخصوصية الثالثة:

الرحمة هي الوجود الظلي، علماء العرفان يقولون: هل يمكن أن يتحول الإنسان من عالم الناسوت إلى عالم اللاهوت، هل يمكن أن يصبح هذا الإنسان المادي إلهيا، هل يمكن أن يتقمص المخلوق شخصية الخالق، هل يمكن أن يصبح هذا الإنسان مظهرا ومثالا للخالق، صورة للخالق؟

نعم يمكن، من خلال صفة الرحمة، ورد عن النبي محمد أنه قال: ”تخلقوا بأخلاق الله“ وكيف للإنسان بأن يتخلق بأخلاق الله، أبرز أخلاق الله التي يمكن للإنسان أن يتقمصها، ويصبح إلهيا مثالا لله تبارك وتعالى، هي صفة الرحمة.

عندما يصبح الإنسان قطعة من الرحمة، يصبح مظهرا لله تبارك وتعالى، لاحظوا قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا لماذا الآية قالت عباد الرحمن، ولم تقل عباد الله، أو عباد الخالق، بل قالت عباد الرحمن؟ يعني أن هؤلاء مظهر للرحمن على الأرض، الذين يحملون صفة التواضع، يمشون على الأرض هونا، الذين يحملون رسالة السلام ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا الذين يحملون هاتين الصفتين هم مظهر للرحمة الإلهية، هم أناس تخلقوا بأخلاق الله، لذلك هم مؤهلون لأن يلقبوا بعباد الرحمن ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا الرحمة هي الوجود الظلي، الوجود الذي يصبح به الإنسان ظلا لله على الأرض، تمتع الإنسان بالرحمة، لذلك كانت الرحمة هدفا للوجود، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ يعني من أجل الرحمة خلقهم، خلق الإنسان لكي يكون قطعة من الرحمة، لكي يكون مظهرا لله في الرحمة، لكي يكون وجودا ظليا لله من حيث صفة الرحمة، ولذلك اعتبر القرآن الرحمة هدف الرسالات، وهدف الأنبياء، وهدف المصلحين ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

المحور الثاني: قيادة أئمة أهل البيت

هناك مقالة يطرحها بعض الباحثين تتعلق بقيادة الأئمة من أهل البيت كعلي، والحسن، والحسين، هذه المقالة تتلخص في أن الأئمة لم يكونوا قادة، وإنما كانوا أئمة، علي والحسن والحسين ما كانوا قادة، وإنما هم أئمة، وفرق بين القيادة والإمامة:

الإمامة: مقام روحي لمن تحلى بالعلم والطهارة، كل من امتلك العلم بأسرار التشريع، وبتعاليم السماء، وملك الطهارة والعصمة، فهو إمام، وهؤلاء كانوا أئمة، كانت وظيفتهم هداية الخلق ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا.

القيادة: هي فن إداري، القائد هو من يمتلك القدرة على صنع الظروف المناسبة لتحقيق أهدافه، وتلبية طموحاته، القائد هو الذي يخضع الظروف لطموحاته، وأهدافه، هو الذي يصنع الظروف، لا أن الظروف تصنعه، أما الإنسان الذي يضطر لأن يستسلم للظروف، وينقاد لها، ويعجز عن تغيير الظروف فليس بقائد وإن كان إماما، قد يكون إماما لكنه ليس بقائد، القيادة فن تغيير الظروف، القيادة فن صنع الظروف، القيادة فن أن تخلق الظروف التي تساعدك على تلبية طموحاتك، وتحقيق أهدافك.

عندما نقوم بمقارنة بين النبي محمد وهؤلاء الأئمة علي والحسن والحسين، نجد أن النبي كان قائدا، النبي كان قائدا وإماما، لأنه استطاع أن يخضع الظروف لأهدافه، لأنه استطاع أن يصنع الظروف المناسبة لتحقيق طموحه، وهي إقامة الدولة الإسلامية، استطاع النبي أن يقيم الدولة الإسلامية من خلال عاملين:

1/ العطاء الاقتصادي، جعل سهما من الزكاة للمؤلفة قلوبهم، هذا العطاء كان عاملا سياسيا مهما في تحقيق النبي لطموحاته ولتلبية أهدافه.

