الدرس 125

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا في ما سبق أن مبنى سيدنا «قده» هو اختصاص لا تعاد بالجاهل القاصر، وعدم شمولها للمقصر، وذكرنا أنه لو شكّ المكلف في أن إخلاله بالسنّة كان عن قصور أم تقصيرٍ، فهل يمكن تصحيح صلاته أم لا، وذكرنا أن سيدنا «قده» أفاد بأنه يمكن تصحيح صلاته، وذلك بأحد وجهين:

الوجه الأول: استصحاب عدم التقصير، وقد مضى الكلام في مناقشته،

والوجه الثاني: جريان قاعدة الفراغ، فمن علم بأنه أخلّ بالسورة مثلًا، أو أخلّ بالاطمئنان في صلاته ولكن لا يدري هل أن إخلاله كان عن قصورٍ لأنه قلّد مجتهدًا جامعًا للشرائط يُفتي بعدم شرطية الاطمئنان أثناء الذكر مثلًا، أو أنه لم يقلّد مجتهدًا جامعًا للشرائط، فإخلاله عن تقصير، ففي مثل هذا الفرض، حيث إنه يشك في صحة عمله، تجري قاعدة الفراغ لإثبات صحة عمله، والكلام هنا في تنقيح الكبرى والصغرى، أما تنقيح الكبرى، فقد أفاد «قده» في «مصباح الأصول» في الجزء الثامن والأربعين من الموسوعة صفحة 371، قال: أن يكون منشأ الشاكّ في صحة العمل هو الشكُّ في انطباق المأمور به على المأتيِّ به. ثم قال: وهذا على قسمين: إذ الشك في الانطباق تارةً يكون راجعًا إلى أمر اختياريّ، كأن يشك المكلف في ترك جزء أو ترك شرط أو إيجاد ماء، وهذا هو القدر المتيقن من جريان قاعدة الفراغ، وأخرى يكون راجعًا إلى أمر غير اختياري، وهذا القسم الثاني ليس موردًا لجريان قاعدة الفراغ، إذ كونه أذكر حين العمل بلحاظ أن مفاد موثّقة بكير ابن أعين هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك، فالمعتبر في جريان قاعدة الفراغ الأذكرية، لذلك قال «قده»: إذ كونه أذكر حين العمل إنما هو بالنسبة إلى ما يصدر منه لا بالنسبة إلى ما لم يصدر منه، فإن نسبته إليه حين العمل وحين الشك على حدٍّ سواء، فلو صلى إلى جهةٍ باعتقاد أنها القبلة، ثم بعد الفراغ شك هل أن الجهة التي صلى إليها وهي الجهة الشرقية قبلة أم لا؟ فلا مجال لجريان قاعدة الفراغ، لأنه لا يشك فيما صدر منه، إنما يشك فيما لم يصدر منه، فإن نسبته إليه، يعني منشأ الشك وهو كون هذه الجهة قبلة أم ليست بقبلة، هذا المنشأ متساوي النسبة بين حال العمل وحال الشك على حد سواء. إذا كان منشأ الشك متساوي النسبة بين حال العمل وحال الشك، فمنشأ الشك متساوي النسبة لحال العمل وحال الالتفات والشك، فبما أن منشأ الشك متساوي النسبة لا يُعتبر هذا المكلف حين العمل أذكر، إذ لا فرق بين حين العمل وبين ما بعده، لأنّ منشأ الشك واحد، لذلك لو التفت حين العمل أيضًا لشك. فما دام المنشأ متساوي النسبة فليس بأذكر.

التوجيه الثاني: قال: لأن صورة العمل محفوظة، وهو غير شاكٍّ فيه، فكأنه يريد أن يقول: إن موضوع جريان قاعدة الفراغ أن يشك في العمل، والمفروض في المقام أنه ليس شاكًا في العمل لأن صورة العمل محفوظة.

