برنامج بيانات الثورة الحسينية - كتاب الإمام الحسين إلى أهل البصرة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين

من البيانات الحسينية العظيمة التي سبقت ثورة الحسين : هذا البيان الذي قاله عندما بعث إلى رؤساء أهل البصرة، وهذا البيان يتألف من عدة مقاطع:

المقطع الأول: خصائص شخصية النبي.

هو المقطع الذي يتحدث عن خصائص مقام النبوة والرسالة للنبي محمد ، حيث قال فيه: ”إن الله اصطفى محمدًا من خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرْسِل به“، تعرض الإمام هنا لعدة خصائص في شخصية النبي محمد .

السمة الأولى: الاصطفاء.

الاصطفاء هو عبارة عن العصمة، ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، اصطفاء الإنسان بمعنى تطهيره من الرجس، وجعله وعاءً للإيمان علمًا وعملًا. والسمة الثانية هي سمة الإكرام بالنبوة، ”وأكرمه بنبوته“، بمعنى أنه لما عصمه وجعله طاهرًا من الرجس، أصبح معدًا وأهلًا لأن يفاض عليه الوحي، ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا.

السمة الثانية: الإكرام بالنبوة.

كون الشخص محلًا للوحي هو عبارة عن الإكرام بالنبوة، أكرمه بنبوته بأن جعله وعاء ومحلًا لإفاضة الوحي والكلام القدسي عليه، وهذه سمة أخرى تترتب على السمة الأولى من سمات النبوة وخصائص الرسالة.

السمة الثالثة: ”واختاره لرسالته“.

قد يكون الإنسان أهلًا للعصمة، وهي السمة الأولى، وأهلًا لأن يفاض عليه الوحي، وهو السمة الثانية، لكنه لكي يبلغ درجة الرسالة يحتاج إلى كفاءة وأهلية ثالثة، كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق : ”إن الله اختار إبراهيم عبدًا قبل أن يتخذه نبيًا، واتخذه نبيًا قبل أن يتخذه رسولًا“، فمقام الرسالة يحتاج إلى أهلية أخرى، يحتاج إلى نفس تمتلك الصمود والصبر والإرادة في سبيل خوض غمار إنقاذ الأمة والارتفاع بالأمة من حضيض الجهالة إلى الازدهار العلمي والعملي، وهذه الروحية من الصمود والصبر هي كفاءة ثالثة، مضافًا إلى الكفاءتين الأوليَيْن اللتين وهبهما الله للنبي محمد ، ”واختاره لرسالته“ لعلمه بأنه أكثر الناس صبرًا وصمودًا وقوةً وإرادةً، وهو الذي قال : ”ما أوذي نبيٌ مثلما أوذيت“، ”والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه“.

السمة الرابعة: ”وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرْسِل به من ربه“.

النبي تمتّع بصفةٍ ليست لدى المبلّغين، ولا لدى الواعظين، ولا لدى المرشدين، ولا لدى أحدٍ ممن كان قبله، تمتع بأنه كان يبلّغ الرسالة عن حب. هناك من يبلّغ الرسالة بملاك أنها وظيفة، هناك من يبلّغ الناس الرسالة والعلم والحكمة لأنه يعتبر تبليغ الرسالة وظيفةً ومسؤوليةً وواجبًا في عنقه، فهو يؤديها بمقدار ما يسقط المسؤولية عن رقبته وعاتقه، لكن هناك من يبلّغ الرسالة بدافع الحب، وبدافع الإخلاص، لأنه يحب الأمة ينصح الأمة، لأنه يحب الأمة يخلص للأمة، ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

النبي تمتع بصفة الفاعلية في تبليغ الرسالة؛ لأن تبليغه كان عن حب وعن نصح وعن إخلاص، لذلك لم يتوانَ في سبيل تبليغ الرسالة، وفي سبيل حفظ الأمة. هذا هو المقطع الأول، وقد ذكره الإمام تمهيدًا للمقطع الذي بعده، بما أن النبي يمتلك هذه الخصائص كلها، فمن هو وريثه في هذه الخصائص، ومن هو امتداده في هذه السمات؟ هنا أتي المقطع الثاني.

المقطع الثاني: الكفاءة الحسينية.

