الدرس 128

الطولية بين العلوم الإجمالية

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في ضابط الشبهة غير المحصورة والوجه في عدم منجزية العلم الإجمالي فيها، بالنظر إلى مسلك المحقق النائيني «قده» الذي يرى أن السر هو عدم القدرة على المخالفة القطعية الناشئة عن كثرة الأطراف، وقد أيّده في ذلك سيد المنتقى «قده»، وذكر ما هو مقتضى التحقيق بنظره في دعم كلام المحقق النائيني ودفع ما أُورد عليه من قبل سيدنا «قده»، ومحصل التحقيق الذي أفاده عدة أمور:

الأمر الأول: إن التكليف منوط بالقدرة على متعلقه، فلا فعلية له إلا بفعلية القدرة على متعلّقه، فإذا افترضنا أن القدرة على طرفٍ منوطة بعدم ارتكاب سائر الأطراف، كما في الشبهة غير المحصورة، حيث إنّ المكلّف إنما يقدر على مُساورة طرف «أ» إذا لم يرتكب بقية الأطراف، وإلا فإذا ارتكب بقية الأطراف كان عاجزًا عن مُساورة «أ»، فالقدرة على «أ» منوطة بعدم ارتكاب سائر الأطراف، وبالتالي فالقدرة إنما تكون فعلية بالنسبة ل «أ» عند عدم ارتكاب سائر الأطراف.

وبناءً على ذلك، فإن التكليف بترك «أ» في الشبهة التحريمية أو التكليف بالإتيان ب «أ» في الشبهة الوجوبية إنما يكون فعليًّا عند عدم ارتكاب سائر الأطراف، مثلًا في الشبهة التحريمية بالنسبة إلى قول المولى «اجتنبِ النجس» أو قول المولى «اجتنب محتمَل النجاسة»، فإنّ هذا الخطاب لا يمكن أن يكون فعليًّا بالنسبة لطرف «ب» إلّا عند عدم ارتكاب سائر الأطراف، حيث إنه في هذا الفرض يصبح قادرًا على مساورة طرف «أ»، ولأنه قادر على مساورته يكون قوله «اجتنبِ النجس» أو «اجتنب محتمل النجاسة» فعليًا في حقه. فلا محالة، بما أن القدرة على كل طرف من أطراف الشبهة غير المحصورة إنما يُتصَوَّر في فرض عدم ارتكاب الجميع، فلا فعليّة للتكليف الواقع - فضلًا عن منجزية العلم الإجمالي - بلحاظ أي طرفٍ إلا حين عدم ارتكاب سائر الأطراف.

الأمر الثاني: قال بأنه: يعتبر في منجزية العلم الإجمالي أن يكون التكليف المعلوم بالإجمال فعليًا على كل تقدير، فلو كان التكليف المعلوم بالإجمال فعليا على تقديرٍ دون تقدير لم يكن العلم الإجمالي به منجِّزًا، فإذا علم مثلًا إمّا بوجوب الجمعة أو الظهر يوم الجمعة كان العلم الإجمالي منجِّزًا، لأن المعلوم بالإجمال فعليٌّ على كُلِّ تقدير، فسواء كان التكليف الواقعيّ هو الجمعة أو كان الظهر يوم الجمعة، فإنه فعليٌّ على كل تقدير.

