الصدقة في الإسلام ج2

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا حول حقيقة الصدقة، وذلك في عدة نقاط:

النقطة الأولى: بيان الخصائص الروحية للصدقة.

الصدقة لها عدة خصائص وسمات روحية وغيبية:

السمة الأولى: قبض الله لها.

كما ورد في الآية المباركة: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ، فهنا يقع السؤال: كيف يأخذ الصدقات؟ الذي يأخذ الصدقة هو الفقير، الغني يعطي الصدقة، والفقير يأخذها ويقبضها، فكيف يقول القرآن الكريم بأن الله ويأخذ الصدقات؟ كيف يتصور أن يكون الله تبارك وتعالى قابضًا للصدقة من يد عبده المتصدق؟

شرح هذا المعنى في الآية المباركة يتوقف على أن نذكر مسألة تجسّم الأعمال. الأعمال - سواء كانت أعمالًا صالحةً أو أعمالًا طالحةً - تتجسّم يوم القيامة، فمثلًا: الصلاة التي يصليها الإنسان، هذه الصلاة نفسها تتحول يوم القيامة إلى نهر، إلى شجرة، إلى مقعد صدق، نفس هذا العمل الذي يقوم به الإنسان هو ثوابه، فليس الثواب شيئًا غير العمل، عملك ثوابك، عملك جزاؤك، عملك يتجسم ويتجسد يوم القيامة ثوابًا لك، الصلاة تتحول إلى شجرة مورقة مثمرة، الصوم يتحول إلى نهر فياض معطاء، عملك هو ثوابك، ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أي: عملكم هو جزاؤكم.

وأيضًا الأعمال القبيحة - والعياذ بالله - تتحول إلى عذاب وعقاب للإنسان، فمثلًا: الرذيلة، شرب الخمر، عقوق الوالدين، هذا العمل بنفسه يتحول إلى سعير، إلى طاقة من النار، إلى أغلال من النار، إلى قيود نارية في حميم جهنم، نفس هذه الأعمال الفاسدة تتحول إلى عذاب مستعر، هذا بالنسبة إلى جميع الأعمال، ولكن بالنسبة للصدقة هناك ميزة تتميز بها الصدقة عن غيرها، وهي أن نفس المبلغ الذي يتصدق به الإنسان - لا عمل الصدقة فحسب - تلتقط صورته الملائكة، وتحتفظ به ليراه الإنسان في صميم أعماله في الجنة يوم القيامة.

أضرب لك مثالًا توضيحيًا لذلك: بالنسبة إلى شهادة الحسين بن علي ، أنت تقرأ في زيارة الإمام الحسين : ”أشهد أن دمك سكن في الخلد“، كيف سكن دمه في الخلد؟ دمه ذهب إلى التراب، ودم الحسين امتد في تراب كربلاء، ونفذ إلى تربة كربلاء، لكن الزيارة تقول: ”أشهد أن دمك سكن في الخلد“، فما معنى ذلك؟ الملائكة كانت تلتقط قطرات من دمه الشريف، وهذه القطرات التي التقطتها الملائكة احتفظ بها، وهذه القطرات التي احتفظ بها يراها جميع الخلق يوم القيامة، وكان يأخذ - كما في الرواية - بضعًا من دمه ويرمي به إلى السماء فما ترجع منه قطرة.

إذن، بعض الأشياء العينية، بعض الأشياء الحسية، تحتفظ بها الملائكة، بعض الأشياء العينية والحسية تلتقطها الملائكة وتحتفظ بها كدليل على المظلومية، كدليل على التقرب، كدليل على الارتباط بالله عز وجل، كذلك أيضًا هذه المبالغ - سواء كانت يسيرة أو كثيرة - التي يتصدق بها الإنسان على الفقير، هذه المبالغ نفسها تلتقط صورها الملائكة، وتحتفظ بها ليوم القيامة كدليل على إنسانية وقرب وروحانية هذا الإنسان المتصدق بأمواله.

السمة الثانية: دفع البلاء.