يتحدث فيه عن الكفاءة الحسينية، والكفاءة القيادية لدى أهل البيت، لأن يكونوا امتدادًا للنبي الأعظم ، فذكر عدة خصائص لعلاقة أهل البيت بالرسالة، ”وكنا أهله وأولياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس“، هناك أيضًا سمات أربع نحن نتمتع بها في علاقتنا بالرسالة:

السمة الأولى: نحن أهله.

نحن أهل النبي لا لأنه شخص اسمه محمد بن عبد الله، ليس المنظور الأهلية النسبية، وإنما المنظور الأهلية الروحية، نحن أهله بما هو نبي، نحن أهله بما هو رسول، ولسنا أهله بما هو شخص اسمه محمد بن عبد الله، نحن الذين كنا نحف به والوحي ينزل عليه، فأسماعنا أول أسماع قرعها الوحي، وأبصارنا أول أبصار رأت نور الوحي، كما كان يقول الإمام علي : ”ولم يجمع بيتٌ في الإسلام يومئذ غير ثلاثة: رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي، وأشم ريح النبوة“. إذن، نحن أهله بمعنى أننا الحافون به عند نزول الوحي عليه، فأسماعنا وأبصارنا تفاعلت مع نور الوحي عند نزوله عليه، فنحن خطونا المرحلة الأولى لتلقي الوحي، قبل أي أحد من الأمة الإسلامية.

السمة الثانية: ”وأولياءه“.

أولياؤه بمعنى أنهم هم الذين عني بهم وخص علمه بهم، أهل البيت أدرى بما فيه، نحن الذين خصنا بعنايته ، وأغدق علينا العلم والوحي، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”وكان يرفع لي كل يوم علمًا من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به، وما وجد لي كذبة في قول، وخطلة في فعل“، فنحن أولياؤه، أي الذين حظوا بعنايته وتربيته وتغذيته دون غيرهم من أبناء الأمة الإسلامية، وهذه السمة الثانية التي تجعلنا أهلًا لقيادة الأمة.

السمة الثالثة: وورثته.

نحن ورثته ولسنا ورثة أمواله، ولسنا ورثة داره، ولسنا ورثة أملاكه، نحن ورثته بمعنى ورثة علمه، ”السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، ووارث نوح نبي الله، ووارث إبراهيم خليل الله“، نحن ورثنا العلم والمعرفة منه، مصحف فاطمة الذي كان تفسيرًا للقرآن الكريم بكل آية آية - وفيه تبيان كل شيء - بيدنا، فنحن ورثة علمه، الجامعة التي يقول عنها الإمام الصادق : ”وإن عندنا الجامعة، بخط علي، وإملاء رسول الله ، وفيها ما يحتاجه الناس من حلال وحرام، حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة“، الجامعة عندنا، المصحف عندنا، علوم التنزيل والتأويل وبطون القرآن عندنا، فنحن ورثة علمه، وهذه السمة الثالثة التي نمتلكها.

السمة الرابعة: وأحق الناس بمقامه في الناس.

إشارة إلى أن الإمامة منصبٌ مجعولٌ من قبل الله، أي أن النبي لم يكن له خيار بأن يجعلنا أو لا يجعلنا، نحن أحق الناس بمقامه في الناس لأن الله جعلنا كذلك، لذلك قال النبي : ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، مع إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“، ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ، إذن هذه السمات هي مراحل علاقة الأئمة بالرسالة والبنوة، وهي التي جعلتهم أهلًا وكفئًا لقيادة الأمة الإسلامية بعد النبي .

المقطع الثالث: خطة أبيه وأخيه.

وتعرض في المقطع الثالث إلى الخطة الاستراتيجية التي سار عليها أمير المؤمنين وابنه الحسن وعشر سنوات من عصر الحسين ، ألا وهي خطة رعاية أولويات الأمة، والأهداف العليا للأمة، فقال: ”فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا، وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولّاه“، إذن الأمة الإسلامية لها حقان: الحق الأول أن تكون لها قيادة رشيدة، حقها في القيادة الرشيدة، وهذا الحق هو الذي أبلغه رسول الله للأمة، قال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ”فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله“.