أما لو فرضنا أنّه عَلِم إجمالًا بأنّه مخاطَبٌ إما بأداء الزكاة أو بالطيران في الهواء، فإنّ العلم الإجمالي هنا ليس منجَّزًا لأن المعلوم بالإجمال ليس تكليفًا فعليًا على كل تقدير، فعلى تقدير أن التكليف هو الأمر بالطيران في الهواء فليس التكليف فعليًا، فلا يكون العلم الإجمالي منجَّزًا، والأمر في المقام كذلك، فإن المعلوم بالإجمال في المقام، أي في الشبهة غير المحصورة هو «اجتنب النجس»، و«اجتنب النجس» ليس فعليًا على كل تقدير، لأنه إن كان النجس هو طرف «أ» الذي يريد مساورتَه، فالتّكليف بتركه إنّما يكون فعليًّا حين عدم ارتكاب سائر الأطراف، لا أنّه فعليٌّ على كل تقدير، كما أن فعليّة «اجتنبِ النجس» في سائر الأطراف إنما يكون فعليًا عند عدم ارتكاب «أ» لا مطلقًا، فلأجل ذلك لا يكون العلم الإجمالي به منجزًا، والسر في ذلك أن المفروض أن فعليّة التكليف في طرف «أ» لا يمكن أن تتحقق إلّا مع ترك سائر الأطراف وعدم ارتكابها، وحينئذ نقول: فالعلم بتكليفٍ فعليٍّ لطرف «أ» متوقف على ترك سائر الأطراف، فإذا كان العلم بالتكليف الفعليّ فيه متوقف على ترك غيره فكيف يكون هذا العلم منجِّزًا للتكليف في غيره في عرْض التكليف به؟ بل يكون من قبيل توقُّف الموضوع على حُكمه وهو مُحال، فإنّ العلم بتكليفٍ فعليّ في طرف «أ» متوقّفٌ على ترك غيره، فإذا كان متوقفًا على ترك غيره، فكيف يكون نفس هذا العلم منجزًا لترك غيره وهو متوقفٌ عليه؟ إذ مفروض كلامنا وجود علم إجمالي منجَّز، والعلم الإجمالي المنجَّز في الشبهة غير المحصورة يعني مقتضى منجِّزيته هو مطلوبيّة ترك «أ» في عرْض مطلوبيّة ترك سائر الأطراف، والمفروض أنّ العلم أصلًا لا يتولّد، والمفروض أن العلم بتكليفٍ فعليٍّ لا يتولّد ولا يتكوّن بالنسبة لطرف «أ» إلا عند ترك سائر الأطراف. فإذا كان العلم الإجمالي متوقف تولّده وتكونه على ترك سائر الأطراف فكيف يكون منجّزًا لهذا الترك وهو متوقف عليه؟ إذًا فبالنتيجة لا يعقل أصلًا أن يكون العلم الإجمالي منجَّزًا في الشبهة غير المحصورة، والسرّ في عدم معقولية منجّزيته أنّ الشرط في المنجزية تعلّقُه بتكليفٍ فعليّ على كل تقدير، والتكليف الفعلي المعلوم في المقام ليس فعليًا على كل تقدير، بل يستحيل ذلك. فيبنغي - بنظر سيد المنتقى - أن يُقال في توضيح وتشييد مُدّعى المحقق النائيني «قده»: إن عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة لانتفاء المنجزية لانتفاء موضوعها أصلًا، لأن التكليف ليس فعليًا على كل تقدير. وبناءً على هذا الكلام، فحينئذ لا يكون العلم الإجمالي منجّزًا على مسلك العلّيّة فضلًا عن مسلك الاقتضاء، لأنّ المنجِّزية منتفية بانتفاء موضوعها.

الأمر الثالث: يتعلّق بدفع إشكال سيدنا «قده» على كلام شيخه المحقق النائيني «قده»، فأفاد سيد المنتقى بأنه: قد يُشكَل بأنه لا كلام ولا إشكال في منجِّزية العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة مع عدم القدرة على سائر الأطراف، فلو عَلم إجمالًا بحُرمة الجلوس في هذه الدقيقة في إحدى الغرفتين، فإن العلم الإجمالي منجَّز، مع أن المكلف غير قادر على المخالفة القطعية بأن يجلس في الغرفتين في آن واحد. فالقدرة على الجلوس في كل من الغرفتين متوقفة على ترك الجلوس في الغرفة الأخرى، فإذا كانت مُساورة هذا الطرف متوقفة على ترك الطرف الآخر كان العلم بالتكليف الفعلي في هذا الطرف متوقفًا على ترك الآخر، وإذا كان العلم بالتكليف الفعلي في طرف «أ» متوقفًا على ترك «ب» فكيف يكون منجِّزًا لترك «ب» وهو متوقّفٌ عليه؟ فالإشكال الذي ذكرتموه في الشبهة غير المحصورة يأتي في المحصورة، فكيف قلتم بعدم المنجزية في الشبهة غير المحصورة بينما التزمتم بالمنجزية في الشبهة المحصورة؟ يجيب عن ذلك: يقول: هناك فرق دقيق بين المطلبين، وهو أنّ القدرة المعتبرة في التكليف القدرة المتّصلة بآنِ الامتثال، لا القدرة في آنِ الامتثال، القدرة التي هي دخيلةٌ في التكليف القدرة المتصلة بآنِ الامتثال، لا القدرة في آن الامتثال، بيان ذلك: أنه إذا افترضنا أن المكلّف دخل عليه الوقت، وبدخول الوقت آنًا ما أصبح قادرًا على أن يصلي بطهارة مائية، لكنّه أتلف الطهارة المائية، فإن هذا يعد تعجيزًا عن امتثال التكليف وليس عجزًا، وبعبارة أخرى هذا رفعٌ للقدرة وليس دفعًا، فهو رفعٌ للتكليف بعد فعليّته بفعليّة القدرة وليس دفعًا له بدفع موضوعه، مما يبين لنا أن القدرة الدخيلة في فعليّة التكليف ليست القدرة في آنِ الامتثال، بل القدرة الدخيلة في التكليف القدرة المتصلة بآنِ الامتثال، فإنه في الآنِ الذي قبل قبل آنِ دخول الوقت، في الآن المتصل بآنِ دخول الوقت كان قادرًا على الصلاة بالطهارة المائية، حيث إنه في الآن المتصل بآنِ دخول الوقت قادرٌ على الصلاة بالطهارة المائية لا محالة يكون التكليف بالصلاة بالطهارة المائية فعليًا في حقه لتوفّر شرطه وإن لم يكن قادرًا في آن الامتثال.

