الدرس 123

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

ذكرنا في ما سبق أن عنوان الطَّهور في المستثنى من حديث لا تُعاد مجمَلٌ بين اختصاصه بالطهارة الحدَثية أو شموله للطهارة الخبَثية، وأن ما ذُكر في الذيل من قوله» لا تنقض السنة الفريضة «لا يصلح قرينةً على أن المراد بالطّهور في صدر الرواية الطهارة الحدثية، وذلك لإجمال عنوان الفريضة، إذ لم نُحرز أن المراد بالفريضة ما فُرض في الكتاب كي يُقال اختصاص الطهور في صدر الرواية بالطهارة الحدثية. ومقتضى ذلك عدم صحة التمسك بحديث لا تُعاد لإثبات صحة الصلاة عند الإخلال بالطهارة الخبثية عن جهلٍ، كما لو صلى في النجس معتقِدًا بأن دم السنّور ليس بنجس اجتهادًا أو تقليدًا، ولكن قد يُجاب عن هذا الإيراد بأحد وجوه: الوجه الأول أن يُقال: إن الطهارة الخبثية مما ورد في الكتاب أيضًا، وذلك في قوله عز وجل: «وثيابك فطهر». ومقتضى ذلك شمول عنوان الطهور في المستثنى للطهارة الخبثية، فلا يبقى ثمّة إجمال، بل يكون حديث لا تعاد شاهدًا على بطلان صلاته لإخلاله بأحد الخمسة بلا حاجة للرجوع إلى العمومات الدالة على مانعية النجاسة من صحة الصلاة. ولكن الجواب عن ذلك بأحد وجهين:

الوجه الأول: أنه ورد في الروايات الشريفة تفسير هذه الآية «وثيابك فطهر» بتقصير الثوب لا بتطهيره من النجاسة، فقد ذكر صاحب الوسائل في الجزء الخامس من الوسائل، باب 22 من أبواب أحكام الملابس، ذكر أحد عشر رواية تدل على استحباب تقصير الثوب، وفي جملة منها تفسير الآية بذلك، ففي صحيحة عبد الله بن سنان، الحديث الثاني عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل «وثيابك فطهر» قال: فشمِّره. وأيضًا في الحديث الخامس، وهو رواية سلَمة بياع القلانس: كنت عند أبي جعفر إذ دخل عليه أبو عبد الله - يعني الصادق -، فقال أبو جعفر: يا بني ألا تطهر قميصك؟ فذهب فظننّا أن ثوبه قد أصابه شيء، فرجع، فقال: إنهنّ هكذا. فقلنا: جعلنا فداك، ما لقميصه؟ فقال: كان قميصه طويلًا فأمرته أن يقصره، إن الله عز وجل يقول: وثيابك فطهر. ونحوها حديث 8 من نفس الباب، رواية عبد الرحمن بن عثمان قال: قال أبو الحسن : إن الله عز وجل قال لنبيه : وثيابك فطهر، وكانت ثيابه طاهرة، وإنما أمره بالتشمير - أي فشمِّر -. والجواب الثاني: على فرض استفادة أن المراد الجديّ من قوله عز وجل «وثيابك فطهر» أي الطهارة الخبثية، فإن هذه الآية لا يُحرَز ورودها في بيان شرائط الصلاة كي يُستفاد أن شرطية الطهارة الخبثية في الصلاة مما فُرض في الكتاب، فعند ملاحظة سياق الآية وهي قول عز وجل «وربك فكبر* وثيابك فطهر* والرجز فاهجر* ولا تمنن تستكثر* ولربك فاصبر».... فإن غاية ما يقتضيه السياق أن تطهير الثوب في نفسه مطلوب، كما أن هجران الرجز في نفسه مطلوب، ولا ظهور فيها في أنه من شرائط صحة الصلاة كي يُستدل بذلك على المقام. هذا الوجه الأول من وجوه الإجابة عن الإشكال.