2/ التحالف الاجتماعي، النبي تزوج من قبائل مختلفة ليعقد تحالفات تسند ظهره، وتقيه من شر الأعداء، النبي تزوج من قبائل متعددة، ومن قبائل معروفة، ليكون عقودا من التحالف تشكل ظهرا يساعده على إقامة دولته، وتحقيق طموحاته، تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، تزوج جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق، تزوج عائشة بنت أبي بكر، تزوج حفصة بنت عمر، تزوج النبي مختلف الزوجات كعامل سياسي من أجل تحقيق طموحه وهو إقامة الدولة الإسلامية.

إذن كان قائدا، لأنه استطاع أن يصنع الظروف المناسبة لتحقيق أهدافه، أما علي والحسن والحسين فهم لم يخلقوا الظروف وإنما استسلموا للظروف، علي ما استطاع أن يبقي حكومته ودولته أكثر من خمس سنوات، وقد كانت فترة خلافته فترة حروب، فترة مضطربة، فترة كانت مسرحا للحروب والقلاقل والاضطرابات الاجتماعية، إذن علي لم يستطع أن يصنع الظروف التي تنسجم مع تحقيق أهدافه، وتلبية طموحاته، لم يكن قائدا، بل كان إماما.

الحسن لما رأى أنه لا يقدر على تغيير الظروف، ولا يقدر على صنع الظروف، استسلم للواقع، وانسحب من دائرة الصراع، وابتعد عن هذا الميدان.

والحسين لما رأى نفسه مخذولا وحيدا مفردا، فضل أن يموت وأن ينتقل إلى جوار ربه، لأنه لم يستطع خلق الظروف المناسبة لتحقيق أهدافه، إذن هؤلاء كانوا أئمة، ولم يكونوا قادة.

هذه هي المقالة التي يطرحها بعض الباحثين.

نحن لدينا ملاحظات على هذه المقالة:

الملاحظة الأولى:

نحن نسلم بهذه القاعدة، القائد هو الذي يستثمر الظروف لتحقيق أهدافه، وأما من استسلم للظروف دون أن يحقق أهدافه فليس بقائد، ولكن إذا حددنا ما هي أهداف الإمام علي استطعنا أن نعرف هل أن عليا حقق أهدافه فكان قائدا، أم أنه لم يحقق أهدافه فليس بقائد وإن كان إماما، لو كان هدف الإمام علي أن يصبح رمزا للسلطة، وأن يصبح رأسا للدولة الإسلامية آنذاك، فإن عليا لم يحقق أهدافه، لأنه بقي خمس سنوات في حكومة مضطربة غير مستقرة، لو كان هدف علي أن يصبح رأس السلطة، فإن عليا لم يحقق أهدافه، فإن عليا لم يكن قائدا ناجحا، لأنه لم يصل إلى هذا الهدف الذي نشده وطلبه.

أهداف الأئمة لم تكن أهدافا مرحلية، لم تكن أهداف قصيرة الأمد، المناسب لعظمة أهل البيت ومكانتهم أن تكون أهدافهم أهدافا خالدة، لا أهدافا مرحلية، أن تكون أهدافهم بعيدة الأمد، لا أن تكون أهدافهم قصيرة، المنسجم مع شخصيات أهل البيت الخلود في الهدف، وطول الأمد في الهدف.

إذن ما هي أهداف علي؟

كان هدف علي أن يصبح رمزا للعدالة الإنسانية تنظيرا وتطبيقا، علي رفض السلطة، عندما بويع رفض البيعة، قال: أنا لكم وزير، خير لكم مني أمير، ما كان هدف علي أن يصبح رأس السلطة، كي يقال بأن عليا لم يحقق هدفه، لا بل كان هدف علي أن يصبح رمزا للعدالة الإنسانية، أن يصبح رمزا لإقامة دولة الإنسان التي تحترم الإنسان من حيث أنه إنسان، علي حقق هدفه الذي كان يريده، أربع سنوات وأشهر استثمرها علي في تحقيق العدالة الإنسانية تنظيرا وتطبيقا، فأصبح علي رمزا للعدالة الإنسانية على طول التاريخ.

