برنامج بيانات الثورة الحسينية - حديث الحسين مع عبد الله بن الزبير

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين

من جملة بيانات الإمام الحسين حديثه مع عبد الله بن الزبير الذي خاض حركة دموية ضد الدولة الأموية من داخل البيت الحرام، ومن داخل مكة المكرمة، فأراد الحسين أن ينبه الأمة على خطر هذه الحركة، وإن كانت حركة معارضة للدولة الظالمة، دولة بني أمية، إلا أنها حركة خطيرةٌ في الأمة، لا بد من بيان أخطارها ومفاسدها. الحسين عند حديثه حول هذه الحركة تحدّث في عدة مقاطع:

المقطع الأول: بيان حركة الكعبة المشرفة.

حيث قال: ”إن أبي حدثني أن بمكة كبشًا - ويقصد عبد الله بن الزبير - به تستحل حرمتها، فما أحب أن أكون ذلك الكبش، ولأن أقتل خارجًا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل فيها“. الكعبة المشرفة ذات الحرمة المعظّمة، هذه الحرمة لها ناحية جيولوجية، ولها ناحية غيبية، ولها ناحية تشريعية.

أما الناحية الجيولوجية: فالقرآن الكريم والأحاديث الشريفة ذكرت أن الأرض دُحِيَت من تحت الكعبة المشرفة، الكعبة هي نقطة بدء الأرض، دُحِيَت الأرض من هذا الجرم المسمى بالكعبة المشرفة، ولذلك يقول الجيولوجيون: أكثر منطقة حرارةً في باطن الأرض على الأرض كلها مكة المكرمة، هذه البقعة وهذه القطعة المباركة منها دُحِيَت الأرض، ومنها نُشِرَت الأرض، فهي مبدأ الأرض، ولذلك جعلها الله كعبةً وقِبَلةً لجميع من على الأرض؛ لتشكل نسب متساوية بين هذه المنطقة وهذه الكعبة المشرفة وبين جميع مناطق الأرض وأرجائها.

وأما من ناحية غيبية: فالأحاديث الشريفة التي تتحدث عن بيت الضراح، أي أن البيت الحرام من تخوم الأرض إلى عنان السماء، وهو موازٍ للبيت الضراح الموازي لعرش الله تبارك وتعالى، وأن الآلاف من الملائكة يسبحون في قدس هذا البيت، يعرجون وينزلون من بين الكعبة إلى العرش، خط نوري متواصل بالملائكة المقرّبين، وبالملائكة المسبّحين، وبالملائكة الروحانيين.

ومن الناحية التشريعية: جعل الله هذا البيت آمنًا، ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، شرّع الله الحرمة لهذه البقعة، فكل من دخلها فهو آمنٌ شرعًا، لا يجوز الاعتداء عليه، حتى لو كان ممن يجب قتله يُخْرَج من البيت الحرام ثم يقام عليه الحد، ولا يجوز إراقة دمه وهو في هذه البقعة المقدسة، حتى الطير، حتى الحيوان لا يجوز صيده وهو في هذه البقعة المسماة بالحرم، سواء كان الصائد محلًا أم محرمًا.

إذن، فللكعبة حرمة عظيمة، ومن عدة نواحٍ، ومن عدة آفاق، ومن عدة اتجاهات، لأجل ذلك أي شخص يقوم بمواجهة عسكرية أو قتال في هذا الحرم الشريف، أو يعرّض نفسه أو غيره لإراقة الدم، فهو ينتهك حرمات ثلاثًا: ينتهك القانون الإلهي المغلظ الشديد، الذي نهى عن أي إراقة دم في هذه القطعة المباركة، والحرمة الثانية: حرمة هذا المكان المقدس الذي يمتد من تخوم الأرض إلى عنان السماء، الذي تزدحم عليه الملائكة المقربون والمسبّحون الروحانيون، والحرمة الثالثة: حرمة دماء المسلمين؛ فإن في ذلك تعريضًا لدماء المسلمين من حجيج بيت الله وضيوف الله «تبارك وتعالى» للتلف والزوال.