الوجه الثاني: إن عنوان الطهور لم يُطلَق على الطهارة الخبثية في النصوص، وإن ما استُعمل في الطهارة الحدثية، مما يشكّل قرينة على ظهوره في الطهارة الحدَثية، فقد ورد في النصوص: التراب أحد الطهورين. وفي قوله عز وجل: «وإن كنتم جنبًا فاطّهروا»، يعني مقصودنا مو عنوان الطهور بما هو مادة، مادة الطهارة. وفي قوله عز وجل: «ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم» ونحو ذلك من الإطلاقات. ولكن يلاحَظ على هذا الوجه وإن اعتنى به بعض أن هذه المادة كما استُعملت في النصوص بلِحاظ الطهارة الحدثية كذلك استُخدمت كثيرًا في لحاظ الطهارة الخبثية، فلاحِظ ما ورد في الجزء الأول من الوسائل... فلاحظ الباب الأول من أبواب الماء المطلق صفحة 133 عفوًا، صحيحة جميل بن درّاج، حديث 1: عن أبي عبد الله : إن الله جعل التراب طهورًا كما جعل الماء طهورًا،. وهذه الرواية مطلقة، ولكن، في صحيحة داود بن فرقد، حديث 4 من نفس الباب، عن أبي عبد الله : كان بنو إسرائيل إذا أصابَ أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض.

كان بنو إسرائيل إذا أصابَ أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورًا، فانظروا كيف تكونون. وفي الحديث الثامن من نفس هذا الباب ما رواه صاحب الوسائل عن المحقق في المعتبَر قال: قال : خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونَه أو طعمه أو ريحه. وأيضًا في الباب الثاني من هذا الباب صحيحة عبد الله بن سنان في الباب الثاني من أبواب الباب المطلق، صحيحة عبد الله بن سنان، الحديث الأول: عن أبي عبد الله : سألته عن ماء البحر أطهور هو؟ قال: نعم. فدعوى أن عنوان الطهور أو هذه المادة استُعملت في النصوص بخصوص الطهارة الحدثية غير تامة. فالطهور هنا نفس الطهارة، صح؟ فإذا كان المراد نفس الطهارة، دعوى أن عنوان الطهور أو هذه المادة استُخدمت في خصوص الطهارة الحدثية، الشواهد على خلافها، مو أنه الوصف، لم يقولوا أنه إذا صار الطهور وصفًا شيئًا كان ظاهرًا في طهارته في نفسه، هذا بحث ذكروه في أول بحث الطهارة في الاستدلال في بقوله تعالى «وأنزل من السماء ماءً طهورا» على طهورية الماء [هذا مراد..؟؟] لا الآن قاعد يتكلم عن الطهارة الحدثية، مو يتكلم على أنه إذا كان الطهور وصفًا لشيء فهو ظاهر في طهارته بنفسه لا مطهريته لغيره، لأن هذا البحث أعمّ من الطهارة الحدثية والخبثية ما إله علاقه بالمطلب، محل العلاقة بالمطلب: دعوى أن عنوان الطهور أو مادة الطهور استُخدمت في النصوص في الطهارة الحدثية، مو أنها إذا جاءت وصفًا كانت ظاهرة في وصف الشيء بلحاظ ذاته لا بلحاظ غيره، هذه دعوى أخرى مالها علاقة بالبحث»

الوجه الثالث: أن يقال: على فرض إجمال عنوان الفريضة في الذيل، على فرض إجمال عنوان الطهور في صدر الرواية، حيث لا ندري أنه هل يختص بالحدثية أم يشمل الخبثية، وعلى فرض إجمال عنوان الفريضة في الذيل - سلَمنا بالإجمال في الجميع -، لكن ظاهر سياق ذيل حديث لا تُعاد، حيث قال: لا تنقض السنة الفريضة، أن المناط في صحة الصلاة عدم الإخلال بالفريضة لا الإخلال بالسنة. أي أن المصحِّح للصلاة ألا يقع إخلال بالفريضة، لا أن المصحح للصلاة وقوع الإخلال في السنة، فالمناط في المصحح ألا يقع إخلال بالفريضة، فبناء على ذلك إذا شككنا في أن الطهارة الخبثية فريضة أم ليس بفريضة، سواءً أريدَ بالفريضة ما فُرض بالكتاب، أو أريدَ بالفريضة عموم ما فرضه الله عز وجل، على أية حال، بالنتيجة نحن نشك أن الطهارة الخبثية فريضة أم ليست بفريضة، مقتضى استصحاب العدم الأزلي أنها ليست فريضة، أي أن الطهارة الخبثية عندما لم تشرَّع لم تكن طهارةً، لم تكن فريضة، فكذلك بعد تشريعها. فبناءً على مسلك السيد الخوئي «قدس سره» من جريان استصحاب العدم الأزلي صحة التمسك بحديث لا تعاد لإثبات صحة الصلاة عند الإخلال بالطهارة الخبثية، فإن المصحح للصلاة عنده ألا يقع إخلال بالفريضة. ونحن لا ندري هذه فريضة أم لا، مقتضى استصحاب عدم كونها فريضة ولو بنحو استصحاب العدم الأزلي ألا يقع إخلال بالفريضة، فالصلاة صحيحة، لا أننا نريد بهذا الاستصحاب أن نثبت أنها سنة كي يكون أصلًا مثبِتًا، فإن عنوان السنة لا دخل له في الموضوع، وإنما المصحح للصلاة ألا يقع إخلال بالفريضة، وهذا مما يثبت استصحاب العدم الأزلي.

وأما إذا لم نقل باستصحاب العدم الأزلي، كما أننا لم نقل به على نحو الموجَبة الكلية وإنما في بعض الموارد إذا تمت شروطه، إذًا فبالنتيجة يكون الإشكال بنظرنا مستحكِمًا، وهو أن: حديث لا تعاد وإن كان شاملًا لمن أخلّ بسنة عن جهل قصوري بمقتضى إطلاق الحديث، وعدم وجود ما يخصصه بفرض النسيان، إلا أنه في خصوص الإخلال بالطهارة الخبثية عن جهلٍ، حيث لم نحرز أنها من الفراض أم لا وأنها من المستثناة أم لا، لذلك يكون التمسك بحديث لا تعاد فيها تمسكًا بالدليل في الشبهة المصداقية بموضوعه، والمرجع حينئذٍ عموم الأدلة الدالة على مانعية النجاسة. هذا تمام الكلام في هذا البحث، وهو الإخلال بالسنة عن جهلٍ قصوري.

ويقع البحث في المطلب الثاني: وهو ما إذا كان الإخلال عن جهلٍ تقصيريٍّ، فقد أفاد سيدنا «قدس سره» في صفحة 317 من الجزء الثالث من موسوعته أن: مقتضى إطلاق حديث لا تعاد شمولها حتى للجهل التقصيري، حيث قال: لا تعاد الصلاة إلا من خمسة، أي لا تعاد الصلاة من خلل بأي واجب من واجباتها إلا الخمسة، فمقتضى إطلاق حديث لا تعاد شمولها للإخلال عن جهلٍ قصوريٍّ أو تقصيري. إنما الكلام في الرافع عن هذا الإطلاق، أي ما هو المخرِج للجهل التقصيري عن حديث لا تُعاد؟ وقد ذُكر في المقام ثلاثة وجوهٍ لإخراج الجهل التقصيري عن حديث لا تعاد، الوجه الأول ما بنى عليه سيدنا «قده» في هذه الصفحة، حيث قال: إن هناك مانعًا من شموله له - يعني للجهل التقصيري -، وهو لزوم تخصيص أدلة المانعية بمن صلى في النجس عن علم وعمد، لما يأتي من عدم شمولها للجاهل والناسي - يعني أدلة المانعية -، فإذا أخرجنا عنها حتى الجاهل المقصر لم يبقَ تحتها إلا العالم العامد، وهو من التخصيص بالفرد النادر، بل غير المتحقق، حيث إن المكلَّف إذا علم بنجاسة الشيء والتفت إلى اشتراط الصلاة بعدمه، لم يُعقل أن يقدم على الصلاة فيه، إلا أذا أراد اللعب والعبث، كيف ولا يتمشى منه قصد التقرب لعلمه بعدم تعلق الأمر بالصلاة في النجس. مو لازم اللعب والعبث، بعضهم يتقرب إلى الله؛ يقول أنا أريد أن أتقرب إلى الله على الحالة التي أنا عليه. إذًا بالنتيجة لازم شمول حديث لا تعاد للجاهل المقصر اختصاص الأدلة الأولية بالفرد النادر وهو مستهجنٌ، ولكن يلاحَظ على ذلك أولًا ما ذكرناه في ما سبق أن الندرة في طول الأدلة وليست في عرضها، فهي في زمان صدورها لم يكن الإخلال أمرًا نادرًا كي يلزم من ذلك الاستهجان، ولكن ببركتها والتفات المسلم لها صار الإخلال عن علم وعمد أمرًا نادرًا. وثانيًا: على فرض أن ذلك أمرٌ نادر، فغاية ما يؤدي إليه الاستهجان وقوع التعارض بين الحديثين، لا أننا نخرجه من حديث لا تعاد وندخله تحت الأدلة الأولية لكي لا يحصل استهجان، فإن غاية الاستهجان أن يُقال: إن الأدلة الأولية ظاهرة ظهورًا قويًّا في الشمول للجاهل المقصر، لأن إخراجه عنها يلزم حملها على الفرد النادر وهو مستهجن. وفي الجانب الآخر، إن مقتضى إطلاق حديث لا تعاد شمولها للجاهل المقصر، فيقع التعارض بينهما في الجاهل المقصر، لا أن مقتضى ذلك أن العرف يقول: إذًا فلتخرج عن حديث لا تعاد وتدخل في الأدلة الأولية لكي لا يحصل هذا المحذور.

الوجه الثاني: ما ذكره العلَمان السيد الشهيد وشيخنا الأستاذ «قدس سرهما» من الفرق في الجاهل المقصر بين فردين، إذ تارةً يكون الجاهل المقصر ملتفتًا، أي أنه شاكٌّ في الحكم ومع ذلك لم يبالِ ولم يستند إلى حجة شرعية، وتارةً يكون الجاهل المقصر غافلًا أو قاطعًا بالطهارة، فإن كان من الصنف الأول فمن الواضح انصراف حديث لا تعاد عنه، لأنه حديث لا تعاد منصرف عمَّن خوطب بلزوم إحراز الامتثال إمّا شرعًا - كما إذا كان عالمًا بالنجاسة -، أو عقلًا - كما إذا كان شاكًّا ملتفتًا -، فإن مقتضى قاعدة الاشتغال اليقيني - يقتضي الفراغ اليقيني - أنه مخاطَبٌ بإحراز الامتثال، فحديث لا تعاد منصرفٌ عن فرد مخاطَب بإحراز الامتثال، وأما الجاهل المقصر الغافل؛ يعني إما أنه معتقِدٌ بطهارة ثوبه - حكمًا طبعًا نتكلم عن الحكم - إما أنه معتقِدٌ بطهارة بول السنّور مثلًا، وإن كان اعتقاده عن تقصير أو أنه غافل عن هذه المسألة بالمرة، فمقتضى حديث لا تعاد شموله له، وأي مانع من ذلك، فإننا لو اقتصرنا على إخراج الجاهل المقصر المركَّب عن الأدلة الأولية وأدخلناه تحت حديث لا تعاد فبقي تحت الأدلة الأولية العالم العامد والجاهل المقصر الملتفت، لم يكن ذلك موجبًا لحملها على الفرد النادر كي يكون مستهجنًا، فالنتيجة هي: لا مانع من شمول حديث لاتعاد للجاهل المقصر إذا كان جاهلًا مركّبًا بمقتضى إطلاقها. ولم يذكر سيدنا «قدس سره» في قبال ذلك وجهًا للمنع، بل قال في صفحة 318: وأما الجاهل المقصر الذي لا يتردد في صحة عمله، فهو وإن كان يشمله الحديث، إلا أن قيام الإجماع على بطلان عمل الجاهل المقصر في كلماتهم هو المانع من الشمول، والحال هذا أول الكلام، فإنه أولًا إن الأعلام فرّقوا بين الجاهل والعالم في عدة موارد، وإن كان جاهلًا مقصرًا، مثلًا من اعتقد بزوجية امرأةٍ أنها زوجته فوطأها، يُعتبَر الوطأ وطأ شبهة وإن كان جاهلًا مقصرًا. من عقد على ذات بعلٍ أو معتَدّة، معتقدًا أنها ليست ذات عدة أو ليست ذات بعل، فإنها لا تحرم عليه مؤبدًا وإن كان جاهلًا مقصرًا. مثلًا من جهر في موضع الإخفات أو أخفت في موضع الجهر صلاته صحيحة إذا فعل ذلك عن جهل وإن كان جاهلًا مقصرًا. مثلًا من ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام عن جهلٍ تقصيريٍّ لم تجب عليه الكفارة، لصحيحة عبد الصمد: أي رجل ركب أمرًا بجهالة فلا شيء عليه. فالنتيجة أن المشهور فرّق بين العالم والجاهل في كثيرٍ من الموارد، وساوى بين القاصر والمقصر، فمن أين الإجماع المدّعى على أن الجاهل المقصّر كالعالم بالحكم بفساد صلاته، وعلى فرض قيام هذا الإجماع فهو إجماعٌ على استحقاقه العقوبة لتقصيره لا على فساد عمله، وعلى فرض قيام الإجماع على فساد عمله، فإن الإجماع دليلٌ لبيٌّ يقتصر فيه على القدر المتيقن، والقدر المتيقن منه الجاهل القاصر الملتفت، وشموله للجاهل المقصر المركَّب مشكوكٌ.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.