الدرس 119

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ذكر الأصوليون عدة تنبيهات:

التنبيه الأول: هل أنّ العلم الاجمالي منجز مع فرض كون الطرفين طوليين أم لا؟، إذ تارة: يكون الطرفان عرضيين: كما إذا علمنا اجمالا اما بوجوب الظهر يوم الجمعة أو بوجوب الجمعة، فإن كلاً منهما لا يتوقف على عدم الآخر؛ وتارة: يكون الطرفان طوليين: كما إذا علم اجمالا اما بوجوب الدين أو وجوب الحج، ومن الواضح ان وجوب الحج يتوقف على الاستطاعة والاستطاعة تتوقف على عدم وجوب أداء الدين حالا. والنتيجة: ان وجوب الحج يتوقف على عدم وجوب الدين. فبين الطرفين طولية. وحينئذ: لو علم إجمالاً أما بوجوب أداء الدين حالا أو بوجوب الحج فهل هذا العلم الاجمالي منجز؟ أم منحل؟.

وهنا تعرض المحقق العراقي «قده» في «نهاية الأفكار، ج3، ص351» إلى هذا البحث، وذكر مطالب ثلاثة:

المطلب الأول: قد يكون الطرف الثاني متوقفا على عدم الأول واقعاً، وقد يكون متوقفا على عدمه ولو ظاهراً، وقد يكون متوقفاً على المعذورية منه عقلاً. فمثلا: عندما نبحث عن وجوب الحج؛ فنقول: هل أن وجوب الحج يتوقف على عدم وجوب الدين واقعاً؟! أو انه يتوقف على عدم وجوب الدين ولو كان هذا العدم ظاهريا لا واقعياً، أو اننا لا نحتاج إلى ذلك، بل نقول: وجوب الحج يتوقف على القدرة ويكفي في القدرة ان المكلف معذور عقلاً من جهة وجوب أداء الدين، فمتى ما كان معذورا عقلا من جهة الدين فإن الحج واجب عليه واقعا للقدرة عليه، فهنا محتملات ثلاثة تختلف من حيث الأثر كما سيظهر.

المطلب الثاني: هناك إيراد أورده المحقق العراقي على نفسه ولأجله عقد هذا البحث، وهو انه: قد يقال: هناك فرق بين مسلك الاقتضاء ومسلك العلية، ففي مسلك الاقتضاء يمكن القول: بأن العلم الإجمالي بالطرفين الطوليين غير منجز؛ والسر في ذلك: اننا إذا علمنا اجمالا اما بوجوب الدين أو وجوب الحج؛ فحينئذٍ نقول: ان مسلك الاقتضاء لا يأبى جريان الأصل الترخيصي في اطراف العلم الاجمالي، وانما المشكلة لديه هل ان للاصل معارض أم لا؟ والا فجريان الأصل لا محذور فيه فإن جرى الأصل في أحد الطرفين وكان معارضا في الطرف الآخر بقي العلم الاجمالي على المنجزية. وان لم يكن له معارض في الطرف الآخر انحل العلم الاجمالي حكما، وهذا ينطبق على المقام. فإننا إذا شككنا هل يجب أداء الدين أو يجب الحج؟ نقول: بمجرد ان نجري البراءة عن وجوب أداء الدين فنقول: لا يجب أداء الدين يجب الحج فورا، لان وجوب الحج في طول عدم وجوب أداء الدين، فبمجرد ان نقول: تجري البراءة عن وجوب الدين فالبراءة عن وجوب الدين نافية لوجوب الدين مثبتة لوجوب الحج، فهي معينة للتكليف في الطرف الآخر. وإذا كانت معينة للتكليف في الطرف الآخر فالأصل هنا لا معارض له، لأنه مثبت للتكليف في الطرف الآخر وليس نافيا. فإذا لم يكن له معارض انحل العلم الاجمالي بأن يجب الحج وأنت مرّخص في ترك أداء الدين.

أما على مسلك العلية: فهي المشكلة إذ على مسلك العلية لا يجري الأصل الترخيصي في أحد طرفي العلم الاجمالي الا بأحد شرطين:

الشرط الاول: ان يتكفل المولى جعل البدل في الطرف الآخر، كما في فرض الإمارات، مثلا: إذا علم اجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، فقامت إمارة كخبر الثقة على أن النجس هو باء، فحينئذ حيث إن الشارع جعل باء بدلا عن المعلوم بالاجمال فتجري أصالة الطهارة في ألف بلا مانع، أو أن يكون في أحد الطرفين منجز للتكليف في رتبة سابقة أو مقارنة للعلم الاجمالي، كما لو دار الأمر بين وجوب الظهر أو وجوب الجمعة وكان وجوب الجمعة ثابتا في عصر الحضور فجرى استصحابه فصار وجوب الجمعة منجزا في رتبة سابقة أو مقارنة، فهنا لا يكون العلم الاجمالي منجزاً، لان أحد طرفيه متنجز.