إذن، الحركة التي تنطلق من البيت الحرام حركةٌ خطيرةٌ؛ لأن فيها انتهاكًا لحرمات الله، كما شرحنا ذلك. لذلك، قال الحسين : أنا إنسان مجاهد، لكن جهادي ليس على حساب حرمة الكعبة، وليس على حساب حرمات الله، كما صنع عبد الله بن الزبير، وإنما جهادي جهاد طاهر نزيه عن أي انتهاك لحرمة مقدسة، وعن أي انتهاك لمقام مقدس ولمقام معظم، ”ولئن أقتل خارج منها بشبر أحب إلي من أن أقتل فيها“.

المقطع الثاني: مقارنة الحركة الحسينية بحركة ابن الزبير.

تحدث الحسين عن المقارنة بينه وبين حركة ابن الزبير، بينه وبين قيادة ابن الزبير، وليس في هذا تعريضٌ بالآخرين، وإنما هو تنبيهٌ للأمة على أن تسلّم مصيرها وقيادتها لمن ليس أهلًا وكفئًا لقيادتها، فقال : ”إن هذا ليس شيءٌ من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي، فود أني خرجت حتى يخلو“.

الحسين يريد هنا أن يفرّق بين العظمة الذاتية والعظمة الغيرية، العظمة الغيرية هي العظمة التي يكتسبها الإنسان من العوامل الخارجية، هناك إنسان يكتسب عظمته من نسبه، دائمًا يفتخر أنني ابن فلان، ومن العائلة العلمية العريقة، ومن العائلة الوجيهة المعروفة، فيحاول أن يجعل نفسه عظيمًا من خلال عرقه ونسبه، وهذه العظمة عظمة زائفة زائلة.

وهناك من يكتسب عظمته من وطنه، فيقول: أنا ابن النجف، أنا ابن كربلاء، أنا ابن مكة، أنا ابن المدينة، فيكتسب عظمته من خلال البقعة التي نما ونشأ فيها، وهذه أيضًا عظمة زائفة وزائلة، وهناك من يكتسب عظمته من الزمن، يحيي زمنًا معينًا ليكتسب عظمته من هذا الزمن، بينما هناك عظمة ذاتية ناشئة ونابعة من الكفاءة الذاتية. عندما يكون الشخص مجمعًا للفضائل والمناقب، عندما يكون الشخص منبعًا للإرادة الحازمة والصمود المتحدّي، حينئذ تنبع عظمته من ذاته.

لذلك يقول الحسين: أنا عظيم بذاتي، لا أحتاج إلى أن أتحرك من داخل البيت المقدس، أنا عظيم بذاتي وحركتي عظيمة، حركتي لا تكتسب عظمتها من انطلاقها من البيت الحرام، وإنما تكتسب عظمتها من عظمة أهدافها، ومن عظمة قائدها، ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي“، فعظمة حركتي من عظمة قائدها، ومن عظمة أهدافها، فعظمتها ذاتية وليست عظمة غيرية مستقاة أو مكتسبة من خلال الالتجاء والاحتماء إلى البيت الحرام، كما صنع عبد الله بن الزبير.

وهذا ما أكّده القرآن الكريم في قوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، جلس العباس بن عبد المطلب وابن أبي شيبة والإمام علي ، فقال العباس: بيدي سقاية الحاج ومن مثلي؟! وقال ابن شيبة: بيدي مفاتيح الكعبة فمن مثلي؟! فقال عليٌ : ”والله ما أدري ما تقولان، وأنا أول من آمن بالله، وهاجر مع رسول الله، وجاهد في سبيل الله“، فنزلت الآية المباركة. إذن، عظمة علي من خلال كفاءته وإيمانه وفضائله ومناقبه، فهي عظمة ذاتية، وليست عظمة مكتسبة من عمل أو مكان أو نسب أو جهة، ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.

المقطع الثالث: حقيقة ثورته المباركة.

عندما قال: ”وايم الله لو كنت في ثقب هامة من هذه الهوام، لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم“، الحسين خاض ثورةً في عدة مراحل:

المرحلة الأولى: رفض البيعة.

المرحلة الأولى من الثورة مرحلة حفظ منصب الإمامة من الإذلال، عندما رفض بيعة يزيد، هذا الرفض كان أول مرحلة من مراحل الحركة، ”إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الملائكة، ويزيد رجل فاسق، شارب للخمور، قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله“، ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون“، فحفظ منصب الإمامة عن الإذلال برفض بيعة يزيد بن معاوية كان أول مرحلة من مراحل الثورة.