التعليل الثالث: إنما الشك في الصحة من جهة أمر غير اختياري له، وهو كون الكعبة المعظمة في هذه الجهة التي صلى إليها أم لا، كون الكعبة في هذه الجهة أم لا ليس أمرًا اختياريًا، فكأنه يريد أن يقول: إنّ مناط جريان قاعدة الفراغ أن يكون المشكوك فيه أمرًا اختياريًا، وحيث أن هذا ليس اختياريًا فهو خارج عن قاعدة الفراغ. إذًا ليس هو حين العمل أذكر منه حين يشك، فلا بد من إعادة العمل بمقتضى قاعدة الاشتغال. وكذا لو شك في صحة الوضوء بعد الفراغ، لاحتمال كون المائع الذي توضأ به مضافًا، فهنا لا تجري قاعدة الفراغ لنفس ما ذكر في مسألة القبلة. نعم لو علم بكون جهة خاصة هي القبلة، فهو يعلم أن القبلة غرب، فهو يشك في أنه صلى إلى الغرب أم لا، جرت قاعدة الفراغ بلا إشكال، لكون الشك راجعًا إلى كيفية صدور العمل منه، فهو أولًا شاكٌّ في عمله، ثانيًا شاك في أمرٍ اختياري وهو توجهه، ثالثًا ليس متساوي النسبة، لأنه لو التفت حين عمله لعرف أنه يصلي إلى أي جهة، فليس منشأ الشك متساوي النسبة بين حال العمل وحال الالتفات. وكذا لو علم أن هذا الماء «أ» مطلق، وهذا المائع «ب» مضاف، لكن لا يدري هل هو توضأ ب «أ» أو توضّأ ب «ب»، فإنه حينئذ تجري قاعدة الفراغ.

قال السيد الخوائي: ومن القسم الأول، الذي تجري فيه قاعدة الفراغ ما لو صلى بلا سورة مدة من عمره، وشك في صحتها من جهة الشك أنه هل صلى بلا سورة تقليدًا لمن أفتى بعدم وجوبها، أو صلى بلا تقليد؟ فإن صورة العمل وإن كانت محفوظة ظاهرًا إلا أنّ الشك راجع إلى أمرٍ اختياريٍّ له، وهو هل استند إلى تقليدٍ صحيح أم لا؟ ففي الحقيقة صورة العمل غير محفوظة. وكذا لو صلى المسافر تمامًا، فإن الشك يرجع إلى أمر اختياري له، وهو هل صدرت منه نية الإقامة أم لا؟ فلا تكون صورة العمل محفوظة حقيقةً، وإن كانت محفوظة ظاهرًا. هذا تمام كلامه في تحرير الكبرى، وهو مناط جريان قاعدة الفراغ الأذكرية، وأن الأذكرية إنما تتم إذا كان منشأ الشك غير متساو، إذا لم تكن صورة العمل محفوظة، إذا لم يكن الشك في أمر غير اختياري.

