الدرس 120

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

كان الكلام: فيما إذا كان طرفي العلم الاجمالي في طول الطرف الآخر، كما إذا دار العلم الاجمالي بين وجوب الحج أو وجوب الدين. فقد قلنا: يتصور تارة: ان يكون وجوب الحج معلقا على عدم وجوب الدين واقعا. واخرى: معلقا على عدم وجوبه ظاهرا، وثالثة: يكون معلقة على عدم تنجزه. ووصلنا الى هذا الشق الثالث: حيث أفاد المحقق العراقي «قده»: بانه إذا كان وجوب الحج معلقا على عدم التنجز فلا منجزية في العلم الاجمالي بلا حاجة الى دعوى الانحلال بالأصل الالزامي، وبيان مطلبه يتضح بذكر أمور ثلاثة: الأمر الاول: ان المنجزية بنظر المحقق العراقي تدور مدار العلم حيثية تعليلية لا تقييدية.

وقد سبق الكلام في ذلك، اي ان المحقق العراقي يدعي ان العلم علة لتنجز نفس الواقع، لا ان المتنجز المعلوم بما هو معلوم وان لم يكن واقعا فليس كل ما قطع به المكلف تنجز عليه ولو كان جهلا مركبا، وانما هذا خيال التنجز لا التنجز الواقعي، فالعلم حيثية تعليلية اي علة لتنجز نفس الواقع، لا ان المتنجز المعلوم من حيث كونه معلوم وان لم يكن واقعاً. ولأجل ذلك: يتصور حينئذ دوران الامر بين وجوب الحج أو تنجز وجوب أداء الدين. الامر الثاني: ان الشك في المنجزية معقول، إذ قد يتوهم شخص كما يظهر من عبارات تقرير الشهيد الصدر، ان الشك في المنجزية غير معقول، لأن المنجزية تدور مدار الاحراز؛ فإن كان احراز هناك منجزية وبمجرد ان لا يكون أحراز فلا منجزية، فكيف يتصور الشك في المنجزية؟ والحال بانه بمجرد ان لا يكون الحكم محرزا فلا منجزية قطعا؟ لأن المنجزية تدور مدار الاحراز فكيف نتصور الشك في المنجزية؟.

والجواب: ان المنجزية مما يتصور الشك فيها. والسر في ذلك: ان الملاك في المنجزية حق الطاعة، اي ان للمولى حق الطاعة؛ والملاك في حق المنجزية: قبح العقاب بلا بيان، فكل حكم لا بيان عليه لا تنجز له، فلأجل ذلك: يمكن ان يقع الشك في حدود كلا من الكبريين، فيقال: إذا احتمل المكلف التكليف احتمالا معتدا به وان لم يكن دليل عليه، فهل هذا الاحتمال مورد لحق الطاعة؟ أو أن هذا الاحتمال من صغريات قبح العقاب بلا بيان؟.

فنتيجة الشك في ملاك في المنجزية وانه هل يشمل هذا المورد أو لا يتصور؟: يتصور الشك في المنجزية. فالمنجزية لها ثبوت واقعي بلحاظ ملاكها لأن ملاكها امر واقعي. فإن ملاك المنجزية من أحكام العقل العملي التي لها تقرر في نفس الامر والواقع، فبما أن ملاك المنجزية هو حق الطاعة وحق الطاعة من احكام العقل العملي واحكام العقل العملي لها تقرر واقعي، فبلحاظ ذلك يتصور الشك في المنجزية، فيشك هل ان المورد وهو: ان احتمال التكليف احتمالا عقلائيا وان لم يكن هناك امارة شرعية عليه هل هو من صغريات حق الطاعة؟ أو هو من صغريات قبح العقاب بلا بيان؟. فالشك في المنجزية وارد.

