الدرس 132

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في الاستدلال بالروايات على أنّ صحّة الصلاة في الثوب النجس منوطةٌ بالفحص عن النجاسة قبل الصلاة، وقد سبق الكلام في الاستدلال بصحيحة زرارة وصحيحة محمد بن مسلم. ومن هذه الروايات «رواية ميمون الصيقل أو منصور الصيقل، عن أبي عبد الله قال: قلت له: رجلٌ أصابته جنابةٌ بالليل فاغتسل، فلمّا أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة، - وكأنّ مورد السؤال بقرينة الجواب أنّه صلّى في ثوبه ثم رأى في ثوبه جنابةً -. فقال : الحمد لله الذي لم يدعْ شيئًا إلّا وله حدّ. إن كان حين قام - يعني قام للصلاة - نظر فلم يرَ شيئًا فلا إعادة عليه، وإن كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة». وبمضمونها مُرسلة الفقيه، حيث قال: روي في المني أنه إن كان الرجل حيث قام نظر وطلب فلم يجد شيئًا فلا شيء عليه، وإن كان لم ينظر ولم يطلب فعليه أن يغسله ويعيد صلاته. وقد أفاد سيدنا «قده» ص 329 من الجزء الثالث أنّ دلالة الرواية تامّة، فإنّ ظاهرها إناطة صحة الصلاة في الثوب النجس بالفحص قبل الصلاة، فما لم يفحص فصلاته فاسدة. ولكن قد يُناقَش في إطلاقها:

أولًا: باحتمال خصوصيةٍ للمني بملاحظ الرواية السابقة وهي «صحيحة محمد بن مسلم قال: عن أبي عبد الله ذكر المني فشدّده، فجعله أشدّ من البول. ثم قال: إن رأيتَ المني قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليتَ فيه ثمّ رأيتَه بعد فلا إعادة عليك». ولكن هذه الملاحظة منفيّة، أولًا: بقوله في هذه الصحيحة «فكذا البول»، وثانيًا: بقوله في موثّقة أبي بصير التي ستأتي «عن أبي عبد الله في رجل صلّى في ثوبٍ فيه جنابةٌ ركعتين، ثمّ علم به، قال: عليه أن يبتدئ الصلاة. قال: وسألته عن رجل يصلّي وفي ثوبه جنابةٌ أو دمٌ، حتى فرغ من صلاته ثم علم، قال: قد مضت صلاتُه ولا شيء عليه».

ثانيًا: أن يقال بأنّ مورد رواية الصيقل من سبقتْه الجنابة، فربّما يكون لسبْق الجنابة دخلٌ، أي من كان جُنُبًا فاغتسل فصلّى ثمّ رأى في ثوبه منيًا، فهنا يمكن أن يقال بالتفصيل وهو أنه إن كان قد فحص قبل صلاته فلم يجد شيئًا فصلاته صحيحة، وإن كان لم يفحص فصلاته فاسدة، فيصحّ التفصيل لأنّه مسبوقٌ بالجنابة، بينما من لم يسبق جنابة أو نجاسة وإنّما شكّ شكًّا ابتدائيًا في أنّ ثوبه متنجّس أم لا، فلم يفحص، ولو اعتمادًا على استصحاب طهارة الثوب، فصلّى فبعد الصلاة وجد النجاسة، فهنا لا يأتي فيه هذا التفصيل، فمن المحتمل أنّ مورد التفصيل في من سبقته الجنابة أو النجاسة لا مطلقًا، فلا يصحّ الاستدلال بهذه الرواية لو تمّ سندها على ضرورة الفحص، وإلّا لا تصحّ الصلاة. والأمر سهلٌ باعتبار أنّها ضعيفة السند سواءً كان الراوي ميمون أو منصور لعدم توثيقه. ثم أفاد سيدنا «قده»، قال: حتّى لو أغمضنا النظر عن سندها، فإنّها لا تنهض حجةً في مقابل الأخبار الدالّة على الصحّة من دون فرقٍ بين الفحص وعدمه، واستشهد بهذه الأخبار، منها: «صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما ، قال: سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دمًا وهو يصلّي، قال: لا يُؤذنه حتى ينصرف»، فإنّ سيدنا «قده» يدّعي أنّ هذه الرواية صريحة أصلًا، أي إن كانت رواية الصيقل ظاهرة في لزوم الفحص، فهذه صريحة في عدم لزوم الفحص، وأنّ الصلاة صحيحة على كلّ حالٍ فحص أم لم يفحص، لصراحتها في أنّه لا أثر للعلم بعد الصلاة، وإنّما الأثر - وهو وجوب الإعادة - يترتّب على العلم بالنجاسة حال الصلاة، فإنّ قوله «لا يؤذنه حتى ينصرف» ظاهرٌ في أنّه لو آذنه وهو في الصلاة بطلت صلاته، وأمّا إذا آذنه وأخبره بعد الصلاة فصلاته صحيحة، فهي صريحةٌ في أنّه لا دخل للفحص والنظر في صحة الصلاة.

