الدرس 123

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في الوجه في عدم منجّزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة، وسبق الكلام في الوجه الأول، والكلام فعلًا في،

الوجه الثاني: وهو دعوى قصور المقتضي، أي أن العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة قاصر في نفسه عن المنجّزية، من دون فرق بين مسلك الاقتضاء ومسلك العلّيّة، وبيان ذلك أنّ الشبهة غير المحصورة تعني أن كثرة الأطراف بلغت حدًّا ينقسم المعلوم بالإجمال على جميعها بنحوٍ يكون احتمال الانطباق على كل طرف احتمالًا موهومًا يقابله الاطمئنان بعدم الانطباق في ذلك الطرف. مثلًا، إذا علمنا إجمالًا بنجاسة ماءٍ في أحد بيوت قم، أو وجود ميتةٍ في أحد بيوت قم، فالمعلوم بالإجمال هنا رقمٌ، لو لوحظت نسبة هذا الرقم رياضيًّا إلى كثرة الأطراف، لكان احتمال انطباق هذا المعلوم بالإجمال وهو وجود ماءٍ نجس في قم على كل طرف من أطراف هذه الدائرة احتمالًا موهومًا، ومعنى كونه احتمالًا موهومًا أن احتمال الانطباق على كل طرف مساوق للاطمئنان بعدم الانطباق، فكل طرفٍ يضع المكلَّف يده عليه يحصل له اطمئنان بعدم كونه هو النجس، وأن احتمال النجاسة احتمالٌ موهوم لا يُعتنى به لدى العقلاء، وبما أن الاطمئنان حجة عقلائية أمضاها الشارع المقدس لعدم الردع، ففي كل طرفٍ قامت إمارة شرعية على عدم الاعتناء باحتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه، ومقتضى هذه الإمارة الشرعية عدم وجوب الموافقة القطعية، من دون فرق في ذلك بين سائر المسالك في منجّزية العلم الإجمالي كما سيأتي إثباته. وهنا إيرادات على هذا البيان وهذا الوجه. الإيراد الأول: هو أنه إنما لا يعتني العقلاء باحتمال التكليف أو باحتمال انطباق المعلوم بالإجمال في أي طرفٍ إذا لم يكن المحتمل بحدٍّ من الأهمية، كما في كثيرٍ من الأغراض العقلائية، فإنهم إذا علموا إجمالًا بوجود غرض عقلائي لديهم في دائرة معينة، ولم يكن هذا الغرض بحدٍّ كبير من الأهمية، فاحتمال انطباقه على بعض الموارد مما لا يُعتنى به. وأما إذا كان الغرض العقلائي كخطر كهربائي هو المعلوم إجمالًا، فإن مقتضى أهمية المحتمَل اعتناؤهم باحتمال الانطباق في كل طرف، فدعوى أن بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الانطباق في كل طرفٍ من أطراف الشبهة غير المحصورة، إنما يتم في ما لم يكن الغرض أهمّ، وإلا فيعتنون باحتمال الانطباق، فإذا كان المحتمَل هو عقوبة الشارع، فإن هذا المحتمَل بحدٍّ من الأهمية يقتضي توقفهم في الأطراف، لا بناءهم على الاقتحام وعدم المبالاة. ولكنّ هذا الإيراد نظر إلى جانب الاحتمال، ولم ينظر إلى جانب الاطمئنان، فإن ما يدّعيه صاحب هذا الوجه من أنّ السر في عدم منجّزيّة العلم الإجمالي ليس هو عدم الاعتناء باحتمال الانطباق - كي يقال بأن هذا يختلف باختلاف الموارد - وإنما مُدَّعاه أن السر في عدم منجّزيّة العلم الإجمالي قيام إمارة شرعية، لا عدم الاعتناء باحتمال الانطباق، فلو كان السر في عدم منجّزيّة العلم الإجمالي أن احتمال انطباق المعلوم بالإجمال لمّا كان ضعيفًا لم يعتنِ به العقلاء، فيُقال حينئذ بأن العبرة بضعف الاحتمال وقوته، بل العبرة بأهمية المحتمَل وعدمه، وحيث إن المحتمل أهم، فمقتضى ذلك الاعتناء بالاحتمال. لكنّ صاحب هذا الوجه يدّعي أن السر في عدم المنجّزيّة وجود إمارة شرعية بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف وهو الاطمئنان، ومع وجود إمارة شرعية فنفس العلم الإجمالي قاصر عن المنجّزيّة لأيِّ طرف قامت فيه إمارة شرعية على عدم انطباق المعلوم بالإجمال. ولذلك، لو علم إجمالًا في الشبهة المحصورة بنجاسة أحد الإناءين فقام خبر ثقة على أن هذا الإناء ليس بنجس، لم يكن العلم الإجمال منجّزًا على جميع المسالك. الإيراد الثاني على هذا التحليل: وهو راجع لمنع الصغرى، أي لا يُتصور اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف، هذا أمر مستحيل، والوجه في ذلك بحسب صياغة المحقق العراقي «قدس سره» في «نهاية الأفكار» الجزء الثالث صفحة 330، لا أن المحقق العراقي تبنى الإشكال كما تُوهمه تقريرات السيد الشهيد «قدس سره»، بل إنه صاغ الإشكال وأجاب عنه بنفس جواب السيد الشهيد الذي ذُكر في التقريرات، ومحصل صياغة الإشكال من قبل المحقق العراقي «قدس سره» أنه: جميع الأطراف متساوية النسبة للمعلوم بالإجمال، وهو وجود ماء نجس في أطراف قم، فالأطراف متساوية النسبة لهذا المعلوم بالإجمال، وحينئذ، فإما أن يكون المدّعى حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في كل الأطراف، أو حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في بعضها دون بعضٍ، فإن كان المدّعى حصول الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على جميع الأطراف، بحيث لو استقرأ الأطراف لوجد أن كل طرف يضع يده عليه فهو مطمئن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه، فإن لازم ذلك زوال العلم الإجمالي، إذ لا يُعقل أن يجتمع العلم الإجمالي مع الاطمئنان بعدم انطباقه على شيء من الأطراف، فإن السالبة الكلية نقيض الموجبة الجزئية، فلا يُعقل أن يطمئن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على شيء من الأطراف مع علمه بوجود ماءٍ نجس في بعضها. هذا الذي يقوله المحقق العراقي. وإذا كان المدّعى أن هناك اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على بعضها دون بعض - على الشرق دون الغرب -، فهذا ترجيح بلا مُرجِّح، والمفروض أن الأطراف متساوية النسبة للمعلوم بالإجمال، إذًا فالنتيجة عدم معقولية حصول الاطمئنان بعدم الانطباق، فإنه إما أن يحصل في الجميع فهو محال، وإما يحصل في البعض وهو ترجيح بلا مرجِّح.