الامر الثالث: في بعض الصور يدور الامر بين وجوب الحج أو تنجز وجوب اداء الدين، فمتعلق العلم الاجمالي ليس هو وجوب الحج أو وجوب الدين، بل متعلقه وجوب الحج أو تنجز وجوب أداء الدين. ففي مثل هذا الفرض: لو فرضنا أن المكلف احتمل في اشهر الحج احتمالا معتدا به وجوب اداء الدين، فنتيجة لاحتماله وجوب اداء الدين احتمالا عقلائيا شك في منجزيته، لأن الشك في المنجزية متصور فنتيجة لاحتماله وجوب الدين احتمالا عقلائيا كما لو قامت عليه امارة عقلائية لكن لم تكن امارة شرعية فشك في وجوب اداء الدين اذن فهو يشك في تنجزه، فاذا شك في تنجزه حصل له علم اجمالي، لانه ان كان وجوب الدين متنجزا فالحج غير واجب عليه، لأن وجوب الحج معلق على عدم تنجز وجوب الدين، وان لم يكن وجوب الدي متنجزا فوجوب الحج فعليا في حقه. إذن نتيجة الشك في المنجزية حصل له علم اجمالي، وصار طرفا العلم الاجمالي: اما وجوب الحج أو تنجز وجوب الدين، وليس طرفا العلم الإجمالي إما وجوب الحج أو وجوب الدين. فهل هذا العلم الاجمالي ينحل بجريان أصل الزامي في احد الطرفين؟.

اجاب المحقق العراقي: بأننا لا نحتاج الى ذلك، بل هذا العلم الاجمالي اصلا لا منجزية له. والسر في ذلك: انه ما دام وجوب الحج معلقا على عدم تنجز وجوب الدين، فبمجرد الشك في تنجزه فقد تنقح الموضوع، بلا حاجة الى اجراء اي اصل، اي بمجرد ان نشك هل ان وجوب الدين متنجز أم لا؟ فقد تنجز وجوب الحج، لأن فعلية وجوب الحج منوطة بعدم تنجز وجوب الدين، فبمجرك ان نشك في تنجزيه فقد تنقح موضوع فعلية وجوب الحج، لأن موضوعه عدم التنجز والشك في التنجز مصداق لعدم التنجز.

اذن فحينئذ: لا نحتاج الى حل العلم الاجمالي بأصل الزامي بل المورد من موارد الانحلال الحقيقي، لقيام علم تفصيلي لوجوب الحج، لأن وجوب الحج منوط بعدم وجوب الدين، والشك في التنجز مصداق لعدم التنجز، اذن لدينا علم تفصيلي بوجوب الحج، ومع وجود علم تفصيلي بأحد الطرفين ينحل العلم الاجمالي حقيقة لا حكما، فلا حاجة في هذا الفرض الى ان نتشبث بالأصل لحل العلم الاجمالي. فظهر بذلك: ان وجوب الحج ان كان معلقا على عدم وجوب الدين واقعا: لم يتنقح الموضوع الا بالأصل التنزيلي وهو الاستصحاب، وإن كان معلقا على عدم وجوب الدين ولو ظاهرا: فإجراء البراءة عن وجوب اداء الدين موجب لانحلال العلم الاجمالي حتى على مسلك العلية فضلا عن مسك الاقتضاء. وان كان معلقا على عدم التنجز: فلا يوجد علم اجمالي منجز من البداية لأن الانحلال حقيقي لعلم تفصيلي بوجوب الحج وشك بدوي لوجوب الدين. هذا ما أفاده المحقق العراقي «قده».

«جواب مسألة يوم الاربعاء «الدرس119»: الخاصة بمورد ما ذهب اليه السيد الشهيد.

الصورة الأولى: ذكرها في «ص206»: وهي: ما إذا علم اجمالا إما بوجوب الصلاة عند رؤية الهلال أو بوجوب الصلاة التي دخل وقتها لأنه يشك في امتثالها، وتكون طرفا للعلم الاجمالي. في مثل هذا الفرض قال المحقق النائيني: العلم الاجمالي في المقام منحل، قلنا بمسلك الاقتضاء أم قلنا بمسلك العلية».