ولكن يلاحظ على ما أُفيد أنّ هذه الرواية «صحيحة محمد بن مسلم» إمّا منصرفة للغافل أو أعمّ، فإن قلنا بأنها منصرفة للغافل عن الرجل يرى في ثوب أخيه دمًا وأخوه يصلّي وهو غافل، فهي خارجة موضوعًا عن مسألة الفحص وعدمه، فإنّه إنّما يُتصوَّر التفصيل بين الفحص وعدمه في الملتفِت، وأمّا الغافل بالمرّة فهو خارجٌ موضوعًا عن هذا التفصيل، وحينئذٍ تكون الرواية أجنبيّة عن محل الكلام، فكيف يُقال بأنّها صريحةٌ بعدم اعتبار الفحص، وبالتالي لا تنهض في مقابلها رواية الصيقل. وإنا كانت هذه الرواية أعمّ من الغافل وغيره، كانت رواية الصيقل مخصصة، أي أنّ هذه الرواية تقول أنّ من لم يعلم بالنّجاسة إلّا بعد الصلاة صحّت صلاته غافلًا أو ملتفتًا، فاحصًا أم ليس فاحصًا، وصحيحة الصيقل تقول: إن كان ملتفتًا فلم يفحص فإن صلاته فاسدة، فتكون رواية الصيقل مخصِّصةً لإطلاق صحيحة محمد بن مسلم، فكيف يُقال بأنّ رواية الصيقل على فرض تماميّة سندها لا تنهض للمعارضة مع صحيحة محمد بن مسلم.

ومن هذه الروايات، أي الروايات التي ادّعى سيدنا «قده» أنّها صريحة في عدم اعتبار الفحص، «موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله في رجلٍ صلّى في ثوبٍ فيه جنابةٌ ركعتين، ثمّ علم به، قال: عليه أن يبتدئ الصلاة. وسألته عن رجلٍ يصلّي وفي ثوبه جنابةٌ أو دمٌ حتى فرغ من صلاته ثم علم، قال: قد مضت صلاتُه ولا شيء عليه». فيقول سيدنا: إنّ مقتضى قرينة المقابلة بين من علم أثناء الصلاة فصلاته فاسدة، ومن لم يعلم حتى فرغ فصلاته صحيحة، أنّ المدار على العلم وعدمه لا على الفحص وعدمه، فمقتضى قرينة المقابلة في هذه الرواية أن لا فرق بين الفحص وعدمه، المهم هل علم أثناء الصلاة أم بعدها؟ فقد أفاد بقوله: فإنّ التقابل بين العلم بالنجاسة أثناء الصلاة والعلم بالنجاسة بعد الفراغ صريحٌ في أنّ المدار في وجوب الإعادة وعدمه إنّما هو العلم بالنّجاسة قبل الصلاة أو العلم بها بعد الفراغ، بلا فرق في ذلك بين الفحص قبل الصلاة وعدمه داخل الوقت أو خارجه. ولكن يلاحظ على ذلك أنّ غاية قرينة المقابلة ظهور الرواية في أنّ المدار على العلم أثناء الصلاة وإلّا فصلاته صحيحة. وعلى فرض أنّ موردهما واحد فغايته المعارضة بين رواية الصيقل التي أناطت الصحّة بالفحص وموثّقة أبي بصير التي أناطت الصحّة بعدم العلم. ومع المعارضة فالمحكَّم رواية الصيقل لأنّ العامّة يُفتون بصحّة الصلاة في ما إذا لم يعلم بالنجاسة إلّا بعد الصلاة مطلقًا وإن لم يفحص.

