العلمانية والدين 1

تحرير المحاضرات

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. أعزائي المشاهدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ألتقيكم مجددًا في حلقة جديدة من برنامج أفكار وحوار. موضوع حلقة هذا اليوم هو: العلمانية والدين، برفقة سماحة السيد منير الخباز، الأستاذ في الحوزة العلمية. الِعلمانية بالكسر نسبة إلى العلم، أو العَلمانية نسبة إلى العالم، مذهبٌ فكريٌ وسياسيٌ رفع شعار حاكمية العلم لمواجهة حاكمية الأديان عمومًا والكنيسة خصوصًا، وقد حاول هذا المذهب الفكري الذي تحول فيما بعد إلى مذهب سياسي محض، أن يدفع عجلة التطور من خلال العلم والتجربة، فازدهرت المدنية والتقنيات، ولكنه كان على حساب المعطى الحضاري، حيث لم تعد القيم الإنسانية هي الحاكمة بقدر ما لحب التسلط والنفوذ من حاكمية في رسم السياسات الدولية. هل للعلمانية مقومات النجاح في الوسط الإسلامي؟ ما هي حدود تعاطيهم مع الدين الإسلامي بعد فشل محاولة إقصائه؟ وأخيرًا: ما هو مستقبل العلمانية في وسطنا الإسلامي؟ محطات نحاول الوقوف عندها، ولكن بعد أن نتابع هذا التقرير.

التقرير: بعد أن عاشت أوروبا عقودًا طويلةً مظلمةً تحت حاكمية الكنيسة وسطوتها، انتفضت على واقعها المرير، وقد كانت الولادة عسيرة جدًا نتيجة ثقل الحس الكهنوتي الذي تربوا عليه، وبعد تجارب عديدة قفز في الأفق الأوروبي تحديدًا طرحٌ فكريٌ حاول أن يعالج مشاكل المجتمع الأوروبي، التي كانت تعود إلى عدة أسباب، أبرزها هو إغلاق أو تضييق دوائر العلم واكتشافاته إلا بما يوافق معطيات الكنيسة آنذاك، وهي قليلة جدًا. وهكذا ظهرت العلمانية في الوسط الأوروبي، منتسبة إلى العلم في قبال ما كان يحكم ذلك الأفق من أساطير وخرافات عطّلت الحياة والحركة الدؤوبة في أوروبا قرونًا طويلة، وقد حاولت العلمانية أن تقفز بجميع أبعادها إلى مجتمعات أخرى؛ ظنًا من روادها بتأمين نجاح التجربة مقايسةً بالمجتمع الأوروبي، فلم يلتفت العلمانيون إلى أهمية الواقع الذي نجحوا فيه، فكان تعميم التجربة على المجتمعات الأخرى التي تمتلك رصيدًا ماديًا ومعنويًا، وعمقًا حضاريًا، وبعدًا رساليًا، من الأخطاء الفاحشة التي دعت العلمانيين إلى أن يعودوا حساباتِهم كثيرًا، والأخذ بالاعتبار الواقع الذي يراد العمل فيه والنظر في خصوصياته، فصار ما انتهوا إليه هجينًا ليست له ملامح واضحة.

المقدم: سادتي المشاهدين، مرة أخرى أهلًا ومرحبًا بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامج أفكار وحوار، رحبوا معي بضيف الحلقة الأستاذ في الحوزة العلمية السيد منير الخباز. قبل البدء بجذر العلمانية وأصل العلمانية، بالتأكيد أي مفهوم أو أي مبدأ قبل الحديث عنه أو قبل تعريفه، لا بد أن نطرح جذره وأصله، والمناخ التأريخي والجغرافي الذي سبق ظهور هذا المبدأ، والعلمانية بالتأكيد من أحد المبادئ والأفكار التي هزّت مسلماتٍ لدى العالم، نريد أن نعرف: هل هناك أصل انطلق منه مفهوم العلمانية كاصطلاح جديد؟

سماحة السيد: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. في ظل سيطرة الكنيسة على جميع مرافق الحياة في العالم الأوروبي، وخصوصًا في فرنسا، وتدخل الكنيسة في تحليل الكون وفلسفة الحياة، ووضع مقاييس كنسية ولاهوتية بحتة ومحضة لتفسير كثير من الظواهر التجريبية والمادية، هنا نشأت تيارات مناهضة لسيطرة الكنيسة وتدخلها الواضح في تمام شؤون الحياة، وهذه التيارات كانت تنادي بأنَّ التحليل والفلسفة ووضع الأطر والموازين كله لا بد أن يرجع إلى أسس علمية، ولا بد أن يعتمد على منطق العلم وحاكمية العلم، خصوصًا العلم التجريبي المستند إلى التجربة في إصدار القاعدة وتبني الحقيقة.