من خصائص الصدقة أن الصدقة تدفع بلاء اليوم الذي يصبح فيه الإنسان. لاحظوا الروايات الواردة في ذلك: ما رواه أبو ولّاد: سمعت أبا عبد الله الصادق يقول: ”بكّروا بالصدقة“، يستحب أن تكون الصدقة بين الطلوعين، بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، كما يستحب الصدقة عند الغروب، الصدقة بين الطلوعين أمان لليوم كله، والصدقة عند الغروب أمان لليل كله، ولو ريال واحد يوميًا، ريال عند الطلوعين، ريال عند الغروب، ”بكّروا بالصدقة، وارغبوا فيها، فما من مؤمن يتصدق بصدقة يريد بها ما عند الله ليدفع الله بها عنه شر ما ينزل من السماء إلى الأرض في ذلك اليوم إلا وقاه الله شر ما ينزل من السماء إلى الأرض في ذلك اليوم“.

السمة الثالثة: البركة.

من سمات الصدقة أنها تخلف البركة. روى عبد الله بن سنان عن الصادق : قال أبو عبد الله : ”ليس شيء أثقل على الشيطان من الصدقة على المؤمن“، إذا أردت أن تضايق الشيطان وتتقرب إلى الله تبارك وتعالى فتصدق، ”وهي تقع في يد الرب“ وهذا ما ذكرته الآية ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ، ”وهي تقع في يد الرب تبارك وتعالى قبل أن تقع في يد العبد، إن الصدقة تقضي الدين، وتخلف البركة“. الآية المباركة قد أشارت إلى هذه السمة، حيث قالت: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ.

ربما يقول قائل: هذا خلاف الواقع! المرابون يمتلكون ثروات هائلة نتيجة قيامهم بعمليات الربا، والذين يتصدقون قد يخسرون أموالهم وثرواتهم، فكيف تقول الآية المباركة: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ؟! ليس معنى الآية أن المتصدقين سيمتلكون ثروات في هذه الدنيا، وأن المرابين سيخسرون ثرواتهم في هذه الدنيا، ليس معنى الآية هكذا، بل معنى الآية أن الذي يتعامل بالربا لا يهنأ بأمواله، بخلاف الذي يتعامل بالصدقة، الذي يتعامل بالصدقة يتهنى بهذا اليسير من أمواله، هذا اليسير من أمواله يهنأ به، الله تبارك وتعالى يجعله إنسانًا مؤمنًا مطمئنًا على أمواله وذراريه، معافى من الأسقام، يعيش مع أمواله معيشة البركة، وأما الذي يصر على الربا، ويكتسب أمواله عن طريق المراباة، فإنه لا يهنأ بها في حياته، إما يعيش في قلق، أو يعيش في أمراض عضوية، أو يعيش في أمراض نفسية، أو يعيش في قلاقل واضطربات بحيث تجعله غير مستقر في المعيشة مع أمواله، وليس معنى ذلك أنه يخسر الثروات. روى السكوني عن أبي عبد الله الصادق قال: قال رسول الله : ”تصدّقوا؛ فإن الصدقة تزيد في المال“، إلى آخر هذه الروايات.

النقطة الثانية: الأركان الفقهية لمفهوم الصدقة.

الصدقة تعتمد على عدة أركان فقهية:

الركن الأول: العقود والإيقاعات والبذل.

الصدقة قد تكون من العقود، وقد تكون من الإيقاعات، وقد لا تكون من العقود ولا من الإيقاعات. العقد هو المعاملة التي تتوقف على إيجاب وقبول، كالزواج مثلًا، النكاح عقد لأنه يتألف من إيجاب وقبول، بينما الطلاق إيقاع وليس عقدًا، الطلاق هو إنشاء يصدر من الزوج أو وكيله، من دون حاجة إلى قبول من الزوجة، من الطرف الآخر، فالأول - وهو النكاح - يسمى عقدًا لأن له ركنين: إيجابًا وقبولًا، والثاني - وهو الطلاق - يسمى إيقاعًا؛ لأنه ليس فيه إلا إنشاء من طرف واحد.

الصدقة قد تكون عقدًا، كما لو كانت تمليكًا، أنا عندما أملّك الفقير، أعطي الفقير عشرة ريالات، فما يصدر مني من الإعطاء إيجاب، وما يصدر من الفقير من الاستلام قبول، فإذن تكون الصدقة حينئذ عقدًا. وقد تكون إيقاعًا، كما في إبراء الدين، كما ذكرنا أمس، أنا مثلًا أقرضتك ألف ريال، وبعد مدة وجدت أنك محتاج إليها، عندك مشاكل، فأنا قلت: بدلًا من أن أطالبك بهذه الألف أبرأت ذمتك قربة إلى الله، هذا الإبراء يكون صدقة، وهو ليس عقدًا، وإنما هو إيقاع، أبرأت ذمتك من الألف التي لي عليك قربة إلى الله تعالى، هذه صدقة، ولا تحتاج إلى القبول.