من الناحية التنظيرية:

لم يجئنا تراث عن العدالة، وعن تفاصيل دولة الإنسان، وعن أسس وأصول دولة الإنسان، كعهد علي إلى مالك الأشتر، ليس لدينا تراث مثله أبدا، لا في كلام النبي، ولا في كلام الصحابة، ولا في كلام الأئمة الآخرين، لم يردنا تراث يتحدث عن دولة الإنسان وأصولها وأطرها وأسسها كعهد علي لمالك الأشتر، الذي افتتحه بقوله: ”وأشعر قلبك الرحمة للرعية واللطف بهم والرفق إليهم، فإن الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق“ علي من الناحية التنظيرية كان رمزا لدولة الإنسان وللعدالة الإنسانية.

من الناحية العملية:

علي كان رمزا لجميع من ينشدون العدالة، ولجميع من يصبون للعدالة، جاء إليه ابن عباس، وإذا الإمام يخصف نعله، التفت إلى ابن عباس، قال: يا ابن عباس، ما قيمة هذا الحذاء؟ قال: لا قيمة لها، قال: هي خير لي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقا، أو أدفع باطلا.

يعني أن هدفه ليس أن يكون رأس السلطة، بل أن يكون رمزا للعدالة، وأقبل إليه أخوه عقيل يستميحه صاعا من بر زيادة على حصته من بيت مال المسلمين، فأحمى له حديدة، وقال فيما قال: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، والله لو كان المال لي لساويت بينهم، وكيف وهي أموالهم!

علي كان هدفه أن يكون رمزا للعدالة، وحقق هدفه، استثمر هذه السنين القلائل في تحقيق هدفه، إذن علي كان قائدا ناجحا بكل ما للنجاح من معنى، لأن هدفه تحقق، لم يكن هدفه مرحليا قصيرا، بل كان هدفه خالدا، أن يكون رمزا للعدالة، رمزا لدولة الإنسان، وهذا ما تحقق في علي.

الحسين لم يكن هدفه أن يصل للسلطة، وقد كان يعلم بمقتله ومصرعه، كما يتضح من النصوص، الحسين كان هدفه أن يكون رمزا للثورة، رمزا للضمير الحي، المنتفض على الواقع المأساوي آنذاك، وهذا ما تحقق للحسين في تلك الفترة القصيرة التي استثمرها.

إذن نحن نسلم مع أن القائد هو من حقق أهدافه، القائد الناجح الفاعل هو الذي استثمر الظروف في تحقيق أهدافه، وعلي والحسين قد استثمرا الظروف في تحقيق أهدافهما الخالدة، الطويلة الأمد، فهما من القادة الناجحين، لا من القادة الذين كتب عنهم التاريخ أنه لا أثر لهم، ولا وجود لهم، ولا بصمات لهم في مسيرة الأمة الإسلامية.

الملاحظة الثانية:

هناك فرق بين مرحلة التأسيس، ومرحلة التفعيل، الدولة الإسلامية مرت بمرحلتين: مرحلة تأسيس، وقد كان ذلك في زمان النبي محمد ، ومرحلة تفعيل، يعني تمثيل وتحقيق أهداف الدولة الإسلامية، وهذا كان في مرحلة أخرى بعد وفاة النبي

تختلف عوامل مرحلة التأسيس عن مرحلة التفعيل:

مرحلة التأسيس:

استخدم النبي المداراة، وقد ورد عنه : ”أمرني ربي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض“ وكان يصد حتى عن المنافقين، المنافقين كانوا يختلقون اختلاقات، ويضعون فتنا واضطرابات، والنبي يصد عنهم في سبيل إتمام مرحلة التأسيس، حتى قالوا عنه أنه أذن، فنزل قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ إذن النبي استخدم لغة المداراة، أعطى سهما من الزكاة للمؤلفة قلوبهم، أقام عقدا في التحالف مع القبائل الأخرى، تزوج من القبائل المختلفة، دارى المنافقين كي يتقي شرهم، كانت المداراة عنصرا ضروريا لإتمام مرحلة التأسيس، أما بعد أن تأسست الدولة، وضرب الإسلام بجرانه في الشرق والغرب، أصبح الإسلام كيانا قائما، انتهت لغة المداراة التي كان يحتاج إليها القائد لإتمام مرحلة التأسيس.

مرحلة تفعيل الأهداف:

تطبيق أهداف الدولة الإسلامية، فلو أن عليا استخدم لغة المداراة في مجال تطبيق أهداف الدولة الإسلامية لكان ذلك نقضا للعدالة، ونقضا لأسس الإسلام وأهدافه.

إذن ما تقتضيه مرحلة التأسيس من لغة المداراة، تختلف عن ما تقتضيه مرحلة التفعيل لتحقيق الأهداف، والمناسب للمرحلة الأولى لا يناسب المرحلة الثانية، علي لو استخدم لغة المداراة، وقرب قريش، وقرب الوجهاء، وأغدق عليهم الأموال والثروات، لاعتبر ذلك مصادما لمنطق العدالة، واعتبر ذلك خرقا لأهداف الإسلام والقرآن الكريم الذي يقول: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ يقول الإمام علي : «أتأمرونني أن أطلب النصر للجور! والله لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل باليمامة أو بالحجاز من لا عهد له بالشبع، ولا طمع له بالقرص، أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى، أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر»

ولأجل أن مرحلة علي كانت مرحلة تفعيل، الإمام الحسن أصر على تفعيل الدولة الإسلامية، أو يترك الأمر، والحسين أصر على تفعيل أهداف الدولة الإسلامية ولو كلفه دمه وأهله قرابين لله تبارك وتعالى.

الملاحظة الثالثة:

حتى في علم الاجتماع القيادة تعتمد على ركنين، وليس على ركن واحد: كفاءة القائد، والأتباع المخلصون، إذن عدم وجود الأتباع المخلصين لا يعني أن القائد لم يكن كفؤا، لا يعني أن القائد لم يمتلك مؤهلات القيادة، وخصائص القيادة، قد يمتلك الإنسان مؤهلات القيادة، وخصائص القيادة، ولكن لا تكون لقيادته فاعلية نتيجة لفقدان الركن الآخر، وهو الأرضية الشعبية المؤهلة لتطبيق أهداف القائد.

مثلا: النبي محمد عاش 13 سنة في مكة المكرمة، لم يستطع أن يغير الظروف، لكن ذلك لا يعني أنه لم يكن قائدا، لأن القيادة الفاعلة تعتمد على ركنين: كفاءة القائد وهذا كان متوفرا في شخصية النبي لكن الركن الآخر لم يكن متوفرا، القاعدة الشعبية العريضة لم تكن متوفرة، قد تكون عوامل الإخفاق أكبر حجما من عوامل النجاح وهذا لا يعني خللا في القائد، وإنما يعني خللا في القاعدة الشعبية التي تحف بهذا القائد، النبي لم يستطع أن يغير شيئا في مكة لمدة 13 سنة، إلى أن هاجر منها، ولم يكن ذلك خللا في قيادته.

معركة أحد كانت معركة فاشلة، ولكن هذا لا يعني أن هناك خللا في قيادة النبي، بل كان سبب فشل معركة أحد يعني خللا في القاعدة والأرضية التي استند إليها النبي في إنجاح المعركة، لكن المعركة لم تنجح لفقدان الركن الثاني، وإن كان الركن الأول حاصلا.

