الدرس 126

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا في ما سبق أنه قد يشكل على حجية الاطمئنان في أطراف الشبهة غير المحصورة لأن حجية جميع الاطمئنانات غير معقول للعلم بكذب بعضها، وحجية بعضها ببعض ترجيح بلا مرجح.

وقلنا بأن السيد الشهيد «قده» ذكر أجوبة على ذلك، ومن تلك الأجوبة، أنه قال إنما ذكرناهم في الوجه الأول وهو: إن كان جريان الأصل في أطراف الشبهة غير المحصورة يجري في هذا الوجه، وهو قيام الاطمئنان، حيث ذكرنا في الوجه الأول أن مقتضى إطلاق دليل الأصل هو جريانه في أطراف الشبهة غير المحصورة، والمانع من جريانه هو ارتكاز المناقضة بين الغرض اللزومي المعلوم بالإجمال والأغراض الترخيصية الموجودة في أطراف الشبهة، ولكن ارتكاز المناقضة غير مانع في الشبهة غير المحصورة، والسر في ذلك أن المرتكز العقلائي لا يرى مناقضة بين الغرض اللزومي المعلوم بالإجمال، والأغراض الترخيصية القائمة بالأطراف الكثيرة، ومقتضى ذلك ليس عدم وجود الموافقة القطعية، بل جواز المخالفة القطعية، لأنه إذا لم يكن الغرض اللزومي المعلوم بالإجمال بحدٍّ يكون أهم من الأغراض الترخيصية الموجودة في الأطراف، وكما لا تجب الموافقة القطعية لا تحرم المخالفة القطعية، وهذا الذي ذكرناه في الوجه الأول وهو جواز جريان الأصول نذكره في الوجه الثاني وهو الاستناد إلى الاطمئنان، فإننا نقول بأنّ لو حصل للمكلّف فرضًا وجدلًا اطمئنان بعدم الانطباق على جميع الأطراف فإنه لا مانع من ذلك باعتبار أن المانع هو العلم بغرض لزومي، والمفروض أن الغرض اللزومي لا مناقضة بينه وبين الأغراض الترخيصية لكثرة الأطراف.

والجواب عن هذا الوجه ما سبق ذكره في ما مضى، وهو أن مدّعى السيد الشهيد «قده» أنّ المرتكز العقلائي قائمٌ على أن الغرض اللزومي المعلوم بالإجمال ليس بحدٍّ من الأهمية يقاوم الأغراض الترخيصية الموجودة في كثرة الأطراف، أم أن مدّعاه أنه لا يحرَز بناءٌ من العقلاء على مراعاة الغرض اللزومي مع وجود أغراض ترخيصية كثيرة، فإن كان مدّعاه هو الأول، أي أن بناء العقلاء قائم على أن الغرض اللزومي لا يعادل الأغراض الترخيصية، ففيه مضافًا إلى أنه مجرد كثرة الأغراض الترخيصية لا تعني التساوي من حيث الأهمية مع الغرض اللزومي، فإن الأغراض اللزومية تختلف من حيث درجة أهميتها، فمجرد أن مقابلها أغراض ترخيصية لا يعني التضحية بها لدى المرتكز العقلائي لأجل أغراض عديدة، مضافًا لذلك فإنه لا فرق في ذلك بين الشبهة المحصورة والشبهة غير المحصورة، فلو أحرز مساواة الغرض اللزومي للغرض الترخيصي أو أنه أقل منه، لم يكن مانعًا من جريان الأصل حتى في الشبهات المحصورة، وإن كان مقصوده هو أنه لا نحرز أن بناء العقلاء على التحفظ على الغرض اللزومي مع وجود أغراض ترخيصية، فقد ذكرنا في ما سبق أن عدم الإحراز لا يعني انعقاد الإطلاق لأدلة الأصول العملية، بحيث تشمل أطراف العلم الإجمالي، فإن المقام من قبيل الشك في القرينة الارتكازية، ومع الشك في القرينة المتصلة وهي القرينة الارتكازية لا ينعقد الإطلاق.

وهناك تأمّلٌ في عبارة التقرير، حيث أنه صفحة 232 قال: قد عرفت عدم ارتكاز المناقضة بين الترخيص في المخالفة القطعية والتكليف المعلوم بالإجمال، إذا كانت الأطراف كثيرةً فحال كل واحد من هذه الاطمئنانات حال الأصل الترخيصي.

صفحة 235 قال عندما ذكر: تجدر إلى الأمور، الأول: هل تجوز المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة أم لا؟ قال: وإن كان المدرك هو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال لو لوحظ وحده، فهذا إنما يجوّز الارتكاز بمقدار ما يطمئن معه بعدم المخالفة لا أكثر. فهنا كيف نجمع بين كلامه صفحة 232 وصفحة 235، مع أن المقرر أشكل عليه.

هذا ما يرتبط بهذين الوجهين:

الوجه الأول: هو أن المجوز لارتكاب أطراف الشبهة غير المحصورة جريان الأصل، ولو لم يكن هناك اطمئنان، كما إذا افترضنا أن الإنسان لم يحصل له الاطمئنان في أطراف الشبهة غير المحصورة بعدم الانطباق، بل ما زال الاحتمال قويًّا وهو احتمال الانطباق، حتى مع عدم حصول الاطمئنان يجوز جريان الأصل.