والصدقة قد لا تكون عقدًا ولا إيقاعًا، بل تكون بذلًا خارجيًا. الفقهاء يقولون: الإباحة تارة تكون إباحة تمليكية، وتارة تكون إباحة مالكية، فما هو الفرق بينهما؟ مثلًا: أنا آتي وعندي في جيبي علك مثلًا، آخذ هذا العلك، أعطيك إياه، أقول لك: تفضل، هذه لك، هذه إباحة تمليكية، ملّكتك إياه، وتارة تكون الإباحة مالكية، أنا لا أملّك، وإنما أجيز لك الانتفاع بالمال، كما لو دخلت بيتي وصببت استكانة من الشاي، أنا لا أملكك الشاي، عندما أصب لك استكانة شاي فهذا الشاي ليس ملكك، وإنما أبحت لك أن تشربك، وهذه تسمى إباحة مالكية، لو كان الشاي ملكك لحق لك أن تبيعه، تهبه لإنسان آخر، افترض أنك صببت لي استكانة شاي، وبعد خمس دقائق أتى شخص، وكان الشاي قد نفذ، فقال: والله أنا أريد استكانة شاي، أريد أن أوقف رأسي باستكانة شاي، فما رأيك أن تعطيني الاستكانة التي عندك؟ فقلت: والله أعطيك إياه بمال! لا يجوز؛ لأنك ما ملكت هذا الشاي حتى تبيعه أو تهبه إلى غيرك، إنما هو إباحة للشرب فقط، أبحت لك أن تشربه، لا أنني ملّكتك إياه حتى تقوم ببيعه أو تقوم بهبته.

من هذا القبيل: البوفيه، هذا البوفيه في المطاعم مثلًا، أنت عندما تدخل المطعم يقولون لك: نحن عندنا اليوم بوفيه، خذ ما تريد، حتى لو أخذت من كل شيء ثلثه، مهما أخذت القيمة مئة ريال، أخذت جزءًا بسيطًا أم أخذت الطعام كله، بالنتيجة تدفع مئة ريال، هذا ليس بيعًا، أنا لا أبيعك الأكل، وليس إجارة، وإنما هو إباحة مالكية، أنا لا أملّكك الطعام، أنا المالك للطعام، أنا أبيح لك أن تأكل من طعامي هذا - هذا ملكي أنا - بعوض، وهو أن تدفع مئة ريال، هذه معاملة صحيحة ولا إشكال فيها، إباحة مالكية، إباحة للأكل من الطعام بعوضٍ.

هذا نظير البستان، أنا عندي بستان، مزرعة، تقول لي: والله أنا أريد أن أدخل مع أصدقائي إلى بستانك، أقول لك: أبيح لك الانتفاع من بستاني هذا، تجلس فيه، تأكل من ثماره، تسبح في البركة، افعل ما تريد، أبيح لك الانتفاع من بستاني هذا مقابل 400 ريال، إباحة مالكية بعوض، معاملة صحيحة، ولا إشكال فيها.

إذن فبالنتيجة: قد تكون الصدقة من قبيل الإباحة المالكية، لو أبحت لك أن تأكل من طعامي قربة إلى الله تعالى تصبح صدقة، ما دمت قد قصدت قربة إلى الله صارت صدقة، أبيح لك أن تنتفع ببستاني قربة إلى الله تعالى، صارت صدقة، هذه إباحة مالكية، ليست عقدًا ولا إيقاعًا، هذه مجرد بذل خارجي. إذن، الصدقة قد تكون عقدًا، قد تكون إيقاعًا، قد لا تكون إيقاعًا ولا عقدًا، وإنما إباحة مالكية كما شرحنا.

الركن الثاني: القبض.

