الدرس 131

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل الكلام إلى أنّ الطهارة الخبثية شرطٌ في صحة الصلاة أم أنّ النجاسة مانعةٌ من الصحة؟ فما هو المستفاد من مقام الإثبات؟ فنقول بأنّ: في المسألة طوائف ثلاث من الروايات:

الطائفة الأولى: ما يُدّعى دلالته على شرطية الطهارة، ومن هذه الطائفة صحيحة زرارة عن أبي جعفرٍ : «لا صلاة إلا بطَهورٍ ويُجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار وبذلك جرت السُّنَّة»، فإنه يُقال إنّ ظاهر صدر الرواية وهو قوله «لا صلاة إلا بطهور» أن الطهور شرطٌ في صحة الصلاة، وظاهر التفريع حيث قال «ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار وبذلك جرت السُّنَّة» أنّ الاستنجاء مصداقٌ للطهور، إذًا فمقتضى ملاحظة مجموع صدر الرواية وذيلها أنّ خلوّ البدن من النجاسة شرطٌ في صحة الصلاة، فهي دالّة على شرطية الطهارة لا على مانعية النجاسة.

واحتمل سيدنا «قده» بأنّ هذه الجملة وهي قوله «ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار» جملة مستأنَفة، أي أنّ الطهارة الحدثية شرطٌ «وكذلك يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار»، يعني من دون أن تكون الجملة الثانية تفريعًا وتعقيبًا على الأولى، فهي بيانٌ ابتدائيّ. ولكن هذا الاحتمال خلاف ظاهر السياق، فإن ظاهره أنّ هذه الجملة «ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار وبذلك جرت السُّنَّة» ظاهره أنه تفريع على الأول، وأنّ هذا محقِّقٌ للطهور الذي هو شرطٌ في صحة الصلاة.

الرواية الثانية من هذه الطائفة هي صحيحة زرارة التي سبق البحث فيها، حيث قال فيها: «فإن ظننتُ أنه قد أصاب ولم أتيقّن ذلك، فنظرتُ فلم أرَ فيه شيئًا فرأيت فيه، قال: تغسله ولا تُعيد الصلاة. قلت: لم ذلك؟ قال: لأنّك كنتَ على يقينٍ من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا» بدعوى أنّ ظاهر إجراء الاستصحاب تنقيحه للشرط، حيث قال «تغسله ولا تعيد. قلت: لم ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت»، أي أنّك قبل الشروع في الصلاة كنت على يقين من الطهارة الخبثية، ثم شككت في عُروضها، فمقتضى الاستصحاب أنك واجدٌ للطهارة، فصليت وأنت واجدٌ للطهارة، غاية ما في الأمر أنها طهارة ظاهرية استصحابية. إذًا فمقتضى ذلك أنّ المركوز هو شرطية الطهارة، غاية ما في الباب أن الإمام أجرى الاستصحاب لأجل تنقيح هذا الشرط ظاهرًا.

وقلنا في ما سبق أنّ البعض الآخر كالشيخ الأعظم ذهب إلى أنّ المدلول الضمني في الرواية ليس هو شرطية الطهارة وإنّما إجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي، فالإمام لا يريد أن يقول: من استصحب الطهارة فهو واجد لشرط صحة الصلاة كي يدلّ ذلك بالدلالة الالتزامية على أن الطهارة شرط، بل يريد أن يقول: من استصحب الطهارة، فالحكم الظاهري في حقه جواز الشروع في الصلاة، والحكم الظاهري يُجزي عن الواقعي، فمقتضى ذلك الحكم بصحة صلاته، لأنّه كان يجوز له الدخول في الصلاة بهذا الاستصحاب، لا لأن الاستصحاب منقِّح للشرط. هذا بالنسبة للطائفة الأولى التي استُدلّ بها على شرطية الطهارة.

الطائفة الثانية: ما دلّ على مانعيّة النجاسة: في الوسائل الجزء الثالث ص 455، باب 31 من أبواب النجاسات:

الحديث الأول: «صحيحة زرارة عن أحدهما قال: كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحدَه، فلا بأس بأن يكون عليه الشيء - يعني النجاسة - مثل القلنسوة والتّكة والجورب».

والحديث الثاني: «رواية حمّاد بن عثمان عمّن رواه عن أبي عبد الله في الرجل يصلّي في الخفّ الذي قد أصابه القذَر، فقال: إذا كان ممّا لا تتمّ الصلاة فيه فلا بأس».

الحديث الرابع: «رواية إبراهيم بن أبي البلاد، عمّن حدّثهم عن أبي عبد الله قال: لا بأس بالصلاة في الشيء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده، يصيبه القذَر، مثل القلنسوة والتّكة والجورب».

وقد أفاد سيدنا «قده» في الجزء الثالث من موسوعته، ص 236، قال: يمكن أن يُستفاد من هذه الأخبار المفروغية عن مانعية النجاسة، أي أنّ النجاسة مانع، ولكن يُستثنى من مانعيّة النجاسة ما إذا كان النجس ممّا لا تتمُّ الصلاة فيه، فهل هذا ظاهر؟ أو أنّ غاية مفاد هذ الروايات أن من صلَّى في النّجس وكان النّجس مما لا تتمّ فيه الصلاة فصلاته صحيحة، لكن هل لأنَّ النجاسة مانعٌ وهذا مُستثنى؟ أم لأنّ الطهارة شرطٌ وهذا مستثنى؟ فمفاد الرواية أعمّ من كلا المحتملين.

الطائفة الثالثة: ما ظاهرها التفريع، فقد تعرّض سيدنا «قده» لعدّة روايات في «فصل الصلاة في النجس»، ص 315 من الجزء الثالث: وهذه الروايات ظاهرة في التفريع، بيان ذلك: من هذه الطائفة «حسَنة عبد الله بن سنان: قال: سألت أبا عبد الله عن رجل أصاب ثوبه جنابةٌ أو دمٌ. قال: إن كان قد علم أنّه أصاب ثوبه جنابةٌ أو دمٌ قبل أن يصلّي، ثمّ صلّى فيه ولم يغسله، فعليه أن يُعيد بعدما صلّى».

و«مصححة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل وفي ثوبه عَذِرة من إنسان أو سنّور أو كلب أيُعيد صلاته؟ قال: إنْ كان لم يعلم فلا يعيد».

وهذه الروايات مفادها أن الصلاة في الثوب النجس إن كانت مع العلم والالتفات فهي فاسدة، وإن كانت مع الجهل بالموضوع فهي صحيحة، ومجرّد هذا البيان أعمّ من أن تكون الطهارة شرطًا أو النجاسة مانعًا.

فالنتيجة أنّ الأقرب هو ما دلّ على شرطيّة الطهارة وهو الطائفة الأولى، وأمّا إذا لم يتبين لنا شيء، وقلنا لعلّ منظور الطائفة الأولى هو مانعية النجاسة، فإذا كانت الأدلة مجملةً من هذه الجهة، ووصلت النوبة للأصل العمليّ، فما هو مقتضى الأصل العملي؟ إذا شككنا على نحو الشبهة الحكمية هل أنّ الطهارة شرطٌ أم أن النجاسة مانعٌ بعد المفروغية عن أن الصلاة في الثوب النجس عن التفاتٍ طاهرٌ، فلا إشكال في أن من صلّى في الثوب النجس عن التفات فصلاته فاسدة، إنّما الكلام مضافًا إلى ذلك، هل أنّ فساد صلاته لشرطية الطهارة أم لمانعية النجاسة؟ فما هو مقتضى الأصل العمليّ؟ فإذا وصلت النوبة إلى الأصل العمليّ، إنما يُتصَوَّر أن يكون للمورد أثرٌ عمليٌّ إذا كان المورد دائرًا بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وإنما يكون المورد موردًا لدوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، إذا كان الثوب مشكوك النجاسة والطهارة كما مثّلنا لهذا سابقًا، قلنا: لو شكّ في جلد السنّور هل هو محكوم بالطهارة شرعًا أو محكوم بالنجاسة؟ وافترضنا أنّ أصالة الطهارة لا تجري عند الشكّ في النّجاسة الذاتيّة، فحينئذٍ لا يمكن تنقيح صحة الصلاة في هذا الثوب بأصالة الطهارة، لأنّ أصالة الطهارة تجري في الشكّ في النجاسة العرضية، وأما الشك في النجاسة الذاتية هل أنه محكوم شرعًا من الأصل بالطهارة أم النجاسة فأصالة الطهارة لا تشمله بناءً على هذا المبنى. فحينئذٍ سوف يرجع الشكّ إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير، لأنّه إن كانت النجاسة مانعًا، وهذا مشكوك النجاسة، فهو مشكوك المانعيّة، فتجري فيه أصالة البراءة عن المانعية. وإن كانت الطهارة شرطًا، فمقتضى الشك في وجود الشرط هو قاعدة الاشتغال، إذ لا بد من إحراز الشرط.

إذًا نحن في المقام لا ندري هل وظيفتنا الاشتغال أم البراءة، فمآل الشكّ إلى أنّه هل يتعيّن علينا الصلاة في غيره إحرازًا للشرط؟ أم تصحّ الصلاة فيه - يعني مخيّرون - للشّكّ في المانعية؟ وحيث إنه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير بناءً على الصحيح من أنّ مقتضى القاعدة جريان البراءة عن التعيين، فتجري البراءة عن تعيُّن الصلاة في غيره، ومقتضى البراءة عن تعيُّن الصلاة في غيره هو صحة الصلاة فيه. هذا تمام الكلام في هذا المطلب،.

وقد ذكرنا في ما سبق أنّ الصلاة في النجس مع الجهل بالنجاسة، هل تصحّ مطلقًا؟ أم تصحّ في فرض الفحص قبل الصلاة؟ فقد يُدَّعى أنّ هناك نصوصًا تدلّ على أنّ الصلاة إنّما تصحّ إذا فَحص قبل الدخول في الصلاة، ومن هذه النصوص «صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ذكر المني فشدّده وجعله أشدّ من البول، ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإنْ أنت نظرتَ في ثوبك فلم تُصبْه ثم صلّيت فيه ثم رأيته بعد، فلا إعادة عليك، وكذا البول.

فيقال بأن الرواية حيث رتّبت الحكم بعدم الإعادة على النظر للثوب وعدمه، فمُقتضى مفهومها أنّه إذا لم ينظر ثم رأى النجاسة فإنّ صلاته فاسدة. ولكنّ سيدنا «قده» أفاد في ص 328 من الجزء الثالث أن ظاهر هذه الرواية أنّ مناط الصحة عدم العلم بالنجاسة حين الصلاة، فلاحظوا الصحيحة: «قال: إن رأيت المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبْه ثمّ صليت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك» أي وإن صلّيت من دون علمٍ بالنجاسة، لا وإن صلّيت بفحصٍ. فظاهر سياق الرواية أنّ المصحِّح للصلاة أنه صلى فيه جاهلًا لا أنّ المصحِّح للصلاة أنّه صلّى فيه عن فحص. وبعبارة أخرى، إنّ قوله وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تُصبْه ثم صلّيت ثم رأيت، لاحظ النظر هنا على نحو الطريقيّة لا على نحو الموضوعيّة، أي أنّ مقتضى نظرك وعدم رؤيتك أنّك صلّيت في الثوب عن جهلٍ بالنجاسة، ولا موضوعيّة للنظر. فلا مدخلية للنظر بوجهٍ وإنما عبّر عن العلم بالنجاسة ورؤيتها بالنظر من جهة أنّ العلم غالبًا ما يحصل بالنظر، وإلّا فلا موضوعية له، وما أفاده تامّ.

والحمد لله رب العالمين