وأورد على ذلك بعض الأجِلّة بأنه جميع هذه التعليلات التي ذكرت لإثبات عدم جريان قاعدة الفراغ غير تامة، أما التعليل الأول، بأن نقول: يشترط في جريان قاعدة الفراغ عدم انحفاظ صورة العمل، أي عدم إمكان الإشارة التفصيلية إلى العمل، فلو كانت صورة العمل واضحة تفصيلًا فلا تجري القاعدة، فبناء على هذا لا تجري القاعدة في موارد الشك في التقليد لمن ترك السورة في عمله. الذي قال به السيد جريان القاعدة، إذ العمل بتمام خصوصياته معلوم، فإذا كان المدار في الجريان عدم انحفاظ صورة العمل، فصورة العمل هنا محفوظة. وإنما الشك في انطباق المأمور به المقيّد بكونه عن تقليد لأمر ظاهريٍّ. يقول: التقليد ليس جزءًا من العمل ولا شرطًا فيه حتى يكون الشك في التقليد شكًّا في العمل فتكون الصورة غير محفوظة، وإنما التقليد محقِّق لأمر ظاهري بمعنى أن المكلف إن لم يقلد فهو مخاطب بالأمر الواقعي، فلا بد أن يصل إليه إمّا باجتهاد أو باحتياط. وأما إذا قلّد، أي استند إلى فتوى فقيه جامعٍ للشرائط خوطب بأمرٍ ظاهري وهو «اتّبع الحجة»، وهي فتوى الفقيه الجامع للشرائط في حقك، فهو مخاطب حينئذ بأمرٍ ظاهري، وهو لزوم تطبيق عمله على الحجة القائمة، وهي فتوى الفقيه الجامع للشرائط. إذًا التقليد ينقح موضوعًا فقط، التقليد ليس جزءًا من العمل ولا شرطًا في صحته كي يكون الشك فيه شكًّا في صحة العمل، وإنما التقليد منقح لأمر ظاهريٍّ، وبعد أن يتنقح الأمر الظاهري يكون مخاطَبًا بمطابقة المأتيِّ به للمأمور به الظاهريّ. فما عن بعض الأعلام من استثناء هذه الصورة فتجري فيها القاعدة غير صحيح بناء على هذا التفسير، إذ التقليد وإن كان فعلًا اختياريًا للمكلَّف إلا أنه ليس جزءًا من مأمور به، وإنما لا بد منه لكي يتحقق الأمر الظاهري، فيتقيد المأتيّ به بكونه عن أمرٍ ظاهريّ، وهذا التقيد كالتقيُّد بالقبلة والشك - يشك في انطباقه -، أي أنه يشك في أمرٍ خارج عن دائرة عمله، كما أنه لو شك أن عمله هل تقيد بالقبلة أم لا، فتقولون هذا شكٌّ في أمرٍ خارج عن عمله، كذلك إذا شك في أن عمله عن تقليد أم لا فهذا تقيُّدٌ خارجٌ عن عمله. إذًا التوجيه الأول لعدم جريان قاعدة الفراغ وهو انحفاظ صورة العمل مدفوع.

التوجيه الثاني: أن يكون المدار على فعل المكلَّف، إن كان شك المكلف في فعله المباشر، كأن أشك في أنني توجهت إلى القبلة أم لا، فهذا شك في فعلي المباشر، فهذا مجرىً لقاعدة الفراغ، وأما إذا لم أشك في فعلي، بل أنا توجهت إلى الجهة الشرقية لكنني لا أدري الجهة الشرقية قبلة أم لا، فهذا ليس شكًّا في فعلي المباشر، فلا تجري قاعدة الفراغ. فبناءً على هذا التفسير، يكون الشك في التقليد مجرىً للقاعدة لأن التقليد من فعله وليس أمرًا خارجًا عن فعله، لأنه فعلٌ اختياريٌّ مباشريٌّ بحسب الفرض، فيكون الشك فيه كالشك في أنه توضأ للصلاة أم يتوضأ بعد الفراغ من الصلاة. ويلاحظ عليه: أولًا: إطلاق عنوان الشك، فإن الرواية قالت: صحيحة محمد بن مسلم: كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه. أي شككت في أنه جامع للشرائط أم لا، سواءً شككت في فعلك المباشر أم لم تشك، مقتضى إطلاق عنوان الشك في الرواية أن مورد وموضوع جريان قاعدة الفراغ أن تشك في صحة ما مضى في جامعيته للأجزاء والشرائط وشككت في فعلك المباشر أو شككت في فعلك التسبيبي مثلًا، فالغسلات والمسحات في الوضوء فعل مباشر، لكن كونها بالماء المطلق فعل تسبيبي يتحقق خارجًا بعمل للمكلّف على تقدير كون الماء الذي غسل به ماءً مطلقًا، فلو شك أنه توضأ أم لا فقد شك في فعل مباشر، ولو شك في أن وضوءه كان بالماء أم بالعصير فقد شك في فعله التسبيبي، فهو داخل تحت إطلاق الأدلة. وثانيًا: بناءً على هذا لا بد أن لا يفصّل عند الشك في القبلة أو إطلاق الماء بين ما إذا شك في كون الجهة التي صلى إليها قبلة أم لا، أو شك في أنه صلى إلى الجهة العلوم كونها قبلة أو غيرها، فإن في كل ذلك يكون أصل صدور الفعل المباشر من المكلف معلومًا على كل حال. ومحصل كلامه أن السيد الخوئي فصل بين صورتين، قال: تارةً يعلم أنه صلى إلى الجهة الشرقية لكن لا يعلم أنها قبلة أم لا، فهنا لا تجري قاعدة الفراغ، وتارةً لا يدري هل صلى إلى الجهة الشرقية، فتجري قاعدة الفراغ، فيقول المشكِل بأن هذا التفصيل غير صحيح، بناء على أنه يشترط في جريان قاعدة الفراغ الشك في فعله المباشر، لأنه في كلتا الصورتين لا يشك في فعله المباشر، فهو يشك في الجهة التي صلى إليها، ولا يدري أنّ تلك الجهة التي صلى إليها هل هي قبلة أم لا، فالشك في كلتا الصورتين ليس شكًّا في فعله المباشر.