فلأجل ذلك، لا بدّ أن نفرّق بين العجز الناشئ عن التضادّ والعجز الناشئ عن كثرة الأطراف، ففي العجز الناشئ عن التضاد، حيث إن المكلّف لا يمكنه فعل الضدّين معًا، فلا يمكنه أن يقوم ويقعد في آنٍ واحد، أو لا يمكنه أن يجلس في غرفتين في آنٍ واحد، فنتيجة لهذا التضاد يكون عاجزًا عن أحد الضدّين عند فعل الآخر. إلّا أنّ هذا هل يعني أن القدرة على فعل الضّدّ متوقّفة على ترك ضدّه أم هي في آنِه وفي عرْضه؟ ذُكر في بحث «هل أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه في الأصول» أنّه ليست القدرة على أحد الضدّين معلّقة على ترك ضدّه وإلّا لزم الدور، بل القدرة على أحد الضدّين في ظرف عدم ضده لا أنها متوقفة على عدم ضده، فالقدرة عليهما في آنٍ واحد وفي عرْض واحد.

فلأجل ذلك، إذا خوطب ب «اترك الجلوس في إحدى الغرفتين فإنه محرّم» فأتى بأحدهما، فإن الجلوس في إحداهما ليس دفعًا للقدرة على الآخر بل رفعًا، حيث لا يعتبر في القدرة على الآخر عدم فعله كي يكون فعله دفًا للقدرة على الآخر، بل القدرة على الآخر حاصلة ذاتًا وشأنًا، فيكون فعل أحد الضدّين تعجيزًا للنفس عن الآخر، لا أنه دفع للقدرة على الآخر بل رفعٌ لها.

فلأجل ذلك ذكروا في بحث الضدّ أن المكلّف قادرٌ على كلٍّ من الضدّين على سبيل البدل، فالقدرة على كل من الضدين على سبيل البدل في آن واحد كافية للتكليف، بأن يقال: دع أحد الضدين. ولو كانت القدرة على كل منهما متوقفة على عدم الآخر لم يُعقل هذا التكليف، لأن فعل أحدهما أصلًا رافع للتكليف برفع موضوعه وليس تعجيزًا عن التكليف. فبناءً على ذلك نقول: في مسألة الضدّ الذي مثّل به سيدنا الخوئي «قده» واعتبره إشكالًا على شيخه المحقق النائيني، هناك قدرة تبادلية، بمعنى أنه إذا علم إجمالًا بحرمة الجلوس في إحدى الغرفتين، فلديه قدرة فعليّة على الجلوس في كلٍّ من الغرفتين على سبيل البدل.

إذًا فالقدرة المتصلة بآنِ الامتثال موجودة، ولأجل ذلك كان التكليف بحرمة الجلوس في كلٍّ من الغرفتين تكليفًا فعليًا، فالعلم الإجمالي به منجَّزٌ. أما في العجز الناشئ عن كثرة الأطراف، فلِأنّ كثرة الأطراف مساوِقة للتدريجية في الحصول، حيث لا يمكن ارتكاب سائر الأطراف دفعةً وإنما يمكن ارتكابها تدريجًا، فلا محالة كثرة الأطراف تقتضي أن تكون القدرة على ارتكابها قدرةً تدريجية وليست قدرة دفعية. فمقتضى ذلك أن يكون فعل أيٍّ طرفٍ أو تركه سابقًا زمانًا على فعل الطرف الآخر أو تركه.

فلأجل ذلك يكون ترك هذا الطرف في الدقيقة الأولى محققًا للقدرة على الطرف الثاني في الدقيقة الثانية، وفعل الطرف الأول في الدقيقة الأولى دافعٌ للقدرة على ارتكاب الطرف الثاني في الدقيقة الثانية وليس رافعًا. فبما أن القدرة تدريجية، فلا محالة حينئذ في الدقيقة الأولى يكون قادرًا على الفعل والترك بالنسبة لطرف «أ». لكن إن فعل طرف «أ» فالقدرة على طرف «ب» في الدقيقة الثانية انتفت بانتفاء موضوعها، وإن ترك طرف «أ» تولّدت القدرة على طرف «ب» في الدقيقة الثانية لا أنها موجودة من الأول، فلا محالة تكون القدرة على كلِّ طرفٍ نضع اليد عليه من أطراف الشبهة غير المحصورة متوقّفٌ حصولها على عدم ارتكاب الأطراف الأخرى، وبالنتيجة فارتكاب الأطراف الأخرى دافعٌ للقدرة على طرف «أ» وليس رافعًا، وهذا يعني أن التكليف بطرف «أ» لا يكون فعليًا إلا عند عدم ارتكاب الأطراف الأخرى، فتبيّن بذلك الفرق بين مثال الضد وبين ما هو محل كلامنا، لذلك قلنا بأن العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة غير منجَّز، لأنّ التكليف ليس فعليًا على كل تقدير، وقلنا في الشبهة المحصورة الدائرة بين الضدّين بأن العلم الإجمالي منجَّزٌ، وأن التكليف فعليٌّ على كل تقدير.

والحمد لله رب العالمين