إذن الركن الأول كان حاصلا في شخصية أهل البيت، علي والحسن والحسين كانوا يمتلكون مؤهلات القيادة، لكن فاعلية القيادة كانت تحتاج إلى الركن الثاني، وهي القاعدة الشعبية العريضة، وهذا الركن لم يكن متوفرا، لو أن النبي ابتلي بالمجتمع الكوفي، ما نجح في كثير من حروبه، لو أن النبي ابتلي بما ابتلي به علي والحسن والحسين لما حقق كثيرا من أهدافه، القاعدة الشعبية عنصر ضروري في فاعلية القيادة، المجتمع الكوفي آنذاك كان مجتمعا متقلب المزاج، كان مجتمعا متشعب الأهواء والآراء، كان مسرحا للفتن، والاضطرابات، والاختلافات، ما كان المجتمع الكوفي آنذاك قاعدة شعبية مؤهلة لفاعلية القيادة.

وهذا ما تحدث به أمير المؤمنين بكل صراحة: مالي إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في سكرة، ومن الذهول في غمرة، ما بالكم ما داركم ما طبكم ما دواؤكم! ملأتم قلبي قيحا!

إذن إذا كانت عوامل الإخفاق أكبر من عوامل النجاح في القاعدة الشعبية التي يستند إليها القائد، فهذا لا يعني خللا في كفاءته القيادية، وإنما الخلل في الركن الآخر، وهذا ما أفصح عنه الإمام الحسن الزكي قال: والله لو قاتلت معاوية، لأخذوا بعنقي، حتى يدفعوني إليه سرا، فلئن أسالمه وأنا عزيز أحب إلي من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمن علي بالعفو فتكون سبة على بني هاشم لا يزال يمن بها معاوية هو وعقبه على الحي منا والميت.

إذن هذه المقالة التي فككت بين القيادة والإمامة في شخصيات أهل البيت، مقالة غير دقيقة، وغير تامة.

المحور الثالث: مظاهر الرحمة في شخصية الإمام الحسن الزكي

افتتحنا بالآية المباركة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ قد يتساءل إنسان، لقد كان النبي رحمة للعالم في زمانه، فكيف يكون رحمة للعالم في غير زمانه؟

النبي رحمة للعوالم في كل زمان، لأن رحمته تجسدت في شخصيات أهل البيت فكانوا امتدادا لرحمته، رحمة النبي تجسدت في عدالة علي زمان خلافته، وتجسدت في سياسة وحكمة الإمام الحسن أيام إمامته، وتجسدت في ثورة الحسين وصرخته أيام إمامته، وتجسدت في عبادة زين العابدين وهو في محرابه، وتجسدت فيما نشره الإمامان الباقران الصادقان من العلم والمعرفة.

إذن ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ رحمة النبي تنوعت صورها، وتعددت مظاهرها، فتارة مظهرها عدالة علي، وتارة مظهرها ثورة الحسين، وتارة مظهرها عبادة علي ابن الحسين، وتارة مظهرها علم الإمامين الصادقين، رحمة النبي امتدت في شخصيات أبنائه من أهل بيت النبوة ومنهم الإمام الحسن الزكي الذي كان مظهرا للرحمة، إذا أردت أن ترى قطعة من الرحمة فانظر إلى الحسن الزكي، إذا أردت إنسانا يفيض رحمة ورقة ورأفة وعطفا، فهو الحسن الزكي، كان مظهرا لرحمة الله، مظهرا للوجود الظلي لله من خلال الرحمة التي تجسدت في شخصيته المباركة العظيمة.

كان مظهرا للرحمة الخلقية، ومثالا للتواضع، للإنسان الذي لا يستعلي، ولا يرى نفسه فوق الآخرين ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كان الحسن الزكي يمر على مجموعة من الفقراء يأكلون كسر الخبز اليابس، يقولون: تغذى معنا يا أبا محمد، فينزل من على بغلته ويجلس معهم، ويأكل معهم، وهو يقول: إن الله لا يحب المتكبرين ثم يدعوهم إلى بيته ويكرمهم ويغدق عليهم، كان مظهرا للآية المباركة ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا.