وأجاب السيد الشهيد بعين ما أجاب المحقق العراقي «قدس سره» وإن اختلفا في السر - السر بعدين نذكره -، فقيل أن الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف إما بشرط شيء أو بشرط، فإن قيل أن الاطمئنمان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف بشرط عدم انطباقه على بقية الأطراف، أي أنني إنما أطمئن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على ماءِ «ألف» حين التفاتي لعدم انطباقه على بقية الأطراف، فهو بشرط شيء، فهذا هوالمحال، إذ لا يُعقل أن يطمئن بعدم الانطباق على طرف «ألف» مع التفاته لعدم الانطباق على البقية، فإن هذا عبارة عن إلغاء علم الإجمال. وأما إذا كان المقصود على نحو لا بشرط، أي أن هناك اطمئنانًا بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على طرف «أ» اللابشرط من حيث انطباقه على بقية الأطراف أو عدم انطباقه، فانطباقه على بقية الأطراف غير ملحوظ في فرض قيام الاطمئنان على عدم انطباقه على طرف «أ»، فهذا النوع من الاطمئنان المتحصّل على نحو اللابشرط لا يتنافى مع الموجَبة الجزئية، فإن كل طرف لو وضع يده عليه لاطمأن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على سبيل البدل، لا أنه يطمئن بعدم الانطباق حتى مع عدم انطباق المعلوم بالإجمال على بقية الأطراف. ولكن ما هو السر - كلام في السر -؟ فهنا اختلف بيان المحقق العراقي للسر عن بيان السيد الشهيد «قدهما»، فذكر المحقق العراقي بأن السر في ذلك هو: أن الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على بعض الأطراف ملازِمٌ للاطمئنان بالانطباق على البقية، فإذًا لا يُتصور أن يكون هناك اطمئنانات فعلية دفعية بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على جميع الأطراف، فإن هذا خُلف العلم الإجمالي، بل يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق في بعضها لكن حصولها في بعضها مساوق لحصول الاطمئنان بالانطباق في بقية الأطراف، فكما أن هناك حجة شرعية على عدم الانطباق في بعضها فهناك حجة شرعية على الانطباق في البعض الآخر. ولكن دعوى هذه الملازمة بلا وجه، فإن مجرّد الاطمئنان في بعض الأطراف مغفولًا أو غير ملاحَظ للأطراف الأخرى لا يقتضي الاطمئنان بالانطباق في البقية، بل يمكن أن يحصل الاطمئنان في بعضها مع بقاء احتمال الانطباق في الأطراف الأخرى لا مع الاطمئنان بالانطباق في الأطراف الأخرى.