الصدقة إذا كانت عقدًا فإنها تتوقف على القبض. أنا إذا أردت أن أعطي الفقير عشرة ريالات، لا تتم الصدقة إلا بقبضه أو بقبض وكيله، إما أن يقبض نفس الفقير الصدقة، أو يقبض وكيله الصدقة، فما معنى القبض؟ القبض اختلفت فيه كلمات الفقهاء، السيد الخوئي يقول: القبض هو الاستيلاء على الشيء، السيد السيستاني والشيخ التبريزي «حفظهما الله» يقولان: القبض هو السلطنة على التصرف، وإن لم يقع تحت الاستيلاء، فهناك فرق بين القبض بنظر سيدنا الخوئي، وبين القبض بنظر تلامذته، ما هي الثمرة العملية التي تترتب على ذلك؟ أذكر لك مثالين هما محل الابتلاء في مسألة القبض:

المثال الأول: أنني أذهب إلى البنك، أقول لك: أنا أريد أن أقترض منك خمسين ألفًا، البنك يحوّل إلى حسابي خمسين ألفًا، هل صح القرض أم لم يصح؟ على رأي السيد الخوئي لم يصح القبض؛ لأن القرض يصح بالقبض، والقبض هو الاستيلاء، أنا لم أستولِ على المال، دخل في حسابي، لكنني لم أستولِ عليه، بنظر السيد الخوئي ما تم القبض، إذا لم أستلم شيكًا عن المبلغ أو أسلتم المبلغ لم يتم القرض.

وكذلك في الهبة، المعروف بين الناس: ادخار الأجيال، أنا أقول للبنك: حوّل من راتبي في كل شهر ألف ريال لأولادي، أدخلها في حساب أولادي، هل يتحقق بذلك القبض؟ لا، عند السيد الخوئي لم يتحقق القبض. عند السيد السيستاني والشيخ التبريزي يتحقق القبض بذلك، المهم أن تكون لك سلطنة على التصرف، فإذا دخل المبلغ في حسابك صرت مسلطًا على التصرف فيه، تستطيع أن تهبه أو تقرضه أو تتصرف فيه أي تصرف، بما أنه إذا دخل حسابك أصبحت لك سلطة على التصرف في هذا المبلغ فقد قبضته، وإن لم تستولِ عليه لا بيدك ولا بيد وكيلك.

المثال الثاني الذي يرتبط بمسألة القبض: هذا مثال مهم، مثال صناديق الصدقات، الجمعية توزع صناديق على البيوت، على المحلات، أنا يوميًا مثلًا بين الطلوعين أخرج ريالًا وأضعه في هذا الصندوق، وعند الغروب أخرج ريالًا وأضعه في هذا الصندوق، تجتمع الأموال في هذا الصندوق، وبعد ذلك أذهب به إلى الجمعية، والجمعية تفتح الصندوق... إلى آخره. على رأي السيد الخوئي: هذا لا يفيد، هذه المبالغ لا زالت في ملكك، التي جعلتها في الصندوق لا زالت في ملكك، ما خرجت، وبما أنها ما خرجت عن ملكك فإذا صار رأس السنة لا بد من إخراج خمسها؛ لأنها ما خرجت عن ملكك، وإذا شك في المقدار الذي تصدق به فإنه حينئذ يخمّن مقداره، ويخرج خمس المقدار المخمّن، فهذه الأموال التي وضعها في الصندوق لم تخرج عن ملكه على رأي السيد الخوئي.

ولو أراد أن يرجع، وقال: أنا اليوم عندي حاجة، أريد أن آخذ هذه الأموال وأستفيد منها، أشتري بها خضرة، يحق له فتح الصندوق وأخذ هذه الأموال، ولو مات فإن ورثته يرثون هذه الأموال، لأنها ما خرجت عن ملكه. أما على رأي السيد السيستاني والشيخ التبريزي، يقولان: هذا الصندوق بما أنه ملك إلى الجمعية، هذا ليس ملكك، هذا الصندوق ملك للجمعية، وفتحه وإغلاقه ليس بيدك، وإنما هو بيد الجمعية، إذن فبالنتيجة: لا سلطنة لك على التصرف فيما فيه، وإنما السلطنة على التصرف على ما فيه للجمعية؛ لأنه ملك للجمعية، وبالنتيجة قبضته الجمعية وخرج عن ملكك بمجرد دخوله إلى الصندوق.