مظهرا للرحمة الاجتماعية، المجتمع يحتاج إلى رسالة سلام، مجتمعاتنا مليئة بالعنف، بالحزازات، بالبغضاء، بالشحناء، كل يحمل في نفسه على الآخر، حتى لو كان أخاه، حتى لو كان رحمه، مجتمعاتنا الإسلامية تحتاج إلى رسالة سلام، إلى رسالة تنبذ العنف، وتنشر الرحمة والرفق، وإذا كانت القيادة قيادة رحيمة انعكست رحمتها على أبناء الأمة، وإذا كانت القيادة قيادة عنيفة امتلأ المجتمع بمظاهر العنف، وإذا كانت القيادة قيادة تقطر رحمة ورأفة انتشرت صور الرحمة بين أبناء الأمة.

لقد كان الإمام الحسن الزكي مظهرا للرحمة في ضبط إرادته، وعواطفه، وانفعالاته، كان إذا مر عليه رجل شامي، قال: من هذا؟ قالوا: هذا الحسن ابن علي ابن أبي طالب، فيشتمه ويشتم أباه أمير المؤمنين، والإمام الحسن كان بإمكانه أن يحرك الناس ويقول لهم اثأروا لعلي واضربوه، لكنه أراد أن ينشر رسالة سلام، وأن يعلم الناس بأن يتقبلوا أمير المؤمنين لا بالإكراه، ولا بالضرب، ولا بالاعتداء، أن يتقبلوا أمير المؤمنين من خلال الخلق السامي، ومن خلال الصفات السامية، يلتفت هو إلى الرجل الشامي ويقول له: يا هذا، أظنك غريبا، ولعلك اشتبهت فينا، فإن كنت طريدا آويناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عطشا أرويناك، فهلا حولت رحلك إلينا، ونزلت ضيفا علينا، فإن لنا منزلا رحبا، وجاها عريضا، ومالا وفيرا، فأقبل معه الرجل، واستفاد من كرمه وعطائه، وانكب على يديه يقبلهما وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته فيكم أهل بيت النبوة.

مظهرا للرحمة الاقتصادية، الأمويون عندما وصلوا إلى السلطة سيطروا على الثروات، وعلى بيت مال المسلمين، وأغدقوا وأنفقوا الثروات على سلطانهم وقصورهم وأنهارهم، ومتعهم وحياتهم، وأبقوا الأمة الإسلامية ترزح تحت خط الفقر، فكان دور الإمام أن ينعش أوضاع الأمة، ويحرك أوضاعها من الناحية الاقتصادية، فكان ينفق ثروته على الفقراء والمحتاجين، والبائسين، حتى إنه قاسم ربه أمواله ثلاث مرات في حياته، حتى كان يمسك نعلا، ويتصدق بالنعل الآخر.

أقبل إليه رجل طرق بابه، وكان شيخ عشيرة قال:

لم يخب الآن من رجاك ومن
أنت    جواد   وأنت   iiمعتمد
لولا  الذي  كان  من iiأوائلكم

 
حرك  من  دون بابك iiالحلقة
أبوك  قد  كان  قاتل iiالفسقة
كانت  علينا السماء iiمنطبقة

أخرج الإمام إليه صرة الدراهم، مدها خلف الباب حتى لا يرى ذل السؤال على وجهه، قال:

خذها    فإني   إليك   iiمعتذر
لو كان في سيرنا الغداة عصا
لكن  ريب  الزمان  ذو  iiغير

 
واعلم  بأني  عليك ذو iiشفقة
أمست  سمانا  عليك iiمندفقة
والكف   مني   قليلة   النفقة

أقبل إليه شخص آخر قبل أن يتكلم، الإمام كان يعرف أنه مسؤول عن عائلة كبيرة، قال: أعطوه ما في الخزانة، قال: سيدي هلا انتظرت مسألتي وعرفت حاجتي، قال:

نحن   أناس   نوالنا   iiخضل
تجود   قبل   السؤال   أنفسنا
لو  علم  البحر  فضل  iiنائلنا