والحق الآخر للأمة هو وحدة الكلمة، والأمان من الحروب وإراقة الدماء، فهناك حقان للأمة، وقد دار التزاحم بين هذين الحقين، بمعنى أنه لا يمكن توفير كلا الحقين للأمة بعد موت رسول الله ، فإما أن تعطى حقها في القيادة الرشيدة، وذلك يكلّفها الدماء، ويكلّفها الحروب، ويكلّفها الفرقة وبعثرة الصف الإسلامي؛ لأن الأمة ما كانت متحدةً في إرادة القيادة الرشيدة المتمثلة في الإمام أمير المؤمنين ، وهناك حق آخر على حساب هذا الحق، أن يوفّر للأمة وحدة الكلمة، ووحدة الصف، وأن تُحْفَظ من الفرقة والحروب والتنازع، فقدّم الإمام علي بخطته الاستراتيجية حق الأمة في الوحدة والأمان على حقها في تحصيل القيادة الرشيدة، فقال: ”والله لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جورٌ إلا عليَّ خاصة“، وعاش ناصحًا مستشارًا مخلصًا في ذلك الوقت لكيان الأمة الإسلامية.

إذن، الخطة التي سار عليها عليٌ، والحسن، والحسين في عشر سنوات من عهده، هي خطة التزاحم بين حق الأمة في القيادة الرشيدة وبين حق الأمة في الأمن ووحدة الكلمة، وأنهم قدّموا الحق الثاني على الحق الأول، هذه الخطة الاستراتيجية وصلت النوبة إلى عدم جدواها الآن بعد تكفل وتصدي يزيد بن معاوية لقيادة الأمة، وهذا ما تحدث عنه الإمام في المقطع الرابع.

المقطع الرابع: تغيير الخطة.

قال: ”وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله، وسنة نبيه؛ فإن السنة قد أميتت، والبدعة قد أحييت، فإن تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد“، وصلت النوبة إلى موت السنة، وإلى حياة البدعة، فلا مجال حينئذ إلى أن نسير على الخطة السابقة، والوجه في ذلك أن المشكلة كانت في زمان الإمام أمير المؤمنين وزمان الحسن، كانت المشكلة في شخص القائد، وأن شخص القائد ليس أهلًا وكفئًا لقيادة الأمة، لكن المشكلة الآن أكبر من شخص القائد، المشكلة الآن في القيادة نفسها، إن القيادة الآن قيادةٌ للأمة نحو الضلال، قيادةٌ للأمة نحو الدمار، لأجل ذلك لما كبرت المشكلة تغيرت الخطة، وصارت المواجهة لهذه القيادة أمرًا لازمًا، ولذلك قال الحسين : ”ألا ترون إلى الحق لا يُعْمَل به، وإلى الباطل لا يُتَنَاهَى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربه، ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برمًا“.

السنة قد أميتت لأن بدعة التوريث في الحكم والخلافة ترسخت منذ أيام معاوية إلى أيام يزيد بن معاوية، وهذه بدعت قد أحييت، وهي بدعة التوريث، بالإضافة إلى أن هذه القيادة استفحل أمرها، نشرت المجون ومجالس الفسوق والدعارة في الحجاز، وهما قبلتا المسلمين، ونشرت الظلم في جميع أرجاء الأمة الإسلامية، كما ذكر الإمام الباقر : ”فقد كان شيعة علي بن أبي طالب لا يأمنون على أنفسهم، حيث إن بني أمية هدموا دورهم، واستباحوا أموالهم، وقتلوا رجالهم، واستضعفوهم، وقطعوا أرزاقهم، وشرّدوهم في كل مكان“، فتعرضت الأمة الإسلامية، وخصوصًا شيعة علي بن أبي طالب، إلى ألوان من الظلم والعذاب.

ولأجل ذلك نقول: المشكلة الآن في القيادة، وهي قيادة الأمة للظلم والجور، وهي قيادة الأمة نحو نشر المجون والفسوق، ومجالس الرقص والدعارة، وهي قيادة الأمة نحو التزوير والبهتان، لأجل ذلك كان اللازم هو البدء بمسيرة الإصلاح، ”وإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بالحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ على هذا فالله يحكم بيني وبين القوم بالحق؛ إنه خير الحاكمين“.