الدرس 125

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في أن عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة لأجل قيام الاطمئنان في كل الطرفين يضع يده عليه، هل هو تام أم لا؟ وذكرنا أنّ الإشكال في هذا المبرر تارةً في الصغرى وأخرى في الكبرى، ومرّ البحث في الإشكال الصغروي، ووصل الكلام إلى الإشكال الكبرويّ، ومحصل هذا الإشكال يرجع إلى أمرين:

الأمر الأول: هل أنّ الاطمئنان الناشئ عن كثرة الأطراف وموهومية الاحتمال حجة عقلائيةٌ وشرعيةٌ أم لا؟ وهذا ما تعرّضنا له أمس بنحوٍ مختصر، ونقول في بيانه: إن ظاهر عبارة التقرير الجزء الخامس من البحوث، صفحة 230 قال: التقريب الثاني دعوى سقوط العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة عن المنجزية على أساس أن كل طرفٍ يُراد اقتحامه، يوجد اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال فيه، إذ كلّما ازدادت أطراف العلم تضاءلت القيمة الاحتمالية للانطباق في كل طرف، حتى تصل إلى درجةٍ يُطمأن بخلافها، فالاطمئنان ناشئ عن تضاؤل درجة الاحتمال، والسر في تضاؤل درجة الاحتمال، قال: لأن رقم اليقين ينقسم لا محالة على عدد الأطراف - ولنفترض أن الأطراف عشرة آلاف مثلًا -، فلكل طرفٍ واحد من عشرة آلاف، إذًا فهنا احتمال موهوميٌّ بالانطباق واطمئنان بعدم الانطباق، والاطمئنان حجة، ومؤمِّنٌ عقلائي لم يردع عنه الشارع. ثم قال في آخر عبارته: ليس المقصود أن القيمة الاحتمالية في اقتحام كل طرفٍ ضئيلة، بل المقصود أن احتمال التكليف في كل طرفٍ قيمته الاحتمال ضعيفة بدرجة يكون على خِلافها الاطمئنان، وهذا الاطمئنان حجة. فإذا أخذنا بظاهر هذه العبارة فظاهرها أن الاطمئنان الناشئ عن كثرة الأطراف حجة، وأن المبرر لسقوط العلم الإجمالي هو هذا الاطمئنان الناشئ عن كثرة الأطراف، وحينئذ نقول بأن الصحيح أنّ مجرد الاطمئنان ليس بحجة، وإنْ تولّد عن كثرة الأطراف، إلا أنّ الاطمئنان الناشئ عن تضاؤل درجة الاحتمال المستنِد لانقسام درجة اليقين على عدد الأطراف، هذا الاطمئنان ليس حجة، والمهم في الباب هو إيجاد حجة وليس إيجاد اطمئنان، لأن المفروض أننا فرغنا عن وجود العلم الإجمالي، وأن مقتضى وجود العلم الإجمالي احتمال الانطباق على كل طرفٍ. فلا بد لنا من إيجاد حجة شرعية للخروج عن منجّزية هذا العلم الإجمالي، فهل المخرج موهومية الاحتمال؟ ليس هذا مخرجًا، بل لا بد من حجة شرعية، والحجة الشرعية إما جريان الأصل، وهذا هو التقريب الأول الذي لم يمنع منه، وإما أن تكون الحجة الشرعية وجود الاطمئنان، ونحن نقول: مجرد وجود الاطمئنان ليس حجةً مخرجة عن منجزية العلم الإجمالي ما لم يكن هذا الاطمئنان موضوعيًّا، أي مستند لعوامل كيفية وراء استناده إلى تضاؤل درجة الاحتمال، فليس المنكر أن هناك اطمئنان، ولكن هل هذا الاطمئنان حجة لأنه استند إلى تضاؤل درجة الاحتمال وانقسام درجة اليقين؟ لاحظوا ما ذكره التقرير نفسه صفحة 336 من الجزء الرابع، حيث أفاد هناك بأنه: لو حصل لدينا علمٌ إجمالي بوجود مئة خبر كاذب في مجموع الكتب الأربعة، ثم أخذنا مئة عشوائية من هذه الكتب الأربعة، من دون أن ننظر إلى مضامينها ولا إلى أسانيدها، فيقول السيد هنا: لا إشكال أن العلم الإجمالي يمنع من الأخذ بها، لأن احتمال كون هذه المئة هي المئة الكاذبة ما زال قائمًا. في صفحة 335: فما دام العلم الإجمالي موجودًا يستحيل انتفاء احتمال طرفية ما اختير لذلك العلم الإجمالي، وهذا ما نعبر عنه بالمضعِف الكميّ. والأمر في المقام كذلك، لأننا عندما نعلم بوجود مئة خبر كاذب في مجموع أحاديث الكتب الأربعة، فمعه احتمال أن تكون المئة التي أخذناها هي الكاذبة قائمٌ، فإن كل مئة يحتمل أن تكون هي الكاذبة، وما دام العلم الإجمالي قائمًا يستحيل زوال هذا الاحتمال في أي طرف، لأنه إما أن يزول في جميع الأطراف وهو خُلف العلم الإجمالي، أو يزول في بعضها دون بعض وهو ترجيح بلا مرجح. ولهذا لا يزول هذا الاحتمال إلا إذا وُجد مضعِف له مخصوص به، وليس هو إلا ما اصطلحنا عليه بالمضعِف الكيفيّ، المخصوص بخصوص هذا الطرف، ما لم يقم مقابل المضعف الكمي مضعف كيفيّ، هذا الاحتمال باقٍ ومقتضى بقائه بقاء منجزية ذلك العلم الإجمالي، وذلك إنما يكون إذا كان هناك مصبٌّ مشترك، ولو ضمنًا لجميع الأخبار، لنفترض أن هذه المئة التي أخذناها حللناها، تبين أن هذه المئة كلها تتحدث عن عصمة الكر. فالمضعف حينئذ أن يُقال: كيف اتفقت مئة مصلحة للمختلفين على سنخ كذب واحد معين؟ مع أن عوامل التباين فيهم أكثر من الاشتراك. ثم يقول: ومقتضى ذلك كون احتمال كذبهم جميعًا لمصلحة مشتركة أضعف بكثير من احتمال كذب مئة أخرى لأن المئة الأخرى ليس لها مضعف كيفي، وهذه لها مضعف كيفي، وهذا أساسٌ عام لحصول اليقين في تمام موارد حساب الاحتمالات، يعني الأساس العام أن لا يكفي المضعف الكمي ما لم يعادَل بمضعفات كيفية تقلل من قيمة الاحتمال إلى أن يصل إلى درجة اليقين الرياضي. ثم في الأخير: وأما حصول الاطمئنان فهو إن كان صحيحًا إلا أن حجية مثل هذا الاطمئنان الناشئ من مجرد المضعِف الكمي عُهدة دعواها على مدعيها، فيقول أن الاطئمنان الناشئ عن تضاؤل قيمة الاحتمال مجرد هذا الاطمئنان حجيته دعواه على مدعيه، فإننا لا نرى بناء العقلاء على الأخذ بالاطمئنان المستند فقط إلى تضاؤل درجة الاحتمال المستند إلى انقسام رقم اليقين على الأطراف. فلأجل ذلك نقول: إما اشتباه في التقرير، أو أن مراد السيد «قده» في بحث الشبهة غير المحصورة هو ما ذكره في بحث التواتر، وإن لم تجتمع العبارات، فإنّ النتيجة أن الاطمئنان المسوِّغ للخروج عن منجزية العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة ليس مطلق الاطمئنان، بل الاطمئنان المستند إلى عوامل كيفية مضافًا إلى هذا العامل الكمي.