فالمتلخِّص عدم صحّة التفصيل بين الفحص وعدمه، لأنّ ما دلّ على التفصيل إمّا ضعيفٌ سندًا أو غير تامّ دلالةً أو معارَض، فالمرجع هو الإطلاقات التي دلّت على صحة الصلاة في النجس. بقيت أمور أو تنبيهاتٌ في المسألة:

التنبيه الأول: أشكل الشيخ أحمد العبيدي بأنّنا اعتمدنا في ما سبق لاستظهار كون الطهارة شرطًا، وليست النجاسة مانعًا على صحيحة زرارة التي قال فيها : «لا صلاة إلّا بطهور». وعند المراجعة لهذه الصحيحة نجد أنّ هناك روايتين: رواية ذكرها صاحب الوسائل في الباب التاسع من أبواب أحكام الخلوة، الجزء الأول من الوسائل ص 315: «محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد عن حريز عن زرارة، عن أبي جعفرٍ قال: لا صلاة إلّا بطهور، ويُجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار»، حيث استظهرنا من التفريع أنّ المراد بالطهور ما يشمل الطهارة الخبثية، وبالتالي فالرواية شاهدٌ على أنّ الطهارة الخبثية شرطٌ في الصحّة وليست النجاسة مانع. وهناك رواية أخرى تعرّض لها صاحب الوسائل في الباب الأول من أبواب الوضوء، ص 365، نفس السند: «محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد عن حريز عن زرارة، عن أبي جعفر : إذا دخل الوقت وجب الطّهور والصلاة، ولا صلاة إلّا بطهور»، وظاهر ذلك أنّ ما ذُكر في هذه الرواية هو صدرٌ لتلك الرواية. وبما أنّ ظاهر قوله - إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ولا صلاة إلّا بطهور - إرادة الطهارة الحدثية، إذًا فهذا يعني أنّ قوله بعد ذلك «ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار» جملةٌ مستأنَفة. أو أنّ الرواية جمع بين روايتين عن أبي جعفر، فإحداهما تتكلّم عن الطهارة الحدثية والأخرى تتكلّم عمّا يتحقّق به الاستنجاء، فجمع بينهما في رواية واحدة. ولكنّ جواب ذلك أنّ غاية قوله «إذا دخل الوقت فقد وجب الطهور والصلاة ولا صلاة إلّا بطهور» شمولُه للطهارة الحدثية لا اختصاصه بها، فغاية ما يُستفاد من هذا التعبير أنّ هذا شاملٌ قطعًا للطهارة الحدثية، وأمّا اختصاصه بها فلا يُستفاد من ذلك. وحيث إن الإمام عقّب عليه ما يرتبط بالطهارة الخبثية استفدنا منه شموله للطهارة الخبثية. وأمّا دعوى أنّها رواية أخرى جمع الراوي بينهما، فهذا يتنافى مع ظاهر السياق، حيث قال وذكر المقول واحدًا، لا أنّه كرّر كلمة «قال» أو «وقال» كي يكون منبّهًا على احتمال تعدُّد الرواية.