وأما التوجيه الثالث وهو: أن يكون المشكوك فيه قيدًا اختياريًا، قال: وإنّ ما يظهر من بعض الأعلام أن المشكوك فيه إذا كان اختياريًا كالتقليد جرت القاعدة، وإن كان غير اختياري كالوقت والقبلة وإطلاق الماء الذي توضأ به فلا تجري، وفيه إن القاعدة تجري بلحاظ ما هو المأمور به، والمأمور به هو التقيد بذلك الأمر، والتقيد دائمًا اختياري وإن كان القيد غير اختياري، وبعبارة أخرى: أنّ موضوع قاعدة الفراغ الشك في مطابقة المأتيِّ به للمأمور به هو منشأ الشك في المطابقة الشك في التقيُّد، والتقيد من شؤونه، وإن كان القيد تارةً اختياريًّا مثل الطهارة، تارةً غير اختياري مثل الوقت والقبلة، فعلى أية حال هذا التوجيه غير تام. إذًا فما أُفيد في «مصباح الأصول» من تقييد جريان قاعدة الفراغ بما إذا كانت صورة العمل غير محفوظة أو بما إذا كان الشك في العمل المباشر أو ما إذا كان الشك في أمر غير اختياري كلها غير سليمة. ولكن عند التأمل في سياق كلام سيدنا «قده»، حيث إنه يسلم بأن أدلة قاعدة الفراغ مع غمض النظر عن موثقة بكير مطلقة، وإنما يقول: لما جاءت موثّقة بكير بن أعين وقالت هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ، وكان ظاهر هذه الموثقة سَوْقها مساق التعليل، أي أن العلة والحيثية التي هي المدار في جريان قاعدة الفراغ أن يكون أذكر حين العمل منه حين يشك، فلا بد أن ننقح ما هو مناط الأذكرية. ومناط الأذكرية هو ما ذكره أولًا وهو تساوي منشأ الشك، بأن لا يكون المشكوك فيه متساوي النسبة بين حال العمل وحال الالتفات، فمتى لم يكن متساوي النسبة، إذًا فهو حين العمل أذكر منه حين يشك، ومسألة أنه عطف على هذه العبارة أن تكون صورة العمل محفوظة وأن يكون الشك في أمرٍ اختياري وأن يكون الشك في فعله المباشر فكلها تفسيرٌ لما أراد، وهو تنقيح موضوع الأذكرية. ولا شك في أنّ من صلى إلى جهة معينة ثم شكَّ بعد الصلاة أنها قبلة أم لا، فهو ليس حين العمل أذكر منه حين يشك لتساوي منشأ الشك. وأما من صلى إلى جهة لكن لا يدري هل صلى إلى الجهة الغربية التي هي القبلة، أم صلى إلى الجهة الشرقية التي ليست بقبلة، إذًا هو حين العمل أذكر، لأن المشكوك ليس متساوي النسبة بين الحالين، حال العمل وحال الالتفات. إذًا فمراده «قده» من انحفاظ صورة العمل وعدم الانحفاظ هو أنه تارةً يشكُّ في قيدٍ لرجوع الشك في هذا القيد إلى شأنٍ من شؤونه، وتارةً يكون الشك في قيد لرجوعه إلى أمر خارج عن شؤونه، وهذا هو المقصود من انحفاظ صورة العمل وعدم انحفاظها، أو الشك في أمر اختياري أو عدمه، أو الشك في فعله المباشر وعدمه.

والحمد لله رب العالمين