الدرس 124

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في الوجه الثاني الذي أقيم لإثبات عدم منجزية العلم الإجمالي بالشبهة غير المحصورة، وهو حصول الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال بأطراف العلم الإجمالي، والاطمئنان حجة شرعيّة، وقد ذكرنا بأنه أُشكل على هذا الوجه بمنع الصغرى والكبرى، أما منع الصغرى، فقد سبق الكلام في دفعه، وأما منع الكبرى فيمكن تصويره بأحد وجهين:

الأول: أن يُقال كما ذكره السيد الشهيد «قده» في كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» وكما ذكره في حقوقه في الجزء الرابع صفحة 332 من أن الاطمئنان الناشئ عن العامل الكمّيّ وحده ليس حجة، وبيان ذلك أن ما هو موضوع الحجية لدى المرتكز العقلائي، والذي هو منوط بعدم الردع الاطمئنان الموضوعي، أي الاطمئنان الناشئ عن مناشئ عقلائية، والاطمئنان الناشئ عن مناشئ عقلائية مما لا يمكن حصوله بمجرد العامل الكمّي، ألا وهو كثرة الأطراف، فحتى لو بلغت كثرة الأطراف حدًّا مفرطًا لم تكن سببًا لتوليد الاطمئنان الموضوعي، بل لا بد لأن ينضم إلى العامل الكمّي عوامل كيفية، أي عوامل موضوعية تسهم في حصول الاطمئنان، بيان ذلك بأمثلة للعوامل الكيفية:

العامل الأول: أهمية المحتمل، فمن الملاحظ مثلًا لو علم الإنسان بوجود نجاسة أو ميتة في احد بيوت قم، وكان عدد البيوت خمسين ألفَ بيت، فإنه هنا قد يحصل له الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على البيت الذي يدخله، بينما إذا علم إجمالًا بوجود خطرٍ كهربائيٍّ في مسِّ الزر الكهربائي في أحد بيوت قم، فإن نفس العدد موجود، وهو أن مقدار بيوت قم خمسين ألف، إلا أن المحتمل لمّا كان شديد الأهمية، فلا يتأتّى للإنسان حصول الاطمئنان بعدم انطباقه على ماهيته، وإن كان العدد بهذا الحد من الكثرة، مما يُرشد إلى أنّ مجرّد العامل الكمّيّ ليس هو السبب التامّ لحصول الاطمئنان الموضوعي، بل إنّ طبيعة النفس تقارن بين أهمّية المحتمَل وقوة الاحتمال.

العامل الثاني: ألا تكون الأطراف لتشابهها معرضًا لحصول المعلوم بالإجمال، فمثلًا، تارةً يعلم بوجود لحمٍ ميتة عند أحد القصّابين في قم، وكان عدد القصابين ألف قصاب مثلًا، وتارةً يعلم بوجود لحم الميتة في أحد الأمكنة في قم، وكان عدد الأمكنة ألف مكان، فباللحاظ الثاني وهو أن يعلم بوجود لحمٍ ميتة في أحد الأمكنة، مع كون الأمكنة مختلفة، بين أن يكون دكانًا لقصابٍ أو مطعمًا أو شارعًا، فهنا قد يحصل له الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على المكان الذي يدخله أو يتناول فيه اللحم، بينما في المثال الأول، وهو إذا ما علم بوجود لحمٍ ميتة عند أحد القصابين، ومعروف أن هذه الأمكنة كلها متماثلة، وهي أحد القصابين، وهذه الأمكنة متماثلة في معرضيتها لوجود اللحم الميتة، فحيث إنّ أطراف العلم الإجمالي مشتركة في معرضيتها لوجود هذا المعلوم بالإجمال، فإنه قد لا يحصل للإنسان الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على اللحم الذي يتناوله عند أحد القصابين، مما يرشد إلى أن مجرّد العدد والعامل الكميّ ليس كافيًا في حصول الاطمئنان الموضوعيّ.