والوجه الثاني: وهو أن المدار على الاطمئنان ولو لم يجر الأصل، كما إذا كانت الشبهة في مقام الامتثال لا في مقام التكليف، كما لو فرضنا أن إنسانًا نذر ولا يدري ما الذي نذره ودار المنذور بين أطراف غير محصورة، فهذا ليس من الشك في التكليف وإنما الشك في المحقق للامتثال، وهنا لا يجري الأصل الترخيصي جزمًا لأن الشك في الفراغ وليس الشك في التكليف، فمع أن الشك في الفراغ وليس في التكليف فالأصل لا يجري، مع ذلك لكون الشبهة غير محصورة فيدور مدار اطمئنانه، فكل طرفٍ اطمأنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال عليه فإنه يدعه ويأتي بما لا يطمئن فيه بعدم الانطباق.

الوجه الثالث من وجوه جواز ارتكاب أطراف الشبهة غير المحصورة: ما ذكره المحقق النائيني «قده» من أن المانع من اقتحام أطراف العلم الإجمالي هو قبح الترخيص في المخالفة القطعية، وحيث إن أطراف الشبهة غير المحصورة كثيرة جدًّا، فالمكلف غير قادر على المخالفة القطعية فيها. إذًا فالمانع منتفٍ بانتفاء موضوعي، فإن المانع من جواز اقتحامه أنه ترخيص في المخالفة القطعية، فإذا لم يقدر المكلف على اقتحام جميع الأطراف، فالمخالفة القطعية مستحيلة. إذًا فالترخيص في المخالفة القطعية منتفٍ بانتفاء موضوعه، فيجوز له اقتحام أي طرف.

وأشكل على ذلك السيد الشهيد «قده» بأن: القبيح لا يرتفع قبحه بعدم إمكانه اتفاقًا، فإن الترخيص في المخالفة القطعية قبيح وإن لم يقدر المكلّف على المخالفة القطعية، فهذا لا يرفع أنه قبيح، فإنه يقبح مثلًا من الفقير المسكين أن يسجن الآخرين وإن كان غير قادر على سجنهم، فإن هذا لا يرفع كون القبيح قبيحًا. ولكن المفروض أن المحقق النائيني «قده» يدعي أن الشبهة غير المحصورة التي يكون عدم القدرة على اقتحام أطرافها دائميًّا لا اتفاقيًّا، بمعنى أن الشهيد نفسه تبنى الوجه الثاني من وجهي جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة غير المحصورة وهو الاطمئنان، فهذا الوجه وجه صالح لأن يكون حدًّا صارمًا بين الشبهة المحصورة والشبهة غير المحصورة بأن يقال: الشبهة غير المحصورة ما بلغت الأطرافُ من الكثرة حدًّا يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق في أي طرف يتناوله المكلف، فبعد أن نضع هذا الحد يقول المحقق النائيني: إذًا، فالشبهة غير المحصورة بهذا الحد مما لا يمكن المكلف فيها المخالفة القطعية دائمًا، فكل شبهة بلغت من الكثرة حدًّا يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق، فإن المكلف غير قادر على اقتحام سائر أطرافها.

وبالتالي فعدم القدرة على الاقتحام ليس أمرًا اتفاقيًا وإنما هو أمرٌ منضبط، فلأجل ذلك ينتفي الترخيص بالمخالفة القطعية لانتفاء موضوعه لا أن الترخيص باقٍ حتى نقول القبيح لا يرتفع قبحه بعدم القدرة، بل مدّعى النائيني أنه لا ترخيص، أي أنه لا ترخيص في المخالفة القطعية لتعذرها، فإن الترخيص مع العجز عنها لغوٌ. إذًا الترخيص في المخالفة القطعية منتفٍ بانتفاء موضوعه، ومع انتفائه فلا معنى بأن يقال إنه قبيح، فليس مدعى النائيني أن الترخيص في المخالفة القطعية موجود لكن المكلّف عاجزٌ عنه، والعجز عن القبيح لا يرفع قبحه، بل مدّعاه أن لا ترخيص في المخالفة القطعية للغويته ما دامت المخالفة القطعية غير مقدورة، والسر في عدم القدرة عليها حدٌّ دائميٌّ وليس حدًّا اتفاقيًا، وهو ما بنى عليه السيد الشهيد «قده».

ومنها الوجه الرابع: الإجماع والتسالم على جواز ارتكاب أطراف الشبهة غير المحصورة، ويلاحظ عليه أولًا أنه محتمل المدركية، إذ لعل المستند الوجوه الأخرى، وعلى فرض تسليمه فالقدر المتيقن منه ما جمع الوجوه كلها التي ذكرت لجواز الارتكاب، أي ما لا يقدر المكلف على المخالفة القطعية فيه، ما يعسر عليه الاجتناب، ما حصل الاطمئنان في أطرافه بعدم الانطباق. ثم ذكر السيد بحسب التقرير صفحة 234: نعم هذا التسالم يكون نعم الدليل على عدم المناقضة بين الغرض اللزومي والأغراض الترخيصية، وذلك لأن المجمعين على جواز الارتكاب هم من أهل العرف والعقلاء «أي الفقهاء»، مع أنه لا ملازمة بين الأمرين، فإن تسالم الفقهاء على جواز الارتكاب غايته أنه هناك غرضًا ترخيصيّا بنظرهم مساوٍ للغرض اللزومي أو أهم منه، وهذا لا يعني أن الأمر كذلك في الأغراض العقلائية، بمعنى أنه كلما دار أمر بين أمر عقلائي لزومي وأغراض ترخيصية، فإن الغرض اللزومي لا يعادل الأغراض الترخيصية أو يساويها، فلا ملازمة بين إحراز ذلك في الأغراض الشرعية بمقتضى الإجماع، وإحرازه بالأغراض العقلائية.

يبقى السؤال الذي طرحناه أمس، أن السيد الشهيد قال أن الاطمئنان في المقام هو حجة بدلية، فما هو مقصوده من الحجة البدلية.

والحمد لله رب العالمين