التقريب الثاني للإشكال الكبروي: أن إذا حصلت الاطمئنانات العديدة بعددد أطراف العلم الإجمالي، فإما أن تكون جميعها حجة وهذا غير معقول للعلم بكذب بعضها، أو أن بعضها حجة دون بعض وهذا ترجيح بلا مرجح. والسيد «قده» أجاب عن هذا الإشكال الكبرويّ بعدة أجوبة، نطرح الجواب الأخير، وهو الأصح، قال: هذا الفرض غير ممكن، والسر في ذلك أنه متى ما حصلت له عدة اطمئنانات تدريجية نتيجة اقتحامه لعدة أطراف، فبعد ذلك لا يمكن أن يحصل له الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال، لأنه بمجرد أن تحصل له اطمئنانات بعدد ألف مثلًا، سوف تكبر قيمة احتمال الانطباق في الأطراف الباقية، وإذا كبرت قيمتها لم يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق، فلا معنى بأن يقال: إما أن تقولوا بحجية جميع الاطمئنانات أو بحجية بعضها، بل نقول: لا نقول بحجية جميع الاطمئنانات لأنه لا يعقل حصولها، وأما حجية البعض الحاصل فليست من باب الترجيح بلا مرجح، لأنه هو الذي حصل دون غيره، فمقتضى وجود العلم الإجمالي بنجسٍ بين هذه الأطراف أنه متى ما حصل له الاطمئنان في قسم مُعْتَدٍّ به منها كبرت قيمة الاحتمال في الباقي، ولم يتأتّى منه حصول اطمئنان في جميع الأطراف كي يرد الإشكال. فإن قلت: فهو في البداية يقول بأنني متى ما وضعت يدي على أي طرف من أطراف هذا العلم الإجمالي حصل لي الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه لضآلة الاحتمال، فما هو المبرر لحجية هذا الاطمئنان؟ فيقول السيد «قده»: حجية هذا الاطمئنان حجية بدلية، بمعنى أن المرتكَز العقلائي يرى أن أحد هذه الاطمئنانات حجة، وهذا ما عبّر عنه بالحجة البدلية، وهذا سؤال امتحان إليكم نريد جوابًا منكم: ماذا يقصد السيد بالحجة البدلية، هل مراده بالحجة البدلية حجية أحدها؟ أو المراد حجية كل اطمئنان بشرط عدم حجية الاطمئنان الآخر، أو مراده حجية كل اطمئنان بشرط عدم مطابقة الاطمئنان الآخر للواقع، أو مراده حجية كل اطمئنان بشرط الأخذ به وعدم الأخذ بغيره. ما المقصود بالحجية البدلية في كلام السيد الشهيد «قده»؟

نحن ذكرنا في ما سبق سؤال، وهو أنه: لو حصلت لدى المكلّف شبهة غير محصورة، ونتيجة تدريجية الأطراف حصل له اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال في ثمانية منها - فلنفترض أن الأطراف عشرة -، وبعد حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في ثمانية منها، حصل له علم بأن النجس إما في الباقي أو في الأطراف التي اطمأنّ بعدم الانطباق، وهذا العلم الإجمالي غير منجَّز، فمآل تحليل سقوط منجزية العلم الإجمالي عن وجوب الموافقة القطعية بهذا التحليل، مآل ذلك إلى علم إجمالي غير منجز، ما الجواب عن هذا السؤال؟

والحمد لله رب العالمين