من هنا نقول بأنَّ العِلمانية - لا العَلمانية - هي التيارات أو الاتجاهات التي نشأت بمنطق تبني العلم أساسًا في كل فلسفة وفي كل تحليل وفي أي قاعدة تعطى لأي ظاهرة مادية أو اجتماعية، فالعلمانية مأخوذةٌ من العلم لا من العالم، هي بالكسر وليست بالفتح، العلمانية هذا هو مبدأ ظهورها في مواجهة الكنيسة، وهذا المبدأ الذي توسّعت فيه في فلسفة متكاملة.

المقدم: بعد أن كانت العلمانية ردود فعل على فعل الكنيسة وتسلطها، البعض يقول أن العلمانية هي لادينية، فالعلماني هو لاديني، مقابل الكهنوت، ومقابل الروح، ماذا تقرأ هذا التعريف؟

سماحة السيد: هذا ليس تعريفًا صحيحًا، حتى كاصطلاح، العلماني قد يكون إنسانًا متدينًا، قد يكون إنسانًا مؤمنًا معترفًا بسائر العقائد الدينية، إنما العلماني له اتجاه في مجال معين من مجالات الحياة يختلف فيه مع الرؤية الدينية السائدة، وإلا فقد يكون متدينًا، وقد يكون مؤمنًا بالدين، وقد يكون ممارسًا للطقوس الدينية. إذا أردتم أن نتعرض إلى مصطلحات العلمانية حتى نقف على مدى اجتماعها والتقائها مع الدين أو عدم التقائها.

المقدم: إذا كان التعريف الذي تفضلتم به أو التوضيح للعلمانية هي استخدام العلم في المجالات الحياتية، ولكن حينما نقرأ عن العلمانية نجد هناك تعاريف كثيرة، ومصطلحات كثيرة، والرؤى تختلف بحيث المثقف يتيه، والقارئ يتيه في ظل تلك التعاريف والمعاني، فهل يمكن إعطاء تعريف دقيق ومحدد للعلمانية في ظل الاختلاف الواسع لهذا الاصطلاح؟

سماحة السيد: العلمانية لها مصطلحات ثلاثة:

المصطلح الأول: أن المراد بالعلمانية الاتجاه الذي يتبني المنطق التجريبي في مقابل المنطق الغيبي. العلمانيون في بداية نُشْئِهم وتكوّنهم، وتحولوا بعد ذلك إلى فلسفة، يؤمنون بأنه ينبغي تحليل الظواهر الاجتماعية على أساس علمي تجريبي، مثلًا: نحن عندما نناقش ظاهرة الانتحار، نناقش ظاهرة البطالة، نناقش ظاهرة الفراغ، أي ظاهرة من الظواهر الاجتماعية ينبغي أن نحللها على ضوء أسس تجريبية، وليس على أسس غيبية خارجة عن إطار الحس والتجربة، هذا مصطلح للعلمانية، وقد تكون العلمانية بدأت بهذا المصطلح.

المصطلح الآخر: أن المراد بالعلمانية هي مبدأ النسبية، العلماني هو الذي لا يرى الحقيقة المطلقة، العلماني يقول بأنَّ الكنيسة أو الدين الكنهوتي في تلك الفترة، الدين يرى الحقيقة المطلقة، يرى أن فكره ويرى أن فلسفته ورؤيته هي الحقيقة المطلقة، ومن رأى الحقيقة المطلقة قدّسها، ومن قدّسها ألغى الآخر، فالعلماني يرى أن الدين إذا تبنى رؤية الحقيقة المطلقة، وقدّس فكره، ألغى الفكر الآخر، وبالتالي منشأ الحروب، ومنشأ التشنجات والاحتقانات الإنسانية في تمام أطراف العالم، منشؤها هو الإصرار على الحقيقة المطلقة، أما إذا قلنا بمبدأ النسبية، وأنه من الممكن أن تكون هناك اتجاهات مختلفة، وأن تكون هناك فلسفات مختلفة، وأن الاختلاف بين الفلسفات يثريها ويوجب تكاملها، إذا قلنا بمبدأ النسبية فحينئذ سوف نصل إلى حالة السلام، والتعايش السلمي، وتقبّل كل فئة وكل تيار للاتجاه الآخر وللتيار الآخر، هذا مصطلح آخر للعلمانية يقوم على مبدأ النسبية.

المصطلح الثالث: أن العلمانية تقول بأن الدين شيء، وإدارة الحياة الاجتماعية شيء آخر، الدين يقتصر على علاقة الإنسان بربه، ويقتصر على القيم الخلقية والإنسانية التي يمارسها الإنسان في حياته، ولا دخل للدين في إدارة الشؤون الاجتماعية، ولا دخل للدين في إدارة الأمور السياسية، وبعبارة واضحة: فصل الدين عن الدولة وقصر الدين على مجالات خاصة، هذا المصطلح المعروف للعلمانية، المصطلحان الأولان كانا مصطلحين للعلمانية في بداية نشئها وتكونها، أما المصطلح السائد الآن للعلمانية فهو فصل الدين عن الدولة، ينبغي أن تكون الدولة دولة علمانية.

العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة رؤية غير دينية، رؤية تتعارض مع الرؤية الدينية في أنَّ الدين له شمولية في سائر تفاصيل الحياة، لكن العلماني نفسه الذي قد يتبنى هذه الفكرة قد يتبناها بمنشأ عدم قدرة تطبيق الدين على الحياة، لا لأنه لا يرى شمولية الدين، قد يكون العلماني إنسانًا متدينًا، ويرى أن الدين رؤية شمولية تستوعب جميع تفاصيل الحياة، لكن لأنه لا يمكن تطبيقها في ظروف معينة، وفي مناطق معينة، يرى ضرورة فصل الدين عن الدولة، فالرؤية لا لأجل عدم اعتقاده بشمولية الدين، بل لأجل تشخيصه عدم القدرة على تطبيق ذلك.

المقدم: البعض عرّف العلمانية بأنها فصل القيم الدينية والسياسية والاجتماعية عن الحياة، كيف تقرأ هذا التعريف؟

سماحة السيد: هذا ليس تعريفًا صحيحًا؛ لأن العلماني لا يتعرض لمسألة القيم حتى يقال بأنه يرى فصل القيم عن الحياة، العلماني يقول: الدين عبادةٌ وقيمٌ خلقيةٌ وإنسانيةٌ، وأما هذا النظام وهذا الجهاز الإداري الذي يدير شؤون الدولة والمجتمع، ويحاول تنظيم الحقوق، والفرز بينها، والتوفيق بين المصالح العامة والمصالح الخاصة، فهو بيد الفكر الوضعي الذي يقوم على أساس سلطة وولاية الشعب.

المقدم: طرحتم ثلاثة معانٍ للعلمانية، فهل يتبلور في ذهنكم معنى واضح أو جلي للعلمانية الثقافية الفكرية؟ هل ترجحون تعريفًا للعلمانية؟

سماحة السيد: العلمانية الفكرية هي العلمانية القائمة على مبدأ النسبية، والعلمانية السياسية هي العلمانية القائمة على فصل الدين عن الدولة.

المقدم: ولكن يشيع الآن في الكتب أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، وانتهى الموضوع، هكذا يقولون.

سماحة السيد: هذه هي العلمانية السياسية، أما العلمانية الفكرية فهي القائمة على مبدأ النسبية.

المقدم: الحداثة، العلمانية، ما بعد الحداثة، اصطلاحات تداولها المفكرون والسياسيون كثيرًا، ونحن لا نتحدث عن موضوع ما بعد الحداثة؛ لأنه ليس محل كلامنا، ولكن نريد أن نعرف التداخل بين الحداثة والعلمانية، ما هو وجه الفرق بينهما؟

الحداثة تختلف عن العلمانية. الحداثة في بداية تجذرها وتكوّنها هي عبارة عن تحديث الفكر الديني، بمعنى إيجاد التأقلم والتوافق بين الفكر الديني والظروف الحضارية المعاصرة، لذلك الحداثة اتجهت إلى ثلاث فلسفات:

الأولى: أن الحداثة عبارة عن تعدد القراءات للفكر الديني. الحداثيون يقولون بأنَّ الوحي الذي نزل على النبي كمعانٍ وكحقائق فكرية هو أمرٌ مقدسٌ، لكن المفروض أن هذا الوحي نزل في قوالب لغوية، ونزل عبر مادة لغوية، والمادة اللغوية - كاللغة العربية الموجودة في القرآن الكريم - هي عنصر بشري، وليست عنصرًا سماويًا، الوحي نفسه عنصر سماوي مقدس، لكن المادة التي صيغ بها الوحي هي مادة إنسانية، هي مادة لغوية، ولأجل أنها مادة لغوية، والمادة اللغوية مرنة، ومطاطة، وقابلة لاختلاف القراءات، واختلاف الإيحاءات، لذلك الدين لم يقصر البشرية على قراءة واحدة.

إذن، الفلسفة الأولى لتيار الحداثة هي تعدد القراءات، وتعدد القراءات يبتني على الفصل بين ما هو عنصر مقدس وما هو عنصر بشري، وأن العنصر المقدس هو الوحي كحقائق فكرية، وأما المادة اللغوية التي تسمى القرآن الآن أو تسمى السنة فهي عنصر بشري، وهذه المادة اللغوية بطبيعتها هي طبيعة مرنة مطاطة، تقبل الاتجاهات المختلفة، تقبل الأفكار المختلفة، القراءات المختلفة، وبالتالي قصر الدين والفكر الديني على قراءة واحدة - كالقراءة الفقهية الموجودة الآن في الحوزات العلمية - هذا القصر وهذا الاختصاص يتنافى مع طبيعة العنصر البشري في المادة اللغوية.

إذن، كلما تقدم الإنسان، واتسعت آفاق ثقافته، واتسعت الرؤية الحضارية للإنسان، اتسعت قراءته للأفكار، سواء كانت أفكارًا قديمة أو حديثة، اتسعت مدارك فهمه للنصوص التي هي بيده، وكيفية التعامل معها، لذلك ما دام الفكر الديني تحول إلى مادة ذات عنصر بشري، إذن فهو قابلٌ لتعدد القراءات المختلفة، هذه رؤية أولى للحداثة.

المصطلح الثاني لتيار الحداثة: تاريخية النص.

هم يقولون بأنَّ هذه النصوص، خصوصًا نصوص السنة، سواء السنة الصادرة عن النبي ، أو السنة الصادرة عن أبنائه المعصومين، أو عن الصحابة، هذه النصوص صدرت في ظروف اجتماعية معينة، وفي مستوى حضاري معين، وبالتالي فإن هذه النصوص حينما صدرت في ظروف معينة، وكانت من أجل تغيير تلك الظروف والنهوض بها، إذن فهي ناظرة لحقبة زمانية معينة، وناظرة لعلاج مستوى ثقافي معين، وبالتالي لا يجوز تعميم هذا النص وتمديده إلى التاريخ المعاصر. النصوص مثلًا التي تحدثت عن حقوق المرأة، أو النصوص التي تحدثت عن حقوق الحاكم والشعب، والنصوص التي تحدثت عن عالم التجارة، حرمة الربا، حلية البيع، وأمثال ذلك، تلك النصوص ناظرة لحقبة زمنية معينة، هذه رؤية أخرى للحداثة.

الرؤية الثالثة للحداثة: أن الحداثة تبتني على الثابت والمتغير.

أو ما يعبّر عنه السيد عبد الكريم سروش - المفكر الإيراني - تبتني على القبض والبسط في الفكر الديني، الفكر الديني يقبل القبض والبسط، يختزل الثابت والمتغير، هذه الفكرة تقوم على أساس أن هناك فرقًا بين الدين والفكر الديني، الدين حقائق وصلت إلى النبي ، أما الفكر الديني فهو القراءة التي قرأها الإنسان، سواء كان فقيهًا أو مفكرًا أو فيلسوفًا، قرأها للدين، هذا الفكر الديني الذي هو عبارة عن القراءة البشرية للدين يختزل ثابتًا ومتغيرًا، هذا الفكر الديني يختزل القبض والبسط.

كلما تطور الفكر الإنساني حدثت أدوات جديدة، وهذه الأدوات الجديدة على أساسها إما أن ينكمش الفكر الديني أو يتوسع، نتيجة لتغير الأدوات بين فترة وأخرى، فمثلًا: قبل ثلاث مئة سنة كان الفلاسفة يبنون على مبدأ أصالة الماهية، فكان الفكر الديني في العقائد وفي إثبات وجود الله وفي إثبات صفاته وفي إثبات النبوة وفي إثبات العصمة، كان يبتني على أداة معينة، وهي أصالة الماهية، جاء صدر المتألهين الشيرازي واخترع أداةً أخرى، وهي أصالة الوجود، تغير ذلك الأساس الذي قام عليه فكرٌ دينيٌ لحقبة زمنية طويلة. إذن، نتيجة تغير الأساس يتغير ما بُنِي عليه، نتيجة اختلاف الأداة تختلف القراءة الدينية ويختلف الفكر الديني، هذا ما يعبّر عنه بالقبض والبسط، واختزال الثابت والمتغير.

المقدم: على المعاني التي ذكرتموها، القبض أو البسط، الثابت والمتغير، أو التاريخية، أو موضوع تعدد القراءات، هذا ألا ينسجم مع مبدأ العلمانية؟ هذا أولًا، وبعضٌ يقول بأنَّ موضوع الحداثة ظهر مع العلمانية أصلًا، إلى جانب شعارات أخرى ومفاهيم أخرى، العدل، المساواة، وظهر مفهوم فصل الدين عن الدولة، النهضة، الإصلاح، إلى غير ذلك، فبالتالي الطرح الذي ذكرتموه لا ينسجم مع المعطى الذي ذكره فلاسفة آخرون، أصلًا بعضهم قال أن الحداثة أصل العلمانية، فكيف ترد؟

سماحة السيد: أنا أقول: هذا ليس صحيحًا، كون هذه الشعارات حدثت في ظروف متزامنة، وفي ظروف متقاربة، لا يعني أنها بمعنى واحد، أساسًا العلمانية في بداية تكوّنها قامت على إلغاء تدخل الدين في المجال السياسي، قامت على إلغاء مسألة الحقيقة المطلقة والرؤية المطلقة، كعلمانية فكرية، أما الحداثة فهي تريد أن تقبل الدين، لكن تريد أن تحدّث الدين، بمعنى أنها تريد إيجاد التأقلم بين الدين وبين الواقع المعاصر، هذا مبدأ نشْء الحداثة، نعم نحن نختلف مع الحداثيين، ونناقش أفكارهم، ولعله في حلقات أخرى، ولكن أريد أن أقول: هما اتجاهان مختلفان.

المقدم: الذي فسّر العلمانية عكس ما تقولون، أن العِلمانية هي ترجع إلى العلم، بعضهم يفسّر العَلمانية ترجع إلى العالم، وهو هنا يريد أن يقول أن العلمانية تنحصر بالعالم الحسي التجريبي، وليس لها علاقة بالماورائية والغيبية، فكيف تقرؤون التفسير الذي يقول أن الدين هو مثالي، هو إلهي، والعلمانية منهج واقعي يقرأ الدين قراءات مختلفة؟

سماحة السيد: نعم، هذا بحث طويل، هذه المقالة أو هذه الفكرة التي تفضلتم بطرحها نحن نحللها إلى شقين: الشق الأول: العِلمانية أو كما عبرتم بالعَلمانية، أنتم تقولون العَلمانية رجوعًا إلى العالم، والمقصود بالعالم عالم الحس، أنا أقول: العِلمانية راجعة إلى العلم، والمقصود بالعلم اعتماد المنطق العلمي التجريبي.

المقدم: عفوًا سماحة السيد، إذا تقولون: العِلمانية، البعض يقول: إذا قرأنا العلمانية بهذه الطريقة رجوعًا إلى العلم، فهذا لا يتناقض مع الدين، فلماذا أقمتم الدنيا ولم تقعودها؟! هم يقولون هكذا، المدافعون عن الدين هكذا يقولون: العِلمانية إذا كانت بالكسر فالعلمانية أصلًا جزء من الدين؛ لأن الدين يقف من العلم موقفًا حياديًا، وبالتالي العلمانية أصلًا لا يرد عليها أي إشكال، وإنما الخلاف في العَلمانية.

سماحة السيد: ليس النقاش طرحًا، هذا الطرح ليس صحيحًا؛ لأنه يحصر النقاش في اللفظ، ننطقها عَلمانية أو عِلمانية، وإذا نطقناها كذا قبلناها وإلا رفضناها! هذا الطرح لا معنى له، نحن نتكلم عن اتجاه فكري، عبّرنا عنه بهذا اللفظ أو بلفظ آخر، ليس النقاش نقاشًا لفظيًا. نحن نريد أن نقول بأنَّ الشق الأول من النظرية أو المقالة التي طرحتموها أن العلمانية تعتمد مبدأ الحس والتجربة، لا يمكننا تحديد الحقائق على أساس المنطق الأرسطي الذي هو المنطق المعتمد في الفلسفة الإسلامية، لا يمكننا اعتماد المنطق الأرسطي في الوصول إلى الحقائق وتحديدها تحديدًا دقيقًا، لا بد من اعتماد المنطق الحسي التجريبي، هذا طرحٌ.

نحن في مقابل هذا الطرح نقول: هناك مجالات حسية وتجريبية، وهناك مجالات عقلية محضة، في المجالات العقلية المحضة عندما نبحث عن الأفكار التجريدية المحضة، هل أن هناك خالقًا؟ هل لهذا الخالق صفات معينة؟ هل هناك شيء بعد الموت؟ هذه الأفكار لا مجال لإخضاعها للمنطق الحسي والتجربة، لا بد أن تعتمد على المنطق العقلي.

ثانيًا: لا يمكن الاستغناء عن المنطق الأرسطي العقلي في الوصول إلى الحقائق والاكتفاء بالمنطق الحسي والتجريبي، فمثلًا: نحن عندنا قاعدة حسية تجريبية، كل ماء بلغت درجة حرارته مئة فإنه يغلي، هذه القاعدة اعتمدت على مبدأ التجربة، لكن التجربة لم تستغرق كل مياه العالم، التجربة أقيمت مثلًا على مئة فرد من الماء، أو ألف فرد من الماء، تعميم هذه القاعدة لكل ماء يحتاج إلى المنطق الأرسطي، التجربة غاية ما تعطي قاعدة ضمن المصاديق وضمن الأفراد التي انتزعت منها، وأما تعميمها لكل فرد فهنا نحتاج إلى تدخل المنطق الأرسطي الذي يقول: حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحدٌ، إذن المنطق التجريبي مضافًا إلى أنه يختص بمناطق معينة، ولا يشمل جميع مناطق الفكر، لا يمكن الاستغناء به عن المنطق الأرسطي، وهو المنطق العقلي، هذا شقٌ من المقالة.

الشق الآخر من المقالة الذي يقول بأنَّ الدين منهج مثالي، بينما العلمانية منهج واقعي منسجم مع الحياة ومع واقع الحياة، نحن نقول بأنَّ هناك علاقات أربع للإنسان وُلِد عليها: علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقة الإنسان بما وراء الطبيعة، علاقة الإنسان بربه. الدين عالج هذه العلاقات الأربع، الفكر الديني عني بتنظيمها.

مثلًا: علاقة الإنسان بنفسه، هناك قيم إنسانية، وهناك قيم إدارية. القيم الإنسانية كقيمة العدالة، كقيمة الصدق، كقيمة الأمانة، هذه القيم عني الإسلام بتربية الإنسان عليها، وبتهذيب الإنسان نفسه على هذه القيم، وهذا ليس منهجًا مثاليًا، هذا منهج واقعي، تربية الإنسان على القيم الإنسانية، هذا ما نادى به الإسلام من أول يوم، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وهناك قيم إدارية طرحها علم الإدارة وطرحها علم النفس، قيمة روح المبادرة، قيمة تنظيم الأولويات في مجال العمل، قيمة استغلال الوقت، هذه القيم التي طرحها علم الإدارة طرحها الإسلام، كثير من النصوص الشرعية تتحدث عن روح المبادرة، كثير من النصوص الشرعية تتحدث عن قوة الإرادة، كثير من النصوص الشرعية تتحدث عن تنظيم أولويات الإنسان، واستغلال الفراغ، واستغلال الوقت.

إذن، هناك نظام قيمي في الإسلام، عني بتربية الإنسان على القيم الإنسانية والقيم الإدارية، وهذا منهج واقعي يحتاج إليه كل مجتمع وكل أمة وكل حضارة، وليس منهجًا مثاليًا كي يقال بأن الدين منهج مثالي. هذا بالنسبة لعلاقة الإنسان بنفسه.

علاقة الإنسان مع الطبيعة: أول نص ديني هو القرآن الذي بين أيدينا، وهناك عشرات الآيات التي تتحدث عن علاقة الإنسان بالطبيعة، ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، السلطان هو العلم. إذن، هناك آيات كثيرة تربي الإنسان على أن تكون علاقته مع الطبيعة علاقة استثمار، علاقة استعمار، علاقة استخراج الكنوز، علاقة بناء الحضارة. إذن، منهج الإسلام منهج حضاري؛ لأنه يدعو الإنسان إلى إقامة حضارة، لا حضارة أرضية، بل حضارة كونية، عندما يقول: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا أي: أقيموا حضارة كونية تنفذون من خلالها لكل أرجاء وأقطار هذا الوجود وهذا الكون.

من جملة بنود قوانين الأمم المتحدة المتعلقة بالبيئة والمحافظة على البيئة استخدمت آيات قرآنية وأحاديث نبوية دلت على المحافظة على البيئة، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حملناه أي أن الإنسان وظيفته ليس إفساد البر والبحر، بل وظيفته الانتقال والإعمار عبر البر والبحر، ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، كيف يمكن أن يرتزق الإنسان ويتناول الطيبات والبيئة ملوثة وفاسدة؟!

علاقة الإنسان بأخيه الإنسان: علاقة الإنسان بأخيه الإنسان علاقة حقوقية، الإسلام وضع نظام الحقوق، حقوق الطفل، حقوق المرأة، حقوق الأسرة، حقوق الجار، حقوق المجتمع، حقوق الشعب، حقوق الرئيس. إذا راجعنا رسالة الحقوق التي أبدعها الإمام زين العابدين ، والتي جعلت العلاقات الإنسانية هي علاقات في إطار فلسفة حقوقية، ومنظومة حقوقية، أن لكل شخص حقوقًا مفروضةً عليه، تحافظ بها على كرامته وعلى قيمته الإنسانية، الدين الذي ينادي بالفلسفة الحقوقية كي يكون منهجًا مثاليًا وليس منهجًا واقعيًا؟!

علاقة الإنسان بالله: علاقة الإنسان بما وراء الطبيعة، التي عُبِّر عنها بالعلاقة بالغيب، ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. كثير من إخوتنا العلمانيين أو الحداثيين يرون أن العلاقة بالغيب ليس منهجًا واقعيًا، أي فرق بين الإنسان الذي لا يعترف بالغيب وبين الإنسان الذي يؤمن بالغيب في سلوكه وفي حياته؟! هذا يعيش وذاك يعيش، هذا يقيم علاقات أسرية واجتماعية، وهذا يقيم علاقات أسرية واجتماعية، فما هي ميزة هذا الإنسان الذي تعتبرونه دينيًا على الإنسان الذي تعتبرونه لادينيًا؟! ما هي قيمة الإيمان بالغيب كمنهج واقعي؟

نحن نقول: الآن المجتمع الغربي يعجُّ بمشاكل كثيرة، لا يرى لها حلًّا إلا على أساس العودة إلى الغيب، إلا على أساس العودة إلى القضايا الروحية. مثلًا: كيف نعالج ظاهرة الانتحار في المجتمع الغربي؟ كيف نعالج ظاهرة القلق في المجتمع الغربي؟ كيف نعالج ظاهرة روح الظلم والاعتداء؟ جرائم الاعتداء، ظاهرة الانتحار، ظاهرة القلق، أكثر شيوعًا في المجتمعات المادية، وأكثر سيطرة في المجتمعات المادية المتقدمة تكنولوجيًا من المجتمعات الإسلامية الفقيرة التي تُعَدُّ من دول العالم الثالث أو من الدول النامية، هذا نتيجة أن الإيمان بالغيب يفرض بصماتِه وتأثيرَه على السلوك الإنساني، وليس مجرد منهج مثالي.

المقدم: ولكن سماحة السيد، هذه المشاكل التي ذكرتموها والمآسي التي تضاف إليها المشاكل النفسية، كما عبرتم القلق، توجد في المجتمع المسلم أيضًا المؤمن بالغيب؟

سماحة السيد: ليست نسبة إفرازات هذه المشاكل في المجتمعات الدينية كنسبتها في المجتمعات التكنولوجية، وبعبارة أخرى: نحن الآن عندنا مثالان: المثال الأول: مشكلة القلق والأرق، الإنسان يعيش عصر الخوف، في عصر التكنولوجيا يعيش مشكلة الخوف، الخوف من الحروب، الخوف من السلاح المدمّر، الخوف من الأمراض الخطيرة المنتشرة على مستوى العالم، الخوف من كوارث الطبيعة، أصبح عصر التكنولوجيا الآن مزامنًا لكوارث طبيعية هائلة، هذا القلق ما الذي يعالجه؟ وما الذي يؤمنه؟

الآن صدرت كتابات غربية مختلفة تقول: لا بد من الرجوع إلى الروح، لا بد من الرجوع إلى الجذور الروحية لعلاج ظاهرة القلق، وهذا ما طرحه الإسلام: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، هذا ما طرحه الإسلام في مبدأ التوكل: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، مبدأ التوكل مبدأ حيوي في معالجة ظاهرة بشرية مستفحلة، ألا وهي ظاهرة القلق.

المقدم: هذا القلق، الانتحار، المشاكل النفسية التي يعيشها المجتمع الغربي، هل سببه العلمانية؟

سماحة السيد: لا، ليس سببه العلمانية، ولذلك نحن قلنا... نحن ليست لدينا مشكلة مع العلمانيين، أقول: من يقول بأن الدين منهج مثالي، أقول له: الدين ليس منهجًا مثاليًا، بالدين يعالج مشاكل واقعية، أنت تقول بأن الدين منهج مثالي، أقول: لا، ليس الدين منهجًا مثاليًا؛ لأنه يعالج مشاكل واقعية ومؤثرة وحيوية وفاتكة بالمجتمعات، كظاهرة القلق، وكظاهرة الانتحار.

المقدم: سماحة السيد، هل يمكن أن يصدق أن الدين منهج مثالي والعلمانية منهج واقعي، هل يصدق هذا التعبير على المسيحية نفسها التي حاربت التحضر في ذلك الزمان؟

سماحة السيد: هذا ينطبق - الدين منهج مثالي - على الاتجاه الكنسي الكنهوتي فقط وفقط، وإلا المسيحية بصورة عامة دينٌ يدعو للسلام، دينٌ يدعو للمحبة، وهذه مبادئ وقيم إنسانية عظيمة مؤثرة على السلوك الإنساني، ومؤثرة على العلاقات الإنسانية الحميمة، وليس منهجًا مثاليًا.

المقدم: العلمانيون الذين يرون فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة، يكون العلم هو الذي يدير الحياة ويدير مفاصل الحياة ويسود الحياة منهج علمي تجريبي، ما هو الضير في ذلك؟ ما هي المشكلة؟

سماحة السيد: هذا يحتاج إلى بحث مفصّل ومستقصٍ، أن نتكلم عن فكرة فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن إدارة شؤون الحياة. أنا أريد أن أرجع إلى النقطة السابقة، أقول: الدين يعالج مشاكل فعلية وواقعية، وليس مجرد منهج مثالي. كثير من الأمراض المادية، حتى مرض السرطان الذي هو من أخطر الأمراض، له جذور نفسية، إذا عولجت عولج المرض، كثير من الأمراض ترجع إلى أصول نفسية، ترجع إلى مبادئ نفسية، الكآبة تولّد أمراضًا، العزلة تولّد أمراضًا. إذن، الدين عندما يضع يده على أصول هذه الأمراض النفسية، فهو قد عالج أمراضًا مادية، وأمراضًا بدنية، كثير من الأمراض يقف عندها الميزان الطبي، يقف عندها الميزان المادي، لا علاج لها أبدًا، لا يمكن علاجها، تقف جميع الأدوات التي يستخدمها الطبيب وجميع الأدوية عند حد معين، لا يمكن علاج هذا المرض، ويمكن علاجه من خلال صدقة، أو من خلال صلة رحم.

المقدم: شكرًا، شكرًا، شكرًا سماحة السيد، بالتأكيد البحث لم يكتمل، وإن شاء الله أعزائي المشاهدين سنكمل البحث في حلقة أخرى مع سماحة السيد، هكذا أصل معكم إلى ختام هذه الحلقة من برنامج أفكار وحوار، كان معي كادر متألق: في الإعداد طلال الحسن، وفي الإضاءة والتصوير يحيى الشوكي وعمار الصفار، وفي الصوت حسام المدحجي، تحية من مخرج البرنامج محمد القسّام، تحيتي لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شكرًا سماحة السيد، شكرًا لكم.