والعامل الثالث: يُسر المخالفة القطعية وعدمها، فتارةً يعلم المكلّف بوجود حبّة رزٍّ نجسة من بين ألف حبّة، فهنا نتيجة يُسر المخالفة القطعية. أما لو علم بوجود حبة دواء من بين ألف حبة من بين يديه، فهنا نتيجة عسر أو تعذر المخالفة القطعية، اي صعوبة تناول الجميع يحصل له الاطمئنان بأن الحبة التي تناولها ليست هي مصداق المعلوم بالإجمال، مع أن العدد واحد. فكل هذه الموارد وأمثالها شواهد على أن مجرّد العامل الكميّ وهو بلوغ الكثرة حدًّا مفرطًا، ليس هو السبب المولِّد بحصول الاطمئنان الموضوعي، قد يحصل الاطمئنان الذاتي أي الاطمئنان الناشئ عن مرض في النفس، ولكنّ ما هو موضوع الحجّية لدى العقلاء، بحيث يكون موردًا للإمضاء الشرعي هو الاطمئنان الموضوعي، والاطمئنان الموضوعي الناشئ عن مناشئ عقلائية، وما نشأ عن مناشئ عقلائية لا يمكن أن يحصل بمجرد العامل الكمي، ما لم تنضم إليه عوامل كيفية متعددة. فعلى هذا الأساس، لا يصحُّ تعريف الشبهة غير المحصورة بأنها ما بلغ كثرة الأطراف حدًّا يحصل الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على أيِّ طرفٍ يقع تحت اليد، كما تبنّاه الشيخ الأعظم والسيد الشهيد والسيد الأستاذ وغيرهم، بل لا بد من ملاحظة العوامل الكيفية. كما أن هذا ليس هو السر في عدم منجزية العلم الإجمالي، وهو أن تبلغ الأطراف حدًّا يكون كذا، لأن الأطراف بلغت حدًّا يكون كذا، بحيث يحصل الاطمئنان لمجرد العامل الكمي، لم يكن موضوعًا للحجية. هذا هو الإشكال الأول على الكبرى وهو إشكال وارد على كلام السيد الشهيد منه وعليه.

الإشكال الثاني على الكبرى: ما تعرّض له السيد الشهيد «قده» ومحصَّله أن يقال:

إنه إذا حصلت الاطمئنانات العديدة بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على أطراف الشبهة، فلا يمكن البناء على حجيتها، لأنه إما أن تكون حجةً جميعًا أو بعضها، ولا يمكن حجّيّة جميعِها، لأن العلم الإجمالي بكذب بعضها بلحاظ وجود العلم الإجمالي بالنجاسة مثلًا يوجب تعارضها، والاطمئنانات المتعارضة لا يُعقل أن تكون حجة على نحو العموم الاستغراقي، وإما أن يكون بعضها حجةً دون بعضٍ وهو ترجيح بلا مرجح. فلا يمكن البناء على حجية الجميع للعلم الإجمالي بكذب بعضها وهو موجِبٌ لتعارضها، ولا يمكن البناء على حجية بعضها دون بعض لأنها ترجيح بلا مرجح، فالنتيجة عدم حجية شيء منها.