أما في المقام: إذا علمنا اجمالا اما بوجوب الدين أو وجوب الحج؛ لم يتكفل الشارع لجعل البدل في أحد الطرفين، ولم يكن أحد الطرفين متنجزا في نفسه، فكلا الشرطين غير متوفر، إذن فلا يمكن إجراء الأصل في مسألة الدين، بأن نقول: تجري البراءة عن وجوب الدين أو يجري استصحاب عدم وجوب الدين، لأن أصل جريانه يحتاج إلى مسوغ، وعلى مسلك العلية لا يجري؛ إذ ان وجوب الحج فرع جريان البراءة، واما في رتبة جريان البراءة فلا يوجد منجز لوجوب الحج. نعم، لو تنجز وجوب الحج في رتبة سابقة أو مقارنة للعلم الاجمالي لكان العلم الاجمالي منحلا، لأن أحد طرفيه متنجز، لكن مفروض كلامنا إذا الأصل - اي أصالة البراءة عن وجوب الدين - تنجز وجوب الحج، فتنجز وجوب الحج فرع جريان الاصل، والحال بأنه ما المسوغ على جريان الاصل؟ بناء على علية العلم الاجمال؟!. فلو قلنا بالاقتضاء لم يكن مانع من جريان الاصل، وبجريانه يتنجز وجوب الحج، فينحل العلم الإجمال.

أما بناء على مسلك العلية: فلا يتنجز وجوب الحج الا إذا جرى الأصل ولا يمكن ان يجري الأصل الا إذا كان الطرف الآخر متنجزا في رتبة سابقة أو مقارنة، فعلى مسلك العلية لا ينحل العلم الاجمالي مع بناءهم - بناء الفقهاء - على انحلال العلم الاجمالي في المقام وعدم منجزيته، فكأن هذا منبه على عدم تمامية مسلك العلية.

«قبل ان ندخل في الجواب: نطرح مسألة: سبق البحث في الثمرات بين مسلك الاقتضاء ومسلك العلية: ما هي الثمرة التي سلّم السيد الصدر فيها بالفرق بين مسلك الاقتضاء ومسلك العلية؟. على مسلك الاقتضاء ينحل العلم الاجمالي، على مسلك العلية لا ينحل الإجمالي. ما هي الثمرة التي سلّم السيد الصدر فيها على مسلك الاقتضاء؟.

مسألة ليوم السبت: ذكر السيد «ج5، ص206، من البحوث»: ان هناك صورتين ادعي فيهما عدم الفرق بين مسلك العلية ومسلك الاقتضاء في عدم الانحلال قلنا بالاقتضاء أو قلنا بالعلية. راجعوا هذا البحث».

وأجاب المحقق العراقي «قده» عن هذا الاشكال: وهو انه: إذا كان طرفا العلم الاجمالي طوليين، فهنا: يجري الأصل في أحد الطرفين وينحل به العلم الاجمالي حتى على مسلك العلية، والسر في ذلك: ان أصالة البراءة، مثلاً: عن وجوب أداء الدين لها أثران: أثرٌ سلبي، وأثرٌ ايجابي في عرض واحد؛ فهي من جهة تنفي وجوب الدين وهذا أثرٌ سلبي، وهي من جهة تنقح موضوع وجوب الحج، لأنّ وجوب الحج يتوقف على عدم وجوب الدين، فهي بما انها تنقح عدم وجوب الدين إذن فهي منقحة لوجوب الحج فإن فعلية الحكم في فعلية موضوعه، فحيث ان البراءة عن وجوب الدين منقح لموضوع وجوب الحج، إذن البراءة عن وجوب الدين مثبت لوجوب الحج، فالبراءة لها أثران: سلبي وإيجابي في عرض واحد وفي رتبة واحدة. وبالتالي: فأي مانع من جريان البراءة حتى على مسلك العلية، لأنّ جريانها لا بلحاظ الأثر السلبي وانما بلحاظ الأثر الايجابي، إذ جريانها بلحاظ الأثر السلبي قد يقال: بأنه هذا مشروط اما بجعل البدل في الطرف الآخر أو بوجود منجز فلا يجري مع عدمهما، ولكن المفروض جريانها بلحاظ الأثر الإيجابي، وهو: إثبات وجوب الحج فهي تعتبر كسائر الأصول المثبتة للتكليف وليس النافية، فتجري بلحاظ الأثر الايجابي وهو إثبات التكلف، وفي فرض جريانها يثبت التكليف في الطرف الآخر وفي فرض ثبوت التكليف في الطرف الآخر ينحل العلم الاجمالي، إذ ان أحد طرفيه متنجز في رتبته لا في رتبة متأخرة عنه.

المطلب الثالث: ان هناك فرقا في الأثر العملي بين ان نقول: وجوب الحج متوقف على عدم وجوب الدين واقعا، أو نقول: متوقف على عدمه ولو ظاهرا.

فإن كان وجوب الحج متوقفا على عدم وجوب الدين واقعا: فلا ينتفي بالبراءة، لأنّ البراءة عن وجوب الدين إنّما تنفي وجوب الاحتياط ليس الا، إذ البراءة لا تنفي الوجوب الواقعي وانما تنفي الوجوب الظاهري - اي تنفي وجوب الاحتياط -، فيبقى وجوب الدين واقعاً قائما، لذلك نحتاج لأجل إثبات وجوب الحج إلى التشبث بأصل تنزيلي، أصل محرز، إلا وهو الاستصحاب، فنقول: يجري استصحاب عدم وجوب الدين واقعا، فإذا ثبت بالاستصحاب عدم وجوب الدين واقعا تنزيلا، فحينئذ: يثبت وجوب الحج ولا يكفي البراءة. بخلاف ما لو قلنا: إن وجوب الحج يتوقف على عدم وجوب الدين ولو ظاهرا، فإنّه حينئذٍ تكفي أصالة البراءة لإثبات وجوب الحج.

واما إذا قلنا بأن وجوب الحج يتوقف على المعذورية عقلا عن وجوب الدين، فقد ذكر المحقق العراقي: ان العلم الاجمالي غير منجز بلا حاجة إلى شيء. وهذا ما يأتي البحث عنه يوم السبت.

والحمد لله رب العالمين.