الصورة الثانية التي ذكرها «ص207» ما هي الصورة الثانية؟: مثلا: دار الامر بين حرمة لحم لعدم تذكيته، أو حرمة لحم لكونه لحم ارنب. هذا اللح ان حرم فلعدم تذكيته، وهذا اللحم ان حرم فلكونه لحم أرنب، فإما ان يحرم هذا لعدم التذكية أو يحرم هذا لكونه من غير مأكول اللحم. أصالة الحل في الطرفين موجودة، لكن يوجد في الطرف الأول أصل إلزامي حاكم الا وهم استصحاب عدم التذكية، في مثل هذا الفرض: قالوا: ينحل العلم الاجمالي على كل حال قلنا بالاقتضاء أو قلنا بالعلية. لماذا ينحل على كل حال؟. فذكرنا كلام المحقق العراقي مفصلا، وقد ذكر السيد الشهيد: ملاحظتين على كلام المحقق العراقي: الملاحظة الأولى: ان المحقق العراقي «قده» أفاد: بأن الطرف الثاني الا وهو وجوب اداء الدين إذا كان معلقا على عدم وجوب الحج واقعا، فالأصل التنزيلي يجري؛ واذا كان معلقا على عدم وجوبه ظاهرا، فحينئذ يحصل الانحلال لجريان الأصل الالزامي وهذا هو محل التوقف.

بيان ذلك: تارة يكون وجوب الحج معلق على عدم وجوب الدين واقعا، فهنا: سواء قلنا بمسلك الاقتضاء أو قلنا بمسلك العلية جريان اصالة البراءة لا يوجب انحلال العلم الاجمالي، لأن جريان اصالة البراءة عن وجوب اداء الدين لا يرفع احتمال وجوبه واقعا، إذ المفروض ان وجوب الحج معلق على عدم وجوبه واقعا لا عدم وجوبه ظاهرا، وغاية ما تفيده اصالة البراءة عن عدم وجوب أداء هو عدم وجوبه ظاهرا - يعني عدم وجوب الاحتياط من جهته - وأما عدمه واقعا: فما زال قائما، اذن ما زال العلم الاجمالي قائما، إما أن الدين واجب واقعا أو ان الحج واجب. لأجل ذلك: يتعارض اصالة البراءة عن وجوب اداء الدين مع اصالة البراءة عن وجوب الحج فكل منهما مورد لأصالة البراءة، ونتيجة تعارض الاصول منجزية العلم الاجمالي على القول بالاقتضاء واما على القول بالعلية فالأمر اوضح. اذن: فنحتاج للأصل التنزيلي، اي نحتاج لأصل يثبت لنا عدم وجوب أداء الدين واقعا ولو تنزيلا، وهذا الأصل هو الاستصحاب، فاستصحاب عدم وجوب اداء الدين واقعا ببركة دليل الاستصحاب ينزل الاستصحاب منزلة العلم لعدم وجوبه واقعا، فلأجل ذلك نقول: تنقح موضوع وجوب الحج ولأجل انه تنقح موضوع وجوب الحج انحل العلم الاجمال. فعلى القول بالعلية: إذا قام أصل الزامي في احد الطرفين، وبعبارة أخرى: إذا تنجز احد الطرفين ينحل العلم الاجمالي لأن المتنجز لا يتنجز، والمفروض ان وجوب الحج تنجز، والمنجز له تحقق موضوعه الا وهو عدم وجوب الدين واقعا، والمحقق لموضوعه الأصل التنزيلي وهو عدم استصحاب وجوب الدين واقعا. فان قلت: لم لا يتعارض استصحاب عدم وجوب الدين مع أصالة البراءة عن وجوب الحج؟.

قلنا: لا تعارض بين الأصل السببي والاصل المسببي لأن الشك في وجوب الحج وعدمه مسبب عن الشك في وجوب الدين وعدمه، إذ المفروض ان وجوب الحج معلق على عدم وجوب الدين فبما ان وجوب الحج مسبب عن عدم وجوب الدين، اذن الأصل الجاري في وجوب الحج وهو اصالة البراءة عنه أصل مسببي، بينما الأصل الجاري في وجوب الدين أصل سببي لأنه منقح للموضوع وهو استصحاب عدم وجوب الدين، فاستصحاب عدم وجوب الدين حاكم على اصالة البراءة في وجوب الحج حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي فلا تعارض بينهما. اذن: على القول بالعلية: العلم الاجمالي منحل لوجوب أصل الزامي وهو استصحاب عدم وجوب الدين المنقح لفعلية وجوب الحج. وعلى القول بالاقتضاء: لا تعارض بين الأصلين، لأن الأول حاكم على الثاني. فعلى كل حال نقول بالانحلال. وهذا ما ذكره العراقي، هذا ليس اشكالا على العراقي.

ولكن: إذا قلنا: بأن وجوب الحج معلق على عدم وجوب الدين ظاهرا في فعلية وجوب الحج، اذن فحينئذ - السيد الشهيد يقول -: لا يوجد عندنا اجمالي، لا أنا عندنا علم أجمالي غير منجز لوجود أصل كما يقول العراقي، إذا كان وجوب الحج معلقا على عدم وجوب الدين ولو ظاهرا وهذا العدم الظاهري يتحقق بالبراءة فضلا عن الاستصحاب، إذن لا يوجد عندنا علم اجمالي. والسر في ذلك: انه بنفس جريان البراءة يثبت عدم وجوب الدين ظاهرا، وبنفس ثبوت عدم وجوب الدين ظاهرا يثبت وجوب الحج واقعا، لأن وجوب الحج واقعا معلق على عدم الدين ظاهرا فاذا ثبت عدم الدين ظاهرا صار وجوب الحج واقعيا، اذن يوجد لدينا علم تفصيلي وليس علما اجمالي، اي ببركات جريان الأصل البراءة عن وجوب الدين يحصل لنا علم تفصيلي بوجوب الحج وشك بدوي في وجوب الدين. فهذا المورد من موارد الانحلال الحقيقي، فإن الأصل الترخيصي في وجوب الدين ينقح موضوع وجوب الحج واقعا وليس ظاهرا، فاذا كان كذلك فكيف يدعى ان العلم الاجمالي مانع من جريان الاصل؟. مع انه يرتفع بالأصل، لأنه يتحول الى علم تفصيلي.

فقبل الالتفات الى الأصل نعم يوجد عندنا علم اجمالي، لكنه بدوي، اي قبل ان نلتفت الى الأصل، فنقول: لدينا علم اجمالي إما يجب الدين أو يجب الحج، هذا علم اجمالي بدوي، بمجرد ان نلتفت الى الأصل وهو البراءة عن وجوب الدين تثبت عدمه ظاهرا، واذا ثبت عدمه ظاهرا، ثبت وجوب الحج واقعا، إذن فببركة الأصل حصل ليدنا علم تفصيلي بوجوب الحج فارتفع العلم الاجمالي من اساسه. إذن: الاصل رافع للعلم الاجمالي لا انه موجب لانحلاله حكما، على هذا الاساس: كيف يشكل العراقي على نفسه؟ فيجيب: فيقول: على مسلك العلية: كيف يجري الأصل مع وجوب العلم الاجمالي فإن العلم الاجمالي المنجز مانع من جريان الأصل فكيف يكون الأصل موجبا لانحلاله حكما والعلم الاجمالي مانع منه؟. يقول: هذا الاشكال لا معنى لوروده إذ لا يتصور ان يكون شيء مانعا من شيء وهو متوقف على عدمه. فالعلم الاجمالي في المقام متوقف على عدم جريان الأصل لانه بجريان الأصل يتحول العلم الاجمالي الى علم تفصيلي، فالعلم الإجمالي وجوده متوقف على عدم جريان الاصل، فاذا كان متوقف على عدم جريان الأصل فكيف يكون مانعا من جريان الاصل؟ وما توقف على عدم شيء فلا يعقل ان يكون مانعا منه ومزاحما له. سنجيب عن هذا في الدرس الآتي. سؤال للدرس الآتي: ايضا السيد الشهيد ذكر في «صفحة: 227»، قال: إن ما ذكره المحقق العراقي من أن العلم الإجمالي لا يكون منجزا. نريد شرحا لكلام السيد الصدر: في قوله: الرابعة: ما هو مقصوده في الملاحظة الرابعة؟.

والحمدُ لله ربِّ العالمين