 
يرتع   فيه   الرجاء   iiوالأمل
خوفا على ماء وجه من يسل
لغاض  من  بعد فيضه iiخجل

*مظهرا للرحمة السياسية، الذين يقولون بأن الحسن لم يكن قائدا لأنه لم يحقق أهدافه، أخطئوا، الإمام الحسن كان قائدا سياسيا ناجحا لأنه حقق أهدافه، كان هدفه أن يكون مظهرا للرحمة، وقد كان مظهرا للرحمة، كان هدفه أن يكون صورة أخرى عن جده رسول الله الذي قال عنه القرآن الكريم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وقد تحقق هذا الهدف، الإمام الحسن الزكي كان هدفه أن يخلق معارضة إرادية، اختيارية ضد الظلم الأموي، لا فائدة من المعارضة بإكراه، لو أن الإمام الحسن خاض الحرب مع معاوية، لكانت المعارضة معارضة عن إكراه، عن جبر، عن اضطرار، لو خاض الحرب مع معاوية لكانت الحرب انتحارا وقضاء على الذرية الهاشمية بأكملها، بل على جميع المسلمين آنذاك.

الإمام الحسن أراد أن يترك الفرصة للأمة الإسلامية، هي تقرر مصيرها بنفسها، الإمام الحسن - وهذا من رحمته السياسية - إذا كانت المشكلة أنا ومعاوية، أنا أنسحب، فلتجرب الأمة الإسلامية تجربتها بنفسها، ولتقرر مصيرها بنفسها، فتح المجال للأمة الإسلامية أن تقرر مصيرها بنفسها، وأن تجرب حكم معاوية بنفسها، فإذا جربت حكم معاوية، وذاقت ظلمه وطغيانه، تولدت فيها المعارضة عن إرادة واختيار، كان يريد أن تكون في الأمة معارضة نابعة من ضميرها، من إرادتها، من اختيارها، ولا يمكن أن تتولد معارضة عن إرادة الأمة واختيارها إلا إذا تركت لها الفرصة، تجرب حكم معاوية بنفسها، ثم تتولد فيها معارضة داخلية، وفعلا تحقق هدفه، ترك الأمر، بدأت الأمة تجرب حكم معاوية، بدأت حلقات المعارضة تظهر يمينا وشمالا، معارضة إرادية، اختيارية، نابعة من ضمير الأمة، حجر ابن عدي معارض، رشيد الهجري معارض، ميثم التمار معارض، كميل ابن زياد الأسدي معارض، ثم جاء دور الحسين فكان قبلة للمعارضين والمنتفضين، وامتدت المعارضة إلى أن أطيح بالعرش الأموي.

إذن الإمام الحسن حقق هدفه، لم يكن هدفه البقاء في السلطة كي يقال بأنه انسحب ولم يكن ناجحا، بل كان هدفه أن توجد معارضة إرادية اختيارية نابعة من ضمير الأمة، وقد تحقق هذا الهدف عندما ترك الإمام الحسن الفرصة للأمة الإسلامية، إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية، هو حق لي، تركته لإصلاح أمر الأمة وحقن دمائها، والله لو قاتلت معاوية، لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما.

سالم معاوية من منطق الحكمة، والعزة، لا من منطق الاستسلام، والخوف، والجبن، وهو الذي كتب إليه معاوية: أنا خير منك يا أبا محمد، معاوية حقق هدفه ولكن هدفه كان مرحليا، أما الإمام الحسن فقد حقق هدفه وكان هدفا بعيد المدى، طويل الأمد، كان هدفه أن يكون رمزا للمعارضة السلمية التي تحققت في حياته، وامتدت لما بعد وفاته بصور مختلفة.

أنا خير منك يا أبا محمد، لأن الناس أجمعت علي ولم تجمع عليك، فكتب إليه الحسن الزكي : إن الذين أجمعوا عليك بين مكره ومطيع، فأما المكره فهو معذور في كتاب الله، وأما المطيع فهو عاص لله، وأنا لا أقول أنا خير منك لأنه لا خير فيك، فلقد برأني الله من الرذائل، كما برأك من الفضائل.