المرحلة الثانية: مرحلة القتل المحتم.

هناك كثير من الأقلام اعتبرت الحسين إنسانًا منتحرًا؛ لأنه قدّم نفسه للموت بشكل واضح، هو يعلم أنه لا يمتلك جيشًا يكافئ الجيش الأموي، ومع ذلك خاض الحركة، فهو أقدم على الانتحار والموت، أراد الحسين في هذا المقطع أن يفنّد هذه الشبهة، وأن يدحض هذه الفكرة، وأن يقول: أنا لم أقدم على القتل، أنا مقتول على كل حال، القتل محتّمٌ بالنسبة إلي، قارعت يزيد أو لم أقارع، قاتلته أو لم أقاتله، القتل ليس خيارًا لي، وإنما هو فرضٌ عليَّ.

وهذا أمر لم يتعرض له أحدٌ من الأئمة الطاهرين، لا قبل الحسين ولا بعد الحسين، الحسين تعرض لأمر لم يتعرض له أحد من الأئمة، ولذلك اختلف موقفه عن موقف الأئمة الطاهرين، الحسين حُصِر في زاوية، وحُكِم عليه بالقتل شاء أم أبى، سيُقْتَل إما في المدينة أو في الحجاز أو في العراق أو في اليمن أو أي مكان آخر، إنه سيقتل، ”وايم الله لو كنت في ثقب هامة من هذه الهوام، لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم“، إذن أنا لم أقدم على القتل، ولم أقدم على الموت، لأن الموت فرضٌ عليَّ وليس خيارًا لي، فهذه المرحلة من مراحل الثورة هي مرحلة حتمية، وليست مرحلة خيارية.

المرحلة الثالثة: مرحلة الاختيار.

أنا اخترت زمان قتلي ومكان قتلي، أما قتلي فليس بيدي، قتلي فرض علي، أنا الذي اخترت زمانه، اخترت أن يكون زمان قتلي يوم العاشر لأنه يوم انتهاك حرمات الله، يوم زُجَّ فيه إبراهيم في نار نمرود، يوم قُتِل فيه يحيى بن زكريا، فأحببت أن يكون يوم قتلي يومًا هو يوم مظلوميات الأنبياء، ويوم الاعتداء على الأنبياء، وأنا اخترت المكان، وهو كربلاء؛ لكي تكون قبلةً للثائرين، ولأنها مهد التشيع إلى يوم ظهور الإمام المهدي «عجل الله فرجه»، فاختيار الزمان والمكان مني، ولكن القتل فُرِض عليَّ، وليس خيارًا مني.

المقطع الرابع: الحديث عن الجريمة الأموية البشعة.

التي تحدث عنها الحسين في قوله: ”والله ليعتدن عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت“، جريمة اليهود يوم السبت تحدث عنها التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، جريمة ليس مثلها جريمة، القرآن الكريم قال عنها: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، جريمة يوم السبت كانت إبادة لمجموعة من الأنبياء والمؤمنين الطاهرين والأنفس البريئة، لذلك قال القرآن: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ، استحقوا اللعنة الأبدية لأنهم ارتكبوا جريمة ومجزرة لا تُغْفَر.

لذلك الحسين قال: ”سيعتدى عليَّ كما اعتدى اليهود يوم السبت“، ستكون جريمة قتلي كجريمة قتل الأنبياء وإراقة النفوس البريئة يوم السبات، وستحل اللعنة على قاتلي كما حلت اللعنة على اليهود الذين ارتكبوا جريمة يوم السبت، يوم عاشوراء مظهرٌ آخر ليوم السبت، واللعنة على القاتلين يوم عاشوراء هي اللعنة على المجرمين يوم السبت، فأراد الحسين أن يربط مظلوميته بمظلومية الأنبياء الذين أزهقت أرواحهم، أن يربط جريمة قتله بتلك الجرائم البشعة؛ ليبيّن للأمة أنه وارث الأنبياء والمرسلين في علمهم وقيادتهم، بل وحتى في مظلوميتهم، فتاريخه امتدادٌ لتاريخهم.