الدرس 121

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

ذكرنا ان ما افاده المحقق العراقي «قده» قد أورد عليه السيد الشهيد ملاحظتين: وسبق الكلام في عرض الملاحظة الأولى، ولكن هذه الملاحظة محل تأمل، والوجه في ذلك:

أن حكم العقل في منجزية العلم الاجمالي موضوعه حدوث العلم الاجمالي، وليس موضوعه بقاء العلم الاجمالي، فإن حكم العقل بأن الانكشاف اي انكشاف الواقع، موضوع لاستحقاق العقوبة على فرض مخالفته مما لا فرق فيه بين ان يكون العلم او الانكشاف حادثا او باقيا، فبناء على ذلك: متى ما تحقق علم اجمالي في الوجدان ترتب عليه حكم العقل بالمنجزية لفعلية الحكم بفعلية موضوعه ولو آنا ما. فلاجل ذلك اذا حصل العلم الاجمالي اما بوجوب الدين او بوجوب الحج فحينئذ بمجرد ان يحصل هذا العلم الاجمالي لو آنا ما فان حكم العقل بالمنجزية يترتب عليه، غاية الامر إن كان لدليل الاصل اطلاق يشمل احد طرفي العلم الاجمالي فببركة حجية هذا الإطلاق يرتفع الاجمالي بقاء. لا أنه ينكشف عدم حدوثه بل لو قلنا باطلاق دليل الاصل، فان مقتضى جريان الاصل في احد طرفيه هو ارتفاع العلم الاجمالي لان المفروض ان وجوب الحج متوقف على عدم وجوب الدين ولو ظاهرا، والبراءة عن وجوب الدين منقحة لموضوع وجوب الحج فببركة جريان البراءة يحصل لنا علم تفصيلي بتحقق موضوع الحج، وببركته يحصل لنا علم تفصيلي بوجوب الحج، فإذا حصل علم تفصيلي بوجوب الحج ارتفع العلم الاجمالي. فما توقف على جريان الاصل غير ما توقف جريان الاصل عليه، فان ما ترتب على جريان الاصل ارتفاع العلم الاجمالي بقاء، وأما ما كان العلم الاجمالي مانعا من حدوثه فهو اصل حدوث العلم الاجمالي، اصل وجود العلم الاجمالي، فاذن جريان الاصل يتوقف على عدم مانعية حدوث العلم الاجمالي المقتضي لحدوث المنجزية لان فعلية الحكم بفعلية موضوعه ولو آنا ما، وما يترتب على جريان الاصل لو كان اطلاقه حجة ارتفاع العلم الاجمالي بقاءً، فلا يرد محذور انه ما كان متوقفا على عدم شيء فكيف يكون مانعا منه؟ لان المتوقف على عدم جريان الاصل بقاء العلم الاجمالي لا أصل حدوثه، وما هو مانع من جريانه أصل حدوثه المساوق لفعلية حكمه وهو المنجزية.

الملاحظة الثانية: إن المحقق العراقي قال: بان العلم الاجمالي في الاطراف الطولية منحل بناء على مسلك العلية، والوجه في ذلك:

أنه اذا علم إما بوجوب الدين او بوجوب الحج فحينئذ يقال: هذا العلم الاجمالي ينحل لتنجز احد طرفيه، ومتى ما كان احد طرفيه متنجزا فهو منحل، وانما تنجز وجوب الحج لأن جريان البراءة عن وجوب الدين له أثران، أثر ترخيصي، وهو البراءة عن وجوب الدين واثر الزامي وهو اثباته وجوب الحج لانه يثبت موضوعه ونحن لا نريد اجراء الاصل بلحاظ اثره الترخيصي لان منجزية العلم الاجمالي تمنع من جريان الاصل بلحاظ أثره الترخيصي، وانما نجريه بلحاظ اثره الالزامي، والمنجزية لا تمنع من ذلك، فاذا جرى الاصل وأثبت وجوب الحج صار احد طرفي العلم الاجمالي منجزا والمتنجز لا يتنجز فانحل العلم الاجمالي، فجرى الاصل بلحاظ اثره الترخيصي، فهو يجري بلحاظ اثره الترخيصي في طول انحلال العلم الاجمالي فلا محذور.

ولكن السيد الصدر اشكل عليه: بأن هذا غي تام، والسر في ذلك:

ان هذا انما يتم لو كان للاصل اثران: وكان بينهما عرضية، فيقال: بأن الاصل يجري بلحاظ اثره الالزامي ويترتب عليه تنجز احد الطرفين ويترتب عليه انحلال العلم الاجمالي، لكن المفروض على الأقل بالنسبة لأصالة البراءة ليس لها أثران، وانما اثرها اثر واحد وهو البراءة عن وجوب الدين اي الترخيص في وجوب اداء الدين ليس لها اثر الزامي، والاثر الالزامي انما يترتب - وهو وجوب الحج - بدليله لا بجريان البراءة، اي ان البراءة اذا جرت تنقح موضوع وجوب الحج وجدانا واذا تنقح موضوع وجوب الحج وجدانا وجب الحج لان دليله صار فعليا بفعلية موضوعه لا ان البراءة لها اثرا الزاميا. البراءة ليس لها إلا اثر واحد وهو اثر ترخيصي.

مضافا الى ان اهذا الاثر الثاني هو اثر طولي وليس اثرا عرضيا فكيف ينحل به العلم الاجمالي؟ بيان ذلك:

ان انحلال العلم الاجمالي فرع تنجز وجوب الحج وتنجز وجوب الحج فرع فعلية موضوعه، موضوعه عدم وجوب الدين فلابد ان ننقح موضوعه في رتبة سابقة حتى يتنجز وجوب الحج، وموضوعه وهو عدم وجوب الدين لا يكون فعليا الا اذا جرى اصالة البراءة بلحاظ اثره الترخيصي، فلابد ان نتفرض في رتبة سابقة ان اصالة البراءة تجري في اثره الترخيصي لا معنى لدعوى انها تجري بالاثر الإلزامي بل لابد ان تجري بلحاظ الاثر الترخيصي حتى يتنقح موضوع وجوب الحج واذا تنقح موضوع وجوب الحج تنجز واذا تنجز انحل العلم الاجمالي، فانحلال العلم الاجمالي في المقام يتوقف على جريان البراءة بلحاظ اثره الترخيصي حتى يتنح الموضوع، والمفروض انه لا يجري بلحاظ اثره الترخيصي بوجود علم اجمالي منجز فلزم الدور، اي ان انحلال العلم الاجمالي يتوقف على جريان الاصل بلحاظ اثره الترخيصي وجريان الاصل بلحاظ اثره الترخيصي يتوقف على عدم منجزية العلم الاجمالي، فيلزم الدور؟ فكيف ذكر المحقق العراقي ما ذكره؟

ويلاحظ على ما افيد: بناء على ما سبق من البحوث التي يسلم بها السيد الشهيد نفسه:

وذلك: بالالتفات الى امرين: الامر الاول: ان الاثر العقلي كالمنجزية او الفعلية والأثر الشرعي مثلا: كالوجوب والحرمة، من احكام الواقع لا من احكام الرتب، بمعنى: ان تفاوت الرتب ليس امرا دخيلا في الاثر فقد يكون شيئان متفاوتين بحسب الرتبة ومع ذلك يترتب على اجتماعهما في آن واحد اثر عقلي او شرعي، لانه لم يؤخذ في الآثار العقلية او الشرعية إلا تحقق ملاكها، وملاكها لا يؤثر فيه تفاوت الرتب او اتحداها وانما ملاكها من شئون الواقع فمتى ما اتحدى زمانا ترتب الأثر وإن كانا متفاوتين رتبة. فبناء على ذلك: نقول: في المقام يوجد اثران بينهما طولية، اي تفاوت رتبي لكنهما متحدان زمانا، الاثر الاول: الاثر الترخيصي اي ان جريان البراءة يترتب عليه اثر ترخيصي وهو عدم وجوب اداء الدين وفي طول ثبوت هذا الاثر الترخيصي يثبت اثر الزامي وهو وجوب الحج، فان وجوب الحج متاخر رتبة عن موضوعه وهو عدم وجوب الدين وعدم وجوب الدين يتحقق بنفس جريان البراءة، وليس هنا طولية بين عدم وجوب الدين، وبين موضوع وجوب الحج، بل بينهما عينية، فإن نفس عدم وجوب الدين هو عين موضوع وجوب الحج، فجريان البراءة بلحاظ الاثر الترخيصي مساوق لتحقق موضوع وجوب الحج، نعم وجوب الحج في طوله رتبة، لان فعلية الحكم متاخرة رتبة عن فعلية الموضوع الا انهما في زمان واحد، ولذلك قيل في الاصول: أن نسبة فعلية الحكم لفعلية موضوعه نسبة المعلول للعلة. إذن: اصالة البراءة لا ندعي ان لها اثرين عرضيين كي يشكل علينا أن ليس لها اثران عرضيان، وانما ندعي: ان جريان البراءة يترتب عليه اثران - لا ان لاصل البراءة اثران -، متفاوتات رتبة: احدهما: عدم وجوب اداء الدين، وهو عينه موضوع وجوب الحج، فيترتب على هذا الاثر الترخيصي اثر الزامي وهو وجوب الحج، فذلك الاثر الثاني في طول الأثر الأول، الا ان تفاوتهم رتبة لا يعني تفاوتهما زمنا، فهما في آن واحد، ففي الان الذي يترتب الأثر الترخيصي وهو عدم وجوب الدين في نفس الآن يترتب الاثر الإلزامي وهو وجوب الحج، وبلحاظ ذلك ينحل العلم الاجمالي، اذن فبالنتيجة: لا نحتاج الى انه لابد من وجود اصلان عرضيان.

وأما إشكال الدور الذي ذكره السيد الصدر: وهو ان انحلال العلم الاجمالي يتوقف على جريان الاصل الترخيصي والمفروض ان جريان الاصل الترخيصي متوقف على منجزية العلم الاجمالي.

والجواب: اي محذور عقلي كمحذور اللغويةن او محذور قبل الترخيص في المخالفة الاحتمالية، فان هذا المحذور يكفي في رفعه الاثر الطولي ولا حاجة الى الأثر في رتبة سابقة. وفي المقام نقول: جريان اصالة البراءة بلحاظ الاثر الترخيصي يتوقف على عدم منجزية العلم الاجمالي لان جريانه مع منجزية العلم الاجمالي ترخيص في المخالفة الاحتمالية والترخيص في المخالفة الاحتمالية قبيح عند القائلين بالعلية، فبما ان القائلين بالتوقف هو هذا: يعني: يتوقف جريان البراءة بلحاظ الاثر الترخيصي على عدم منجزية العلم الاجمالي، لان الترخيص ترخيص في المخالفة الاحتمالية وهو قبيح، يكفي في رفع هذا الاثر القبح الاثر الطولي، بمعنى ان نقول: بما انه اذا جرى الاصل إنحل العلم الاجمالي، فهذا كاف، فلا يتوقف جريان الاصل على عدم المنجزية في رتبة سابقة، بل يكفي في جريانه عدم المنجزية ولو في طول جريانه، فان هذا امر ممكن لان ملاكه لا يقتضي اكثر من ذلك، اذن لا مانع من اطلاق دليل الاصل في احد طرفي العلم الاجمالي، فإن المانع منه انه ترخيص في المخالفة الاحتمالية، وبما انه في طول جريانه ينحل العلم الاجمالي فلا يلزم في آن جريانه الترخيص في المخالفة الاحتمالية، فانه في طول جريانه رتبة ينحل العلم الاجمالي، اذن ما دام الملاك وهو ملاك توقف جريان الاصل على عدم المنجزية ما دام الملاك لا يقتضي التوقف في رتبة سابقة، إذن يكفي في رفع هذا المحذور وحصول هذا التوقف: أن ينحل العلم الاجمالي ولو في طول جريان الاصل فلا يرد المحذور.

فتلخص بذلك:

ان ما ذكره السيد الشهيد من إشكال على المحقق العراقي غير وارد وان الصحيح ما ذكره المحقق العراقي من انه بناء على الطولية بين اطراف العلم الاجمالي فان العلم الاجمالي منحل، قلنا مسلك الاقتضاء او قلنا بمسلك العلية. على كل حال.

والحمدُ لله ربِّ العالمين