وقد أجاب السيد الشهيد «قده» عن ذلك بأنه: ما هو المقصود بالتعارض؟ أي لو أننا اخترنا أن جميعها حجة، فقد وُرد على ذلك بأنها متعارضة، وكيف تتصف المتعارضات بالحجية، فنقول: ما هو المقصود بالتعارض؟ هل المقصود به تعارض الإمارات أو تعارض الأصول؟ فتعارض الإمارات عبارة عن تكاذبها، إما بالمدلول المطابقي أو بالمدلول الالتزامي، ولذلك لو علم إجمالًا بنجاسة ماء من بين ماءين، وقام خبر ثقة على ان النجس «أ» تعارضت الإمارتان من حيث المدلول الالتزامي. أو أن المقصود بالتعارض تعارض الأصول، وتعارض الأصول ليس تكاذبًا لا في المدلول المطابقي ولا الالتزامي - لأن الأصول ليست حاكية عن الواقع -، وإنما تعارضها باستلزام جريانها للترخيص بالمخالفة القطعية، فلو علم إجمالًا بنجاسة أحد الماءين، كانت أصالة الطهارة في كل منهما لأصالة الطهارة في الآخر، والمقصود بالتعارض أن يلزم من جريان الجميع الترخيص في المخالفة القطعية، فما هو التعارض في المقام المانع من حجية الاطمئنانات؟ هل هو تكاذبها - بنحو تعارض الأمارات -؟ أو هو استلزام حجية جميعها للترخيص في المخالفة القطعية - لا يمكن البناء على كلٍّ منهما -. أما بالنسبة للأول، وهو أن يدعى أن هذه الاطمئنانات متعارضة بمعنى أنها متكاذبة وهذا ليس صحيحًا، لأنّ الجمع بين الاطمئنانين لا يستلزم الاطمئنان بالمجموع، الجمع بين الاطمئنانين لا يلزم الاطمئنان بالمجموع، وبيان ذلك: أنه إذا اطمأن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على قسم «أ»، واطمأن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على قسم «ب»، فهنا عندنا جمع بين اطمئنانين. إلا أنه هل هو اطمئنان بالمجموع أم لا؟ وإما أن يكون اطمئنانًا بالمجموع لو كان الاطمئنان بكل منهما ثابتًا حتى على فرض الآخر، بأن يقول: أنا مطمئن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على قسم «أ» حتى على تقدير عدم انطباقه على قسم «ب»، فهو اطمئنان مشروط، أي اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على قسم «أ» في ظرف عدم انطباقه على قسم «ب»، وهو مطمئن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على قسم «ب» في فرض عدم انطباقه على قسم «أ»، فهذا اطمئنان بالمجموع، أي الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على شيء من أطرافه، وهذا خُلف العلم الإجمالي لوجود إناءٍ نجس. وأما إذا كان الاطمئنان على نحو اللابشرط، أي أنه مطمئن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على قسم «أ» مغفولًا عن قسم «ب» والعكس، فهنا يمكن الجمع بين الاطمئنانين، لأن الجمع بين الاطمئنانين على نحو اللابشرط لا يؤدي إلى الاطمئنان بالمجموع، وحيث أنه لا يؤدي إلى الاطمئنان بالمجموع، وحيث إنه لا يؤدي إلى الاطمئنان بالمجموع إذًا لا يحصل تكاذب. فالاطمئنان بعدم الانطباق على «أ» مغفولًا عن «ب»، والاطمئنان بعدم الانطباق على «ب» مغفولًا عن «أ» ليس بينهما تكاذبٌ لا في المدلول المطابقي ولا في المدلول الالتزامي، وإنما يحصل التكاذب بينهما إن قلنا إنه اطمئنان بعدم الانطباق على «أ» في ظرف عدم الانطباق على «ب» وبالعكس، إذًا فبالنتيجة يمكن البناء على حجية الاطمئنانات من دون أن يلزم تعارض على نحو التكاذب.

وأما التعارض على نحو الترخيص في المخالفة القطعية.

«طرحنا فيما سبق مسألة وهي أن الشبهة غير المحصورة هل ترد في الشبهات الوجوبية أم تختص بالشبهات التحريمية؟»

وأما إذا قلنا بأن التعارض في المقام تعارض في الأصول، فقد ذكرنا أن مناط التعارض في الأصول أداؤها للترخيص في المخالفة القطعية، ولكن بناءً على ما سلكنا - يقول السيد الشهيد - وهو أنه المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو ارتكاز المناقضة بين الغرض اللزومي والغرض الترخيصي، ومع كثرة الأطراف فلا ارتكاز للمناقضة بينهما، إذًا نتيجة ذلك تجري الأصول في أطراف الشبهة غير المحصورة، فبناء على ذلك كما لا يلزم من جريان الأصول في جميع الأطراف محذور، كذلك لا مانع من البناء على حجية الاطمئنان في جميع أطراف الشبهة غير المحصورة، لأنه لا ارتكاز للمناقضة بين وجود غرض لزومي وغرض ترخيصي ما دامت الأطراف كثيرة، فإذا لم يكن محذورًا في جريان الأصول في جميع الأطراف لم يكن محذورًا في حجية الاطمئنان في جميع الأطراف.

- مسألة ليوم غد:

بناءً على أن العلم الإجمالي غير منجَّز لوجود الاطمئنان في بعض الأطراف، قد يقول قائل بأن لازم ذلك زوال العلم الإجمالي وتحوله إلى شبهة بدوية.

بيان ذلك: لو فرضنا أن أطراف الشبهة غير المحصورة عشرة، فاطمأن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال في ثمانية، حصل لديه شك بدوي، هل أن المعلوم بالإجمال في الباقي أو في الأطراف التي سبق أن اطمأن بعدم انطباق المعلوم بالإجمال؟ فإذا قلتم المبرر لجواز اقتحام أطراف الشبهة غير المحصورة هو حصول الاطمئنان بعدم الانطباق، فسوف يصل إلى حدٍّ يحصل العلم بأنه إمّا في الباقي أو فيما مضى، وإذا وصل إلى هذا الحد زال العلم الإجمالي المنجز وتحول إلى شبهة بدوية مجرىً للأصل، فكيف يمكن البناء على هذا المبنى، مع أنه يؤدي إلى زوال منجّزية العلم الإجمالي؟

والحمد لله رب العالمين