والسيد الشهيد «قده» ذهب إلى سرٍّ آخر، فقال: إن حصول الاطمئنان بعدم الانطباق على بعض الأطراف مبني على حساب الاحتمالات، وبما أنه مبنيٌّ على حساب الاحتمالات فمنشأ تكوُّن الاطمئنان بعدم الانطباق في بعض الأطراف مجموع احتمالات الانطباق في البقية، أي إذا لاحظنا العلم الإجمالي بوجود ماء نجس في أطراف قم، فنقول: إنّ مجموع احتمال الانطباق في خمسين بالمئة هو الذي ولّد الاطمئنان بعدم الانطباق في الخمسين بالمئة الأخرى، فمنشأ تكوُّن الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف مجموع احتمالات الانطباق في الأطراف الأخرى، فلو فرضنا أن الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف موجود حتى على فرض عدم انطباقه على الأطراف الأخرى لانتفى احتمال الانطباق في بقية الأطراف، وهذا خلفُ أن السبب في تكوُّن الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف هو مجموع احتمالات الانطباق في الطرف الآخر، ولكن ما ذكره السيد الشهيد غير تامٍّ، والسر في ذلك أن مقتضى العلم الإجمالي عرضيّة الأمرين لا سببية أحدهما للآخر، فليس السر والسبب في حصول الاطمئنان بعدم الانطباق على «ب» احتمال الانطباق على «أ»، بل هما في عرض واحد، فالعلم الإجمالي بوجود ماء نجس في هذه الدائرة، هذا العلم الإجمالي نتيجة كثرة أطرافه نفس العلم الإجمالي منشأ لحصول الاطمئنان بعدم الانطباق في طرفٍ واحتمال انطباقه في طرف آخر، فهما حاصلان في عرض واحد بمقتضى نسبة المعلوم بالإجمال لسائر الأطراف على حدٍّ سواء، لا أن مجموع احتمال الانطباق في ذلك الطرف هو السبب في حصول الاطمئنان بعدم الانطباق، وإلا لكان الأمر أيضًا بالعكس. إذًا بالنتيجة السر في عدم وجود اطمئنانات فعلية دفعية في جميع الأطراف بحيث تتنافى مع العلم الإجمالي هو نفس العلم الإجمالي، فالعلم الإجمالي صار منشأً، إلا أنه إن اطمأنّ لطرف احتمله في طرف، وإن احتمله في طرف اطمأن في طرفٍ آخر نتيجة كثرة الأطراف. - ويأتي الكلام في البقية -.

والحمدُ لله ربِّ العالمين