التنبيه الثاني: إنّ ظاهر ما دلّ على شرطية الطهارة - كهذه الرواية التي قرأناها وهي صحيحة زرارة - كفاية الطهارة الواقعيّة، أي متى ما كان ثوبه طاهرًا واقعًا، وإن كان قاطعًا بالنجاسة، كما لو صلّى قاطعًا بنجاسة ثوبه، وقد تأتّى منه قصد القربة، فإنّ صلاته صحيحة إذا كان الثوب طاهرًا واقعًا، بمقتضى إطلاق قوله «لا صلاة إلّا بطهور». كما أنّ مقتضى الروايات التي دلّت على أنّ من لم يعلم بالنّجاسة إلّا ما بعد الصلاة صحّت صلاته، وإن كان ثوبه نجسًا واقعًا، أنّ الشرط في صحّة الصلاة إمّا الطهارة الواقعية - كما يُستفاد من صحيحة زرارة -، أو عدم العلم بالنجاسة، لا أنّ المناط الثاني المؤمِّن والمعذِّر كما أفاد السيد الشهيد كما نقلنا عنه سابقًا، لأنّ مقتضى إطلاق هذه الروايات أنه حتّى لو لم يكن معذورًا، بأن كان جاهلًا مقصّرًا، لكن مع ذلك إذا لم يعلم بالنّجاسة حتّى فرغ من صلاته، فإنّ مقتضى إطلاق هذه النصوص صحّة صلاته. فليست العبرة في من صلّى في الثوب النجس أن يكون له مؤمِّن ومعذِّر في الصلاة فيه، بل المهمّ أنّه صلّى في الثوب النجس جهلًا، ولو كان جهله عن تقصير، فإنّ مقتضى إطلاق هذه النصوص صحّة صلاته، لأنّه لم يعلم بالنّجاسة حتّى فرغ من الصلاة، وإن كان جهله عن تقصير. فالمصحّح للصلاة إمّا أن يصلّي في ثوب طاهرٍ واقعًا، أو لم يعلم بالنّجاسة حتّى فرغ من صلاته.

التنبيه الثالث: ذكرنا في ما سبق أنّه إذا شكّ في أنّ الطهارة شرطٌ أو النجاسة مانعٌ، فإنّ هذا المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، حيث إنّه لا يدري هل يتعيّن عليه الصلاة في غير الثوب المشكوك، أو هو مخيّرٌ بين أن يصلّي في الثوب المشكوك أو غيره، ومقتضى البراءة عن التعيين أنّ له أن يصلّي في الثوب المشكوك، لكنّ الشيخ حسن الهدى أورد إشكالًا على ذلك بأنّ المقام ليس من موارد الشكّ في التعيين الشرعيّ، لأنّه على فرض أنّ الطهارة شرطٌ، فيتعيّن الصلاة في الثوب المحرَز الطهارة عقلًا لا شرعًا، أي أنّ مقتضى الشرطيّة أن يحرز كونَ الثوب طاهرًا، فتعيُّن الصلاة في الثوب المحرَز طهارةٌ من حكم العقل لا من حكم الشرع. وإن كانت النجاسة مانعًا وليس شرطًا، صحّ له الصلاة في الثوب المشكوك بجراء البراءة عن المانعيّة، فليس من دوران الأمر بين التعيين الشرعيّ والتخيير حتى تجري البراءة عن التعيين، فالصحيح أن يُقال بأنّه يُجري البراءة عن كليهما، أي أنّ المورد أصلًا من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فغاية ما يعلم أنّ الصلاة في النجاسة المعلومة مضرٌّ بصحّة الصلاة، أما هل أنّ الطهارة شرطٌ أو أنّ النجاسة مانعٌ؟ فمقتضى الشكّ في الخصوصيتين جريان البراءة عن كليهما، فيُجري البراءة عن شرطية الطهارة، ويجري البراءة عن مانعية النجاسة، وثمرة ذلك أنّه في الثوب المشكوك أن يصلّي فيه، لأنّه لم يحرز الشرطيّة ولا المانعيّة، وإنّما الذي أحرزه فساد الصلاة في الثوب المعلوم النجاسة، وما ليس كذلك فلم يحرز فساد الصلاة فيه، فيجري البراءة عن الشرطية والمانعيّة، وأثر ذلك جواز الصلاة في الثوب المشكوك.

والحمد لله رب العالمين