على رأي السيد الخوئي ما هي الوسيلة وما هو العلاج؟ على رأي السيد الخوئي الوسيلة والعلاج التوكيل، هذا الذي يوزّع الصندوق من قِبَل الجمعية هو يأخذ وكالة عن الفقراء، يأخذ وكالة عن الأيتام الذين يكفلونهم، إذا أخذ وكالة عن الفقراء أو عن الأيتام فحينئذ كل من يعطيه صندوقًا، سواء كان صاحب بقالة أو صاحب بيت، كل من يعطيه صندوقًا يقول له: أنت وكيل عني في القبض، فيكون صاحب البيت أو صاحب السوبرماركت وكيلًا عن الوكيل، هذه اليد تقول: تصدقت، هذه اليد تقول: قبضت، إذا قال باليد الأخرى قبضت خرج عن ملكه بمجرد قبضه، لا داعي لأن يجعله في الصندوق، الصندوق وجوده وعدمه سيان. إذن فبالنتيجة: بهذه الوسيلة يمكن حل الإشكال على من هو باق على تقليد السيد الخوئي.

الحمد لله، أنا عندما أتعرض إلى هذه المسائل ليس قصدي تثبيط الناس عن معاونة الجمعية الخيرية، بالعكس، هذه الجمعية الخيرية أنقذتنا من كثير من الأمور، وهي قائمة بفعاليات عظيمة ومباركة، الجمعية الخيرية تنعش عوائل كثيرة، مئات العوائل الكثيرة، ومئات الأيتام، ومئات المحتاجين، هي تقوم بإنعاشهم، بإنقاذهم، برفع حوائجهم، والقائمون على الجمعية الخيرية - جزاهم الله خير الجزاء - من أعظم الناس قربة، ومن أعظم الناس علقة بالله عز وجل؛ لأنهم قائمون على إجراء هذه الصدقة.

أقرأ لك هذه الرواية التي تفيد في هذا الجانب: روي عن أبي عبد الله الصادق : ”لو جرى المعروف على ثمانين كفًا لأجروا كلهم من غير أن ينقص صاحبه من أجره شيئًا“. أنا بدلًا من أعطي الصدقة مباشرة للفقير أعطيها شخصًا، هذا الشخص يوصلها للجمعية، الجمعية توصلها للمسؤول، المسؤول يوصلها للفقير، كم كفًا اشتغلت؟ خمسة أكف اشتغلت، جميع الأكف تؤجر. إذن، ما تقوم به الجمعية الخيرية من الفعاليات العظيمة المباركة التي تنعش أوضاع مجتمعنا مجهودٌ عظيمٌ يشكرون عليه، وعلينا أن نتعاون معهم، وعلينا أن نسندهم، وعلينا أن نعينهم، ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وهم متدينون متشرعون.

الأخ أبو فاضل عباس الشماسي ومن معه من الثلة - ثلة الشباب المتدين الطاهر - دائمًا يراجعونني في المسائل الشرعية، دائمًا، حتى في قم يراجعونني في المسائل الشرعية المرتبطة بأعمالهم في الجمعية، عملًا عملًا، جزءًا جزءًا، دائمًا يريدون أن تكون الأمور مبنية على المسائل الشرعية، ومبنية على الفتاوى الشرعية، من دون خروج عنها، ومن دون تجاوزها، جزاهم الله خير الجزاء، وهم عندهم - الحمد لله - وكالة عن الفقراء، وعندهم ولاية أيضًا من قِبَل الحاكم الشرعي، أعطوا ولاية من قِبَل الحاكم الشرعي على التصرف في الأموال، كما أن لهم ولاية عامة عن الفقراء، فجزاهم الله خير الجزاء.

الركن الثالث: قصد القربة.

الصدقة يشترط فيها القربة، بدون قربة لا تصبح صدقة، تصبح هبة عادية، كما أهب ولدي، هذه هبة، ليست صدقة، كذلك أنا إذا أعطيت الفقير عشرة ريالات لا بقصد القربة، بل بقصد أن أدفع شره مثلًا، أعطيه حتى أتخلص منه، هذه ليست صدقة، هذه هبة، لا بد أن تكون الصدقة بقصد القربة، كما ورد عن حماد عن الصادق : ”لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله عز وجل“.

الركن الرابع: عدم جواز الرجوع فيها.

الصدقة بعد القبض لا يجوز الرجوع فيها. ذكرنا يوم أمس أحكام الهبة، الهبة إذا كانت لشخص أجنبي، مثلًا: صديقي أنا أهبه خمس مئة ريال، قبضها صديقي، بعد أن قبضها وقبل أن يتصرف فيها أستطيع أن أرجع، قبل أن يتصرف في هذه الخمس مئة إذا لم يتصرف فيها وما زالت تحت يده فيمكنني أن أرجع فيه، الهبة عقد جائز أستطيع الرجوع فيه. لو وهبت رحمًا، لو وهبت ولدي أموالًا، أو وهبت أخي أو عمي أو خالي أو جدي أو جدتي أو أبي أو أمي، إذا وهبت الرحم فقبض، بمجرد أن يقبض الرحم لا مجال للرجوع في الهبة، تكون الهبة هبة لازمة، ذكرنا يوم أمس أن الزوجة ليست من الأرحام، لو وهب الزوج زوجته، وقبضت الزوجة، ثم أراد الرجوع، فيمكنه أن يرجع، وكذلك إذا وهبت الزوجة زوجها مبلغًا وقبضه ثم أرادت الرجوع فيمكنها أن ترجع، الهبة للزوجة أو للزوج كالهبة للأجنبي يجوز الرجوع فيها بعد القبض، وإنما تكون الهبة لازمة ولا يجوز الرجوع فيها بعد القبض إذا كان هبة لرحم، أي: شخص يشترك معي في رحم واحد، أب، أم، عم، خال، أخ، أخت، عمة، خالة، جد، جدة، هذا الذي يعد رحمًا عرفًا.

أما في الصدقة فلا فرق بين الرحم وغير الرحم، هذا الفرق بين الصدقة والهبة، في الصدقة لا فرق بين الرحم وغير الرحم، إذا أعطيت المبلغ للفقير فقبضه لا يجوز لي الرجوع فيه، فإذا أعطيته بقصد القربة كان صدقة، فلا يجوز الرجوع فيها.

الركن الخامس: السعة من حيث العمل ومتعلقه.

الركن الأخير من أركان الصدقة: أن الصدقة واسعة من حيث العمل ومن حيث متعلَّق العمل. أما من حيث العمل: الصدقة ليست من اللازم أن تكون بالأموال، الصدقة مأخوذة من الصدق، أي: العمل الصادق، كل عمل قصدت به وجه الله فهو صدقة؛ لأنه عمل صادق، كل عمل تجردت فيه من الإنسانية وقصدت به وجه الله فهو صدقة، التدريس صدقة، التعليم صدقة، إماطة الأذى عن الطريق صدقة، مساعدة أخيك المؤمن قربة إلى الله صدقة، أي عمل تقوم به قربة إلى الله تعالى، أي: قصدت به القربة لله تعالى، فهو صدقة، لأنه عمل صادق، وتشمله هذه الروايات كلها: الصدقة تدفع البلاء، الصدقة تدفع البلاء وقد أبرم إبرامًا، الصدقة تطرح البركة... إلخ، جميع هذه الروايات تشمل هذه الصدقة، التدريس صدقة تشمله هذه الروايات كلها، عون الضعيف، إماطة الأذى عن الطريق، أي عمل يقوم به الإنسان يخدم به الآخرين قربة إلى الله تعالى - حتى لو لم يكن دفع أموال - فهو صدقة، وتشمله روايات الصدقة.

من جهة المتعلَّق أيضًا الصدقة واسعة، الكثير من الناس يظنون أن الصدقة لا بد من أن تكون على فقير! الصدقة لا يشترط فيها أن يكون المتصدَّق عليه فقيرًا، ليس من اللازم، حتى الغني تستطيع التصدق عليه، الصدقة لا يشترط في متعلَّقها أن يكون المتصدَّق عليه فقيرًا، حتى لو كان غنيًا وأعطيته مبلغًا قربة إلى الله كان ذلك صدقة، كما لو رأيته في الطريق مثلًا فقال لك: أنا أريد أن أشتري علبة بيبسي، وأنا بخيل لا أخرج ريالًا! فقلت له: خذ هذا الريال قربة لله تعالى، صارت صدقة.

لا فرق بين أن تكون الصدقة على الفقير أو على الغني، وإذا شككت في فقر شخص أو عدم فقره فاستصحب - كما يقول السيد الخوئي - فقره، هذا عندما كان نطفة في بطن أمه ألم يكن فقيرًا؟! استصحب فقره من ذلك اليوم إلى هذا اليوم، فإذا شُكَّ في أنه فقير أو غني استصحب فقره، أعطه من الصدقة. بل لا فرق في الصدقة بين الشيعي وغيره، ولا بين المسلم وغيره، يجوز الصدقة حتى على غير الشيعة، ويجوز الصدقة حتى على الكفار الذميين، ما دام هو كافرًا يعيش معك في أرض الإسلام يجوز أن تتصدق عليه، ولك أجر، إذا تصدق على الفقير غير الشيعي يؤجر، إذا تصدق على الكافر الذمي الذي يعيش على أرض الإسلام يؤجر، لا فرق في الأجر على الصدقة بين أن يكون مسلمًا أو غير مسلم، المهم أن يكون ذميًا، أي: يعيش معك على أرض الإسلام بذمة الإسلام، لا فرق بين أن يكون غنيًا أو فقيرًا، بين أن يكون مسلمًا أو غير مسلم، بين أن يكون إماميًا أو غير إمامي.

الكلمة الطيبة من أفضل الصدقة، مثلًا: ترى شخصًا مغمومًا، تعصره تبتسم في وجهه وتقول له: لماذا ضايق خلقك؟! لا تسوى الدنيا! ابتسم قليلًا.. هذه صدقة؛ لأنك خففت عنه بهذا الكلام، أو رجل مثلًا يفعل منكرًا والعياذ بالله، تنصحه بالأسلوب الحسن قربة إلى الله تعالى، هذه صدقة، ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. هذه الرواية: ما رواه سبير الصيرفي: قلتُ لأبي عبد الله : أطعم سائلًا لا أعرفه مسلمًا؟ قال: ”نعم، أعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة، إن الله يقول: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، ولا تطعم من نصب لشيء من الحق، أو دعا إلى شيء من الباطل“ لا تتصدق على الناصبي، إلى آخر الروايات في هذا الباب.

النقطة الثالثة: أحكام الصدقة.

نذكر هنا حكمين مختصرين:

الحكم الأول: الصدقة على الهاشمي.

يقول في المنهاج: تحل صدقة الهاشمي على الهاشمي وعلى غيره حتى زكاة المال وزكاة الفطرة، وأما صدقة غير الهاشمي فإن كانت الصدقة زكاة لا يجوز إعطاء زكاة غير الهاشمي للهاشمي، ولا تفرغ ذمته. إذا كان غير هاشمي وأعطى صدقته للهاشمي، وكانت الصدقة زكاة، فإن ذمته لا تبرؤ، ما برئت ذمته بهذا الدفع، لا بد أن يدفع مرة أخرى. وإن لم تكن الصدقة زكاة - لا زكاة فطرة ولا زكاة مال - جاز إعطاؤها من غير الهاشمي إلى الهاشمي، حتى لو كانت صدقة واجبة.

الناس يظنون أن الصدقة لا تحل على بني هاشم، حتى لو هي صدقة مستحبة! لا، الذي لا يحل لبني هاشم هو خصوص الزكاة، زكاة المال أو زكاة الفطرة، وأما الصدقة سواء كانت واجبة أو مندوبة، ومثال الصدقة الواجبة: الكفارات، لو أفطر إنسان في نهار شهر رمضان متعمدًا فعليه كفارة، إما يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينًا، أراد أن يطعم ستين مسكينًا، هو عامي، والمساكين هاشميون، فيمكنه إعطاؤهم من الكفارة. وكذلك إذا نذر، لو نذر أن يتصدق فيمكنه التصدق على بني الهاشم.

إلا إذا كانت من قبيل ما يتعارَف من دفع المال القليل لدفع البلاء ونحوه. السيد الخوئي وتلامذته مشوا على نفس العبارة، هذه المبالغ التي يدفعها الإنسان، ريال يدفعه لدفع البلاء، صعد السيارة، فدفع صدقة لدفع البلاء، هذا المبلغ اليسير الذي يدفعه الإنسان لدفع البلاء عن نفسه إذا أراد أن يعطيه فقيرًا من بني هاشم، هذا يستلزم الذلة، دفع هذا المبلغ اليسير الذي يتصدق به لأجل دفع البلاء على بني هاشم مستلزم لذلتهم ومهانتهم فلا يجوز، من هذا الباب لا يجوز، من باب أنه مستلزم للذلة والمهانة، والله قد أكرمهم بالنبي محمد . قال: لدفع البلاء مما كان من مراسم الذل والهوان، ففي جواز مثل ذلك - أي: جوازه على الهاشمي - إشكالٌ. السادة يستشكلون في مثل ذلك.

الحكم الثاني: مسألة التبرعات.

يقوم شخص ويقول: هيا لنبني حسينية أو مسجدًا أو لننشئ مشروعًا ثقافيًا، فاجتمعوا وأعطوه مالًا. هنا، هذا الذي استلم الأموال لأجل بناء مسجد أو لأجل بناء حسينية أو لأجل أن يقوم بمشروع ثقافي أو بمشروع خيري، هذا الذي استلم الأموال ليست عنده ولاية شرعية على الأموال، إذا استلم الأموال فهل خرجت هذه الأموال عن ملك المتبرِّع؟ هل تخرج الأموال عن ملكه بقبض ذلك الشخص الذي تصدى لبناء حسينية أو بناء مسجد أو مشروع ثقافي أو مشروع خيري، أم لا؟

يقول السيد الخوئي والشيخ التبريزي والسيد السيستاني وأمثالهم: لا مانع من ذلك، هذا إعراض لجهة مخصوصة، أنا عندما أتبرع بأموالي للحسينية فقد أعرضت عن أموالي لكي تُصْرَف في بناء الحسينية، فبمجرد أن أسلم أموالي لشخص معين فأنا قد وليته، الشرع لم يوله، لكن أنا وليته، أنا وليت هذا الشخص في أن يصرف أموالي في الجهة المعينة ألا وهي الحسينية. هذا نظير الوقف، أنت عندما تبني دارًا وتقفها مسجدًا، ألا يحق لك نصب الولي؟ يحق لك، ليس من اللازم أن ينصب الشرع، أنت - نفس الواقف - تستطيع أن تنصب وليًا، تقول: أنا وقفت هذه الدار، وجعلت الولي عليها أنا، أو جعلت الولي عليها فلانًا. لأنها أموالك تستطيع أن تجعل لها وليًا من قِبَلك، ويصبح وليًا شرعيًا، لا إشكال في هذا.

كذلك نحن الذين نجمع التبرعات، نعطي أموالنا لفلان، نولي فلانًا على أن يقبض أموالنا ويصرفها في الجهة المعينة، وهي الحسينية أو المسجد أو المشروع الخيري، هذه عملية صحيحة، وتخرج هذه الأموال عن ملك المتبرع بقبض هذا الشخص الذي تصدى لهذا المشروع ولدعم هذا المشروع.

الصدقة المندوبة سرًا أفضل من العلانية، والصدقة الواجبة علانية أفضل. إذا أردت أن تدفع زكاة الفطرة فدفعها علانية أفضل، وإذا أردت دفع صدقة مستحبة فدفعها سرًا أفضل. ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله الصادق : ”وكل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره، وكل ما كان تطوعًا فإسراره أفضل من إعلانه، ولو أن رجلًا حمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسنًا جميلًا“.

أنت في الصدقة الواجبة حتى تشجع الناس على عمل الواجب يكون فعلك علانية، وفي الصدقة المستحبة حتى تربي نفسك على الإخلاص والقربة لله عز وجل يكون الإسرار أفضل من العلانية. والتوسعة على العيال أفضل من الصدقة، إذا دار الأمر بين أن يتصدق على الفقير أو يوسّع على عياله المحتاجين فالتوسعة على العيال أفضل من الصدقة على الفقير. والصدقة على القريب - أي: الرحم - أفضل من الصدقة على غيره، كما ورد عن الصادق : ”لا صدقة وذو رحم محتاج“.

لو كان عندي رحمان: رحم علاقتي معه حسنة، ورحم لا يعبأ بي، وكلما رآني قابلني بتجهم، فأيهما أفضل: إعطاء الصدقة للرحم الودود أم الرحم المتجهم؟ للرحم المتجهم أفضل، وذلك لما رواه السكوني عن أبي عبد الله الصادق : سئل رسول الله : أي الصدقة أفضل؟ قال: ”على ذي الرحم الكاشح“، أي: الرحم الذي يعاديك، تصدق عليه، الأجر